أحلام المهدي
رغم عذوبة الصوت وجمال اللحن، إلا أنني لازلت حتى الآن أرى عشرات الجثث تطفو على المياه الجليدية، وأعيش مأساة “جاك وروز” اللذين استكثرت عليهما الحياة ساعات من السعادة كلما سمعت رائعة “سيلين ديون” التي ارتبطت في مخيلتي بتيتانيك، كتلة النور التي ابتلعها المحيط ليتجشأ موتاً وحزناً ترجمته ربما كلمات الأغنية التي استعاضت عن الوجود الفعلي للحبيب برؤيته في الحلم أو الشعور به:
كل ليلة في أحلامي
أراك وأشعر بك
هذه هي الطريقة لأراك
لأني أعلم أنك ذهبت بعيدا
عبر المسافات ورغم المسافات بيننا
قريب أو بعيد أينما أنت موجود
أعتقد أنك في قلبي ولن ترحل عنه
من هنا سأبدأ، فما الذي يجعل لحناً أو موسيقى معينة ترتبط في ذاكرتنا بأحداث مسلسل أو سياق فيلم أو حتى بوجوه ممثلين وممثلات فيهما؟
في الفيلم الشهير “غزو الجنة” الذي أنتِج العام “1992” وكان من بطولة النجم الفرنسي “جيرارد ديباردو”، ستجد ارتباطاً وثيقاً بين موسيقى الفيلم وبين قصته وأحداثه، فالموسيقار اليوناني العظيم “فانجيليس أوديسياس” يجعلك تحلق في الأرض البكر “أميركا” لتكتشفها للمرة الأولى مع موسيقى اعتمد فيها هذا العبقري على التنسيق بين قرع الطبول والأصوات البشرية المختلفة، ما جعل المخيلة تسرح بعيداً حتى ذاك الزمن البسيط جداً والموغل في حشرجات الميلاد الأول، وتختلف هذه الموسيقى كثيراً عن مقطوعته “عربات النار” التي عزفها في إحدى حفلات وكالة “ناسا” لعلوم الفضاء، فتلك مقطوعةٌ “مكّوك”، ومن يستمع إليها سيحلق حتماً إلى الفضاء، لتلمع في عينيه النجوم مثل نار.
ومن عباقرة الموسيقى العالمية أيضاً، يسطع الفرنسي الكبير “موريس جار” الذي ألّف موسيقى فيلمَي “عمر المختار” و”الرسالة”، موسيقى هذا الرجل ساحرة بالمطلق، ولن تخمّن إذا كانت أصابعه هي التي تغزلها أم أن قلبه ينبض بها، ففي موسيقى الرسالة وبعيداً عن الدين الذي يتحدث عنه الفيلم، ستشعر مع الموسيقى أنك تسبح بسلاسة بين السماء والأرض، وأن ما تسمعه “وحيٌ” من نوع آخر.
وفي “عمر المختار” تكاد الموسيقى ترتدي “الجرد” وتمتطي حصاناً لتقاتل ببندقية تشبه بندقية “سيدي عمر”، حتى أنك تشعر بأنها هي من هزمت “غراتسياني” الذي أعجز الأجداد، وتكاد تجزم حقاً أن الموسيقى حاربت مع الليبيين وقهرت جيوش روما.
ومن العالم إلى عباقرة الموسيقى التصويرية في العالم العربي، أو باختصار في مصر وهذا لا يعني أن الدراما لم تزدهر يوما في الأردن أو لبنان أو سوريا، لكن لمسة الشعراء والموسيقيين في مصر أعطت الأعمال الدرامية والسينمائية بعداً آخر وجمالاً مضاعفاً، يجذبنا لنشاهدها كاملة دون أن نفوّت التتر أو المقدمة التي كان يكتب كلماتها ويلحنها عمالقة مثل “سيّد حجاب” و”عمّار الشريعي”، فكيف إذا التقى القمران في عمل واحد مثل “أرابيسك” و”أميرة في عابدين”.
وفي أعمال أخرى كانت المقدمة موسيقى فقط دون كلمات، كما في “رأفت الهجان” للموسيقار عمار الشريعي أيضاً، هي موسيقى فقط، لكنك تشعر وأنت تستمع إليها بأنك تتجول في ردهات “الموساد” وتقابل هناك ضباطاً مُتخفّين من المخابرات المصرية، مع كل ما يعتمل في صدرك من أحاسيس وقتها، وهذا ربما ما جعل الأوبرا النمساوية تعزفها بقيادة العالمي “ديفيد نيومان”.
ومن روائع “الشريعي” أيضاً مقدمة مسلسل “زيزينيا” التي كتب كلماتها الشاعر الكبير “أحمد فؤاد نجم” وغناها الصوت الجميل “محمد الحلو”، هي كلمات مصرية لشاعرٍ مصري، لكن الموسيقى جعلتها تتكلم لغة كل أبطال المسلسل من إنجليز وقريت وخواجات من جنسيات مختلفة، عاشوا على “شط اسكندرية” واختبروا كل المشاعر هناك:
اسكندرية ثاني وآه من العشق ياني
والرمل الزعفراني عالشط الكهرماني
والسحر اللي احتويته والبحر اللي احتواني
وإلى جانب الشريعي، يتألق آخرون لازالت موسيقاهم راسخة في الذاكرة، مثل “ميشيل المصري” في الأيقونة الدرامية وقتها “ليالي الحلمية”، وأيضا في “الحاج متولي”، والموسيقار “ياسر عبد الرحمن” في “المال والبنون”، والكبير “بليغ حمدي” في مسلسل “بوابة الحلواني”، وأيضاً الموسيقار “حسن أبو السعود” في المسلسل الشهير “لن أعيش في جلباب أبي”، وهكذا فإن المقدمات الموسيقية للأعمال السينمائية والدرامية هي أبوابٌ تُحيلنا حتماً إلى ما في الداخل، وتضاعف جمال العمل السينمائي أو الدرامي الذي تترجمه.
_________________