المقالة

آخر مقالات الراحل يوسف القويري (مناقشات خيالية..البنية البدائية)

فجأة، قبل الظُّهْر سافرت الدكتورة ماريا روسليني عالمة الباليونتولوجي إلى روما، وسط أجواءٍ من مرح العلماء الذين أحاطوا بها داخل المطار مودعين ومهنئين بمولد حفيدها، وحينئذٍ تباروا في اختيار أسماء ظريفة له.

وبعدما ارتفعت الطائرة الضخمة وغابت عن الأنظار في الفضاء انصرفت جماعة العلماء إلى ضاحية من ضواحي الإسكندرية ذات النسيم الطلق حيث تقام على شرفهم مأدبة غداء في القاعة الوسطى من يخت سوريال.

وعلى الرمال قرب اليخت الراسي عند أقصى شاطئ المصيف السكندري وقف أسطفان سوريال منتظراً ضيوفه الكبار، وما إن رآهم حتى هرع نحوهم مرحباً، ثم ما لبثوا أن صعدوا جميعاً إلى الطابق الأول من اليخت.

وأخذ الدكتور “سوريال” وهو يرتقي درجات اليخت في أعقاب ضيوفه يبدي الاعتذار من جديد قائلاً:
– من المؤسف أنني لم أتمكن من الذهاب معكم إلى المطار! وكان بودي أن أفعل ذلك، ولكن..
فقاطعه الدكتور “ديميتريوس هارماخيس” العالم الأركيولوجي الكبير قائلاً من أعلى الدرج:
– كانت الدكتورة “ماريا” مبتهجة جداً في المطار. وقالت أنها سوف تحكي عن زيارتها الجميلة وأوقات الإسكندرية السعيدة لابنتها وعائلتها في إيطاليا، وهي مسرورة بالأيام التي مكثتها معنا، وبالنقاش الدائر، وطلبت من البروفيسور “ويليام أودن” أن يطلعها بالإنترنت على بقية الجدل حول مسألة “البنية البدائية” التي أثارتها هي بالاشتراك مع “أودن” ..

واتخذ الجميع مقاعدهم حول مائدة الغداء في الوقت الذي شرع فيه الشغال النوبي في إزاحة ستائر القاعة فغمر ضياء الشمس أرجاء المكان، وانسابت معه أنغام الموسيقا الخافتة.
قال “ويليام أودن” عالم الإنثروبولوجيا” البريطاني وهو يعدل رباط عنقه:
– ذات يوم دعاني رجل أعمال إيطالي لأحد مطاعم “باليرمو” الفاخرة، وهناك بقينا لمدة أربع ساعات كاملة دون أن نبارح المائدة. ولم أشأ إبداء أي استغراب تجاه ذلك السلوك لأنني أعرف أن معظم الإيطاليين يحبون الإسهاب في الحديث حول المائدة، مثلما يحب الإنجليز تجاذب أطراف الحديث مع رشفات شاي ما بعد الطهيرة!
فابتسم “هارماخيس” و”أودن” يسترسل قائلاً:
– ليس رديئاً أن نظل نحن أيضاً حتى المساء حول مائدة الغداء، ونواصل أثناء ذلك حوارنا بشأن البنية البدائية والرق، ما رأيكم!؟
فتهللت أساريرهم وأعربوا عن موافقتهم بغمغمة متساوقة، وعندئذٍ أفصح “أسطفان سوريال”:
– هذا غاية المرام !
وعقَّب “روبنسون كنود” رافعاً كأسه البراق:
– إنه لمناسب جداً أن نبقى بجوار النبيذ وشرائح الشواء!!
ثم انهمكوا في تناول الأطباق الأولى على مَهَل. ومر وقت قبل أن يعلو صوت “ديميتريوس” وهو يداعب الكأس على سطح المنضدة بين راحتيه:
– إني أتساءل الآن، حسبما فهمت من إشارات نقاش البارحة، هل تنوون اعتبار العصر الحجري الحديث نقطة بدء للعبودية في التاريخ؟!، وأخيراً أيحتمل ذلك الطور من البنية البدائية في العصر الحجري الحديث إفرازعلاقات اقتصادية غير مشاعية؟!
فأجاب “ويليام أودن” ببطء:
– يتعذرعلينا أن ننتوي شيئاً مما اشتمله الشطر الأول من تساؤل الدكتور “ديميتريوس”، فالعصر الحجري الحديث لم يطرح قواماً متجانساً من الناحية التي هي مدار نقاش أمس واليوم وربما غداً. وجلي أنني أقصد الرق.
ثم حانت منه التفاتة إلى سفينة كبيرة تتباعد بسرعة في إطا نافدة القاعة حتى لم يعد بادياً منها سوى خط رفيع قصديري اللون فوقه سوارٍ لامعة تغوص رُوَيْدَاً فيما وراء التحدب الأزرق، فتابعوا لهنيهة تطلعاته العابرة ثم عادوا ينظرون إليه من جديد وهو يشبك أصابع يديه مواصلاً الحديث:
– نحن نبحث فقط عما إذا كانت بنية بدائية معينة تحتوي على أي شكل للرق أم لا!؟.. نقول، إن الرق نشأ داخل بنية بدائية في العصر الحجري الحديث، ولا نعني بذلك أن العصر الحجري الحديث إطار للرق ننسب أو – بالأصح – نعزو إليه هذه الظاهرة ثم نتخذه كمصنف تاريخي خاص – في عمومه –  بالنخاسة. هذا لا نجده! ففي ذلك العصر الحجري الحديث كانت هنالك صيغ مختلفة لتوفير القوت وتقسيم العمل خالية من الرق.

قال أسطفان سوريال بلطف فائق:
– أنتم تشربون ببطء، بل لا تشربون بالمرة!!
وتردد قليلاً ثم قال:
– هل تفضلون ماركة  أخرى؟!
فقال روبنسون كنود بعجلة:
– الأنواع جيدة..

وختم تعليقه القصير بابتسامة عريضة في حين أردف ويليام أودن قائلاً:
– الواقع أن العصر الحجري الحديث ذو طيف واسع بالنسبة للجغرافيا البشرية، وقد ضم في أزمنته السحيقة تماثلات هامة عند مقارنة الأدوات المبعثرة على مدى العالم، المنجزات اليدوية الأخرى المؤطرة بمستويات عامة للجودة أو التقنية. كان هذا موحداً تقريباً ومتشابهاً.. متماثلاً إلى الحد الذي تعتبر فيه أمور مثل هذه مقياساً لعصر معين، مثلما كان البرونز علامة فارقة لعصر آخر.
ثم رفت على فمه ابتسامة وهو يجرع كأسه ناظراً إلى أسطفان سوريال، وبعد برهة من الصمت قال:
– لكن العصر الحجري الحديث علاوة على سامته المشتركة وقواسمه العظمى الخاصة به..

فقاطعه أسطفان سوريال قائلاً:
– شأنه شأن العصور الأخرى.
قال أودن:
– نعم! وبالإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه من تماثل فقد احتوى العصر الحجري الحديث بعض المفارقات. وبصدد ذلك كتب “هربرت جورج ويلز” – إن لم تخذلني الذاكرة – فصولاً بديعة اعتمد فيها على كشوفات ومصنفات أهل الاختصاص في الحضارات البائدة وأقوام التجمعات البدائية المعاصرة الغارقة في القدم، فأورد مقارنة بين “مغول” العصر الحجري الحديث و”الآريين” المشتركين معهم في حقبة زمنية واحدة أو عصر واحد، ونعني به طبعاً العصر الحجري الحديث، حيث يذكر أن الشعوب المغولية من مجموعة “الأورال آلتاس” اللغوية كانوا يربون الخيل في سهوب آسيا الوسطى ويستخدمونها مطايا للترحال والحرب وغير ذلك من أغراض، وأن الآريين القدامى ظلت حظائرهم الكبيرة فارغة من الخيل، فلم يكن للخيل عندهم أي وجه من وجوه الانتفاع، في الوقت الذي اكتظت فيه حظائرهم الآرية بقطعان البقر ضمن نظم حيازة مختلفة، وكانت الثيران القوية عوناً عظيماً لهم في جر عربات النقل ذات العجل المصمت على هيئة أقراص، سواء في مضمار الحرب أو الارتحال. ثم فيما بعد أدخلوا الأحصنة كبديل أسرع وأكثر مرونة رغم الأرداف المغولية الثقيلة وضآلة الحجم النسبي آنذاك.

فقال الدكتور ديميتريوس هارماخيس ضاحكاً:
– كان الحصان في عصر “اللبونات” البيوجيولوجي بحجم الكلب تقريباً لا يتجاوز سبعين سنتيمتراً!
فسارع “أودن” يقول:
– لا ! تلك أنواع منقرضة بعيدة العهد عما نتعرض له في حديثنا، وعلى أي حال فقد طور الإغريق جوار جبال مقدونيا في تواريخ أخرى ذلك الحصان الثقيل. ووفق كتابات “جوردن تشايلد” ساهمت الشعوب الأوروبية، وكذلك الأمريكيون – قاطنو الدنيا الجديدة المكتشفة – بتوفير أفضل المراعي قرب الإقليم الصحراوي في شمال أريزونا لاستنباط سلالات غاية في التناسق تشبه سلالات الأحصنة اليونانية والفرنسية المطورة بل تفوقها. وقد وصل الحصان المغولي ذو الردف الثقيل إلى البربر سكان شمال إفريقيا، حتى أنه حمل اسمهم “بارباري هورس” بذات الكفل الثقيل أو الـ “بارب”.

وتنهد “أودن” ثم مكث لبرهة واجماً، فقال “هارماخيس” مستفسراً:
– أرجو أن لا نكون قد أرهقناك بالحديث دكتور ويليام؟
فأجاب “أودن” يحيوية:
– ليس هذا ما اعتراني ! لا! إنما أفكر في ضرورة اختزال ما أسوقه عن الأحصنة، لا أريد أن أتفرع إلا بالقدر الذي أوضح به المفارقات داخل عصر محدد.
عندئذ، انبرى “سوريال” قائلاً:
– لكنه موضوع شَيِّق، فلم لا نتفرغ ما دام المجرى العام للحديث يزداد اكتنازاً بروافده!؟
ثم مَرَّ سريعاً على جبهته بأطراف أصابعه وقال:
– كان ثمن المقايضة للحصان الواحد في القرن الخامس عشر ميلادي يساوي ثمانية عشر زنجياً من الرقيق!!

وعقب روبنسون:
– إننا سعداء بالإصغاء.
ثم انفجر الجميع بالضحك عندما صاح “هارماخيس” مازحاً يقول لـ”ويليام أودن” :
– أنت لم تَعْدُ بعيداً عن الموضوع بجيادك المغولية!

فواصل الدكتور “ويليام أودن” قائلاً:
– لقد افتقدت حضور الدكتورة “ماريا روسيلني” كانت ستبدي نفس ملاحظتي عن الانسياق في مسارب فرعية. ومهما يكن الأمر فإن أصل الخيول المعاصرة كما هو معروف، بل أصل كل خيول الدنيا ليس من بقاع المغول قَطّ، فقد جاء الحصان إلى منغوليا القديمة من صحراء “غوبي” في الصين، بواقع أنه تمَّ استئناس تلك الدابة قبلهم. وتُعَيِّن الأحافير ونصوص ملحمة “جلجامش” سياق العهد السومري تاريخياً مرجحاً انتشر فيه الحصان للمرة الأولى في الشرق الأدنى والأوسط باستثناء مصر، فهي أقدم من استخدم الأحصنة في المنطقة. وقد وردت الإشارات إلى ذلك في الآثار الفرعونية.

فقال الدكتور ديميتريوس مُعاجلاً:
– أظهرت النقوش الأثرية الفرعونية البارزة حصانين جميلين يجران عربة رمسيس الثاني الحربية، وفي تاريخ أقدم من تلك النقوش تناولت “الإلياذة” مدينة “طيبا” عاصمة مصر الجنوبية قبل الوحدة الوطنية في عهد الملك “مينا” منذ خمسة آلاف وخمسمائة سنة، وألمحت إلى جياد العربات الفخمة الخارجة لتوها عبر مائة باب ضخم في أسوار المدينة العظيمة.

واسترسل “أودن” يقول:
– ووصل الحصان إلى بلاد الإغريق والرمان من شمال البحر الأسود وبحر قزوين. ثم هيأت مراعي اليونان وإيطاليا في قديم الزمان أثناء العصر”النيوليثي” ظهور سلالات أرقى وأكبر من الأحصنة الغوبية الصغيرة. وعموماً – كما ذكرنا – فنحن نلاقي المفارقات على مستوى القطعان المستأنسة، ونوع القطعان التي أفلحت أقوام العصر الحجري الحديث في تربيتها وحيازتها داخل حظائر، كذلك الأشكال المتباينة في الاستخدام للحرب والنقل والرحيل، ونظم ملكية القطعان، والأرض، وأدوات الإنتاج في العصر الحجري الحديث بالذات. أقول إن هذه النقاط الأخيرة ستساعد في إيضاح الكثير من معالم البنية البدائية. وقد أجبت بتفصيل عن الشطر الأول من تساؤل الدكتور ديميتريوس، وآن لي ولكم أن نتحاور حول الشطر الثاني من تساؤله ذي الشقين الذي ورد في بداية جلستنا.

قال “أسطفان سوريال” بهدوء وتؤدة:
– نعم هذا ضروري للغاية.
ولاحت على وجه “أودن” أمارات جدية وهو يقول بصوته ذي الرنة المدرسية:
– سوف نحاول أن نقتنص غداً الرق من ثنايا البنية البدائية ذات الطابع المشاعي، وسوف نتبين جميعاً أن ذلك قد حدث في ماضي الدهور.

___________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

نوستولجيا مشوّهة

عبدالحكيم كشاد

من كواليس عمر المختار

المشرف العام

ســتــــــوب

المشرف العام

اترك تعليق