بقلم وعدسة: زياد جيوسي
ما إن أنهينا الإفطار واحتسينا القهوة حتى بدأنا التجوال في رفيديا التراثية أو ما تبقى منها، فهذه الضاحية هي الغربية من مدينة نابلس وهي بالأصل حسب المصادر التاريخية كانت قرية رومانية محاطة بالأسوار، وهي ذات مساحة جيدة زراعية، وكان لها بوابة في سورها ومدخل رئيس يدخل منه السكان ويخرجون، لكنها تطورت كثيرا بعد أن انضمت لبلدية نابلس في عهد الأردن قبل الاحتلال في عام 1966، ففيها الآن جامعة النجاح الوطنية ومشفى رفيديا والعديد من المواقع التراثية والقصور الجميلة والتي سيكون عنها حديث لاحق. تجولت برفقة مضيفتي د.لينا الشخشير في رفيديا التراثية والتي تعرف “رفيديا البلد”، فرفيديا الحديثة سرت فيها على أقدامي في زيارة سابقة كنت مدعوا فيها للقاء في فضائية النجاح من بوابة الجامعة حتى وسط المدينة.
تأملت ووثقت عدستي هذه المباني التراثية، وبكل أسف أنه لم يحافظ على البلدة القديمة جيدا، فكثير من الأبنية التراثية هدمت، وقسم مماتبقى بني فوقه بشكل شوه شكله، والقليل جدا ما جرى ترميمه والاهتمام به، واهتمت د. لينا أن أرى أهم المباني التي ما زالت تحافظ على أصالتها سواء رممت أم لم ترمم، ولفت نظري أن نمط البناء التراثي بشكل عام هو الشكل المربع والنوافذ المستطيلة مع أقواس على شكل نصف دائرة في أعلاها، وأيضا سماكة الجدران نوعا ما، إضافة إلى أني لم أشاهد إلا قلة من البيوت المبنية على نظام العقود المتصالبة والقباب أعلاها، فمعظم الأبنية اعتمدت على الأسقف بالعوارض المعدنية وليس بالعقود، والعديد من الأبنية أيضا اعتمد نظام النوافذ الطولية لكن دون أقواس، وإن بقيت بعض البيوتات ذات الأبواب بالنظام التراثي حيث تعلوها الأقواس.
كما هو معتاد في بلادنا لم تخلُ رفيديا من نصبٍ للشهداء من أبنائها، ففي قلب البلدة التراثية وأمام مبنى ذي مساحة جيدة تعرض للقصف من الاحتلال سابقا، يوجد نصب عبارة عن صخرة نحتت على شكل قريب من خارطة فلسطين نقشت عليها أسماء الشهداء ، وهنا لا بد من إشارة إلى بلدية نابلس بضرورة إعادة تلوين أسماء الشهداء سواء في رفيديا أو في البلدة القديمة إكراما لهم، فالشهداء أكرم منا جميعا، فقد لاحظت أنه مع تأثيرات الزمن والجو قد زال الطلاء أو تآكل عن أسماء الشهداء، فهمست لمضيفتي د. لينا شخشير: هذا لا يجوز فهؤلاء الأبطال من قالت عنهم الشاعرة ابنة ناصرة الجليل وعاشقة القدس إيمان مصاروة: ” هنا قومٌ شدادُ الفعلِ شــادوا.. صروحَ العزِّ بالدمِ والعتــادِ/ بنابلسَ الجبـــالُ عقدنَ بوحاً.. علياً في مرامِ الفعلِ شــــادي/ بها الشهداءُ ألـــويةٌ تعـــالتْ.. فقضَ الموتَ موروثُ الجــهادِ/ وزغردَ في أزقتـــها رصاصٌ.. بـــهِ المرُّ المحنظلُ بالــزنــــادِ”.
أكملنا المسير باتجاه مركز أوتار للإبداع الفني والثقافي وفي الطريق إليه شاهدت أحد الحمامات التي تشتهر نابلس بها، والذي تم إنشاؤه في مبنى تراثي قديم، لكنه كان محجوزا لمناسبة ما أو أنه من الأيام المخصصة للنساء فلم يتح لي الدخول والتجوال فيه وتصويره من الداخل، فأكملنا المسير مسافة قصيرة حتى وصلنا الساحة أمام مركز أوتار، وهناك شاهدت العديد من الفنانين والفنانات الشباب يرسمون جدارية ولوحات أخرى، فرحبوا بنا ودخلنا إلى المركز حيث استقبلنا مديره الأستاذ سلام قاعود بكل ترحاب، ومع فنجان القهوة حدثنا عن نشاطات المركز التي تهتم بالموسيقى والفن التشكيلي إضافة إلى ورشات عمل بهذا الخصوص، وإقامة معارض وتدريب الصغار والشباب على الموسيقى والفن التشكيلي، وأشار أن اهتمام الجمهور بهذه المعارض والمناسبات موسمية وخاصة في الصيف، لكن باقي العام يشهد اهتمام طلاب جامعة النجاح الوطنية.
المبنى تراثي ويحتوي على معصرة زيتون تاريخية وتراثية، فهو بيت مكون من طبقتين على مستوى الشارع من الحجارة المتميزة، بوابته مرتفعة وذات قوس حجري أنيق في أعلاها وبداخلها بوابة أخرى هي المدخل وهي بالحجم الطبيعي وأعلاها نافذة دائرية صغيرة، ولاحظت أن هناك حجرين مزالين في القوس الداخلي ولعلها حجارة تحطمت بفعل فاعل أو كانت تحمل رسما أو عبارات فسرقت، والمبنى قائم بكل أجزائه على نظام العقود المتصالبة التي اشتهرت بها فلسطين عامة ومنطقة نابلس خاصة، وواجهة المبنى تخلو من النوافذ إلا من نافذة واحدة مرتفعة وصغيرة كنوع من أنواع الحماية، والجدار الجانبي فيه نافذتان مرتفعتان بشكل مستطيل طولي، بينما الطابق الأعلى نوافذه أكبر مساحة وهي بشكل طولي مع أقواس بأعلاها، فدخلنا من البوابة إلى فناء جميل ومرتفع وفيه درج حجري يصعد للأعلى، وقوس مرمم مع بوابة زجاجية للدخول منه لقاعة أخرى ودرج النزول الحجري لمعصرة الزيتون، وعلى الجدار بجوار البوابة صور مكبرة لشعراء نابلس إبراهيم وفدوى طوقان مع مقاطع من أشعارهما، وعلى البوابة الزجاجية أيضا 3 ملصقات منها ملصقان يحملان صور الشعراء محمود درويش وسميح القاسم مع بعض من أشعارهما، فدلفنا إلى الداخل حيث نزلنا على درج حجري للمعصرة التي أصبحت تحمل اسم “ديوان سميح القاسم”.
في هذه القاعة شاهدت كل آثار معصرة الزيتون من دولاب حجري ضخم كان يستخدم لعصر الزيتون على قاعدة حجرية دائرية ضخمة، وجذوع الأشجار التي كانت تستخدم من أجل ذلك، وصولا إلى القاعدة الحجرية التي كان يصفى الزيت عليها قبل أن ينحدر باتجاه بئر حجري للزيت، إضافة إلى آلة معدنية لاحقة التاريخ والاستخدام والتي كانت تستخدم لتصفية باقي الزيت بالضغط من بقايا الزيتون، ووضع البقايا “الجفت” في أكياس دائرية خاصة قبل نقلها واستخدامها للوقود في الشتاء وللطوابين والأفران، وعلى الجانب الآخر من القاعة أسست قاعة محاضرات وندوات، وعلى الجدران صور مختلفة للشاعر سميح القاسم، فهل أجمل من ندوة في قاعة تحمل عبق الشعر والثقافة والتاريخ والتراث وحكايات من سبقونا؟
كان البيت مهجورا منذ عام 1967 لأن ملاكه من الورثة في الأردن ولا يتمكنون من الإقامة في الوطن، فتم الإتفاق معهم عام 2013 على ترميم المبنى من قبل مؤسسة تعاون وبدعم من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، واستغلاله لمدة 18 عاما للمركزمقابل الترميم، وبعد انقضاء الفترة يتم التأجير أو التسليم للمبنى، وهناك إشارات تشير إلى أن هذا المبنى أصلا أقيم على موقع عثر فيه على بقايا آثارات تعود إلى 1400 عام، فكان استمرارية لذلك التاريخ وفيه أحد أقدم معصرة زيتون (بَد) حجرية في المنطقة، وحين تجول بنا الأستاذ سلام قاعود في أنحاء المبنى شعرت بالفرح الكبير، فما بين همسات الأجداد والجدات الذين تركوا لنا هذا التراث، وما بين البراعم والزهرات الذين يخطون بالعزف والريشة صرح حضاري وثقافي وفني، حلقت روحي كما طائر العودة الذي سيحلق ذات فجر حرية، فصعدنا للأعلى وأنا بحالة وجدانية طاغية لأشاهد طفلا وطفلة في حصة موسيقى مع مدرستهم، وعزف لنا الطفل مقطوعة على آلة البيانو، فحضنته بعدها بمحبة، واتجهنا للمرسم حيث شاهدت إبداعات الجيل الشاب من الفنانين الذين يشقون طريقهم من أجل غد أجمل.
رفيديا بالأصل قرية كان يدين أهلها العرب بالديانة المسيحية، ويقال أنه تم إنشاؤها من قبل ثلاثة إخوة قدموا من الكرك، ثم سكنها المسلمون أيضا لاحقا وكانت مثالا راقيا للإخوة والتعايش بين أبناء الدم الواحد بغض النظر عن الديانات، ومن هنا لا بد من الحديث بسرعة عن سبب تسميتها، حيث هناك روايات عدة، ومنها أن الاسم جاء لكثرة روافد وعيون الماء فيها ومنها: عين الماء، رفيديا، الصبيان، السلامة، البصة، عويضة، الشرقية، وقد يكون هناك أكثر من اسم لعين ماء واحدة، بينما يشير المؤرخ الفلسطيني مصطفى الدباغ أن الاسم يعود لجذر ساميّ معناه “كمن أو زحف”، ويرجح أن الاسم يعود لقبيلة رفيدة أو بني رفيدة العربية القحطانية وأنها نزلت في هذه المنطقة وخلدت اسمها، بينما هناك حكايتان شعبيتان أيضا للاسم وهو ينسبها إلى فتاة اسمها رفيدة قتلها إخوتها لقضية شرف وتبين لهم أنها بريئة فندموا فحمل المكان اسمها، والأخوة الثلاثة هم من أسس رفيديا، وحكاية أخرى تقول أن الفتاة رفيدة عشقها أحد شيوخ العشائر شرق الأردن فهرب بها إخوتها إلى نابلس ودخلوا مستجيرين على أحد المشايخ الذي أسكنهم بعد الضيافة في رفيديا، ولكن تمكن الشيخ العاشق من الوصول إليهم وجرت معركة بينه وبين إخوة رفيدة، فطلبت من إخوتها أن يقتلوها حتى لا تقع بيد الشيخ، فحمل المكان اسمها بعد مقتلها ونشأت البلدة من أبناء الإخوة الثلاثة، ولكني أميل إلى توثيق الدباغ أكثر، فحكاية رفيدة الفتاة المعشوقة من الشيخ الكركي تروي تقريبا نفس حكاية راشد الحدادين الذي أنشأ رام الله وأحياها بعد أن كانت خربة.
غادرنا المركز حيث تحدثت قليلا مع الفنانين والفنانات الشباب في الساحة، وكنت أنظر إلى مقابل المركز حيث مبنى تراثي أعتقد أنه مهجور، سمعت أنه كانت تسكنه ثلاث نساء كبيرات في العمر إحداهن خياطة، لنتجه من هناك إلى نابلس التراثية وأنا أهمس لمرافقتي د.لينا: كم سأتعبك معي بالجولات النابلسية، فهمست: سنرى من سيتعب أولا.. وضحكنا، ووصلنا لأحد بوابات نابلس التراثية، حيث ركنت د. لينا سيارتها مقابل أحد المداخل الخلفية لنابلس القديمة مقابل مسجد الخضرة، حيث ستبدأ رحلتنا في عالم آخر من جمال وتاريخ وتراث وأساطير نابلس في الحلقة القادمة من بوح الأمكنة.
“جيوس 15/2/2018”