الطاهر عريفة
عند مجموعة الشعراء الشباب أولئك الذين ظهروا في الثمانينات فرج العربي، وفرج العشة، ومفتاح العماري، ومحمد الكيش، ومحمد المسلاتي، وأسماء الطرابلسي، ومحمد إسماعيل الشريف، وعمر أبو شريدة. عند هؤلاء الوطن هو الأغنية. والهموم القومية للإنسان العربي هي المعاناة اليومية للشاعر، وقضية الحرية تظل على رأس الأولويات. عذابات الناس، أحزانهم، آلامهم وآمالهم هي قيثارة الشعر وسلم القصيدة، ذات الكاتب، مشاعره، إرهاصاته تظل حاضرة. البيان التحريضي دائماً مغّلف باللواعج والأحزان النفسية. اللهجة فيه تبتعد عن المباشرة وتتحول الكلمة إلى معاناة صوفية وليس إلى فعل .
في مجموعة ((للحب خواطر أدبية لمحمد المسلاتي)) نرى القصيدة تتحول إلى قصة قصيرة، والقصة تتحول إلى قصيدة نثرية بارعة التصوير والدلالة. أفكار الكاتب أو الشاعر إن صح التعبير مفعمة بالأماني والأحلام وكذلك بالآهات، ما يريد الشاعر قوله يتلخص في كلمة ((حب)) التي لا يتعامل بها الناس حسب اعتقاد هذا الشاعر إلاّ فيما ندر. حياة الناس من هذا المنظور تظل قبيحة ومعتمة، يقول في خاطرة له بعنوان ((الحب)):
يموت الحب في أعماقك
تدفنه فجأة
وتبدو الأشياء باهتة في عينيك
لا شئ يجذب انتباهك في هذه الحياة
لأن الحب مات
وأنت تنظر إلى العالم من نظارة
قاتمه
كل الناس
كل العواطف
كل المشاعر الوردية بالنسبة إليك
لا تعني شيئاً
حتى الكلمات التي تستعملها في
يومك تغدو
مجرد حوار جاف يخرج من بين
شفتيك
فيما تحس أن الألفاظ صارت
قشوراً يابسة، لأنك
من دون الحب جثة ميته
جيل الشعراء الشباب تأثّر بالمدرسة الرمزية في المشرق العربي عند أدونيس، ومحمد الماغوط، وبول شاؤول. الأقنعة والرموز، الهروب من قيود القصيدة، والتنكر للبحور في أحيان كثيرة هو ما يجعل القصيدة أقرب إلى النثر الفني منها إلى الممارسة الشعرية. أما عند من سلك منهم طريقة الوزن واتخذ منه سلماً تصعد عليه القصيدة وتهبط فإنه اعتمد على التقريرية والمباشرة والخطاب التحريضي.
يتساءل عمر أبو شريدة في قصيدة كتبها سنة 1986 م. بمدينة سبها بعنوان ((حالة انتظار)) كما يلي:
هل يبقى الراكع أبداً راكعا
هل يبقى الليل ظلاماً أبديا
نسي الجلاد بأن الشمس
ستشرق رغم ظلام الليل الدامس
وأن الأخضر يزحف رغم القحط
ليصنع مجداً للفقراء
قصائد هذه المرحلة تلتقي في شيء واحد هو الرفض والإدانة. لكنها تجنح في بعض الأحيان إلى الاغتراب، إلى المدن المعتمة والمرافئ الخالية، إلى الضياع والتهكم والسخرية، وإن كانت دائمأً تلوح بارقة أمل. المقدرة التعبيرية والجمالية تختلف من شإعر إلى شاعر على حسب ثقافة الشاعر وقوة اللغة التي يستعملها.
المرأة عند هؤلاء هي الرمز، الوطن، وفي بعض الأحيان الحرية، وفي أحيان كثيرة الأمن والسلام. فرج العربي وهو أحد شعراء هذه المرحلة ألقى قصيدة في ملتقى يونيو للأدب المقاتل في طرابلس سنة 1981 م. بعنوان (( إلى الحبلى في موسم الخصب والنماء)) ضمّنها حبه للحرية كما يلي:
أمام عيوننا المشرعة كالنوافذ
أمام وجوهنا المفروشة بالرصاص والشمس
حيث تنتفض رمال المرافئ كالأتربة تحت أحذية الجنود.
ألمحك تولدين
كصبيّة يلفظها زبد البحر
وتتوهجين كمنارة المرفأ لسفن موعودة
بلقياك
حين يلتصق الفقراء بالشمس
وتكون العصافير ملئ الهواء
ألمحك تطّلين كوجه نبي مفقود
وتلوّحين بأصابعك القلقة
كأشرعة قوارب الصيد عند المساء
عندما ألمحك وحيدة غافية كطفلة
في حضن الشمس
أعلن الرحيل إليك([1]) .
في شعر عبد اللطيف المسلاتي، وأسماء الطرابلسي. الشعر يختلط بالنثر، ويرتد المنثور إلى الأنا، إلى الفرد. اهتمامات الشاعر، الوطن، الحرية، الرفض والثورة. الأقنعة الاجتماعية كلها تنبع من ((الأنا))، من الذات المدركة ومن إحساسات الشاعر النفسية المرهفة، كل شيء هنا يتحول إلى تجربة معاشة، وتجربة إبداع حقيقي، القوة التعبيرية مغلّفة بإحساسات الشاعر، بآهاته، وباللحظة التي يتحدث عنها ويكتب إليها.
تقنيات الشعر تتفاوت من شاعر إلى شاعر، بعضهم يضطر إلى استعارة الرمز، الأقنعة ويسير بالقصيدة وسط عباب البحور الشعرية. وبعضهم الآخر يلجأ إلى المباشرة، تحس في أحيان كثيرة ((بسوريالية)) في استعمال هذه اللوحات. وفي بعض الأحيان تحس بالواقعية. الالتزام لا يغيب عن أجواء القصيدة النثرية لكن هذا الالتزام ممزوج بالتمرّد. الحوار في القصيدة النثرية يأخذ مجراه على هيئة تناغم داخلي بين ((الأنا)) والموضوع حتى لتشعر في بعض الأحيان أن ثمة مناجاة بين الاثنين. غير أن ((الأنا)) تعلن عن نفسها في عناد وإصرار مطالبة بتجسيد الحلم في الحرية والثورة والرفض. في قصيدة ((ثمن الحرية)) لعبد اللطيف المسلاتي والتي نشرت في مجلة الفصول الأربعة عدد سبتمبر 1981م يتساءل الشاعر:
نحن
من نحن؟
أشباه رجال، خصيان ملوك
أم بشر نحن
من يسأل يسأل فلا يخطئ
من يقرأ خاتمة اللوح
يطالع كشفاً للمجهول
مهزوم من لا يكتب
أن الثورة حق..
وأن لا أحد غير الرب إلاهك
الحرية أنت
وأن الموت ليس الموت
الموت أن تبقى
حذاءً
قبعةً
قميصاً بلا لون،
الحرية أن لا أحد يشبهك
الحرية أنت
إذا كان عبداللطيف المسلاتي يدعو إلى تأكيد ((الأنا) في مقابل الغير، وتحقيق آدمية الإنسان بتوكيد حقه في الحرية وعشقه للثورة، فإن أديبة شابة هي أسماء الطرابلسي ترى الدنيا من خلال عينيين يملؤها التفاؤل، في قصيدتها النثرية التي نشرت في الفصول الأربعة عدد سبتمبر 1981 م. نحن أما تجربة شعرية وشعورية جيدة. التعبير هنا يرتد إلى ((الأنا)) ليحتوي الموضوع ويجسِّده. الكلمة هنا لها مذاق خاص، ونبض مميز، ونسيج فريد. تقول في المفكرة:
اليوم الأول:
كتبت خطاباً لك
وأعدت قراءته
خبأته بين طيات ظرف بريدي
وألصقت عليه طابعاً بريدياً
ولكنّي لا أعرف اسمك
ولا عنوانك!!
اليوم الثاني:
حملت خطابي
وذهبت لمبنى البريد
توقفت برهة
لأتأكد من ان أحداً لا يراقبني
وبيد مرتعشة وضعت خطاباً! …
بلا اسم ولا عنوان
اليوم الخامس عشر:
هل تصدق؟
اليوم وصلني ردك!!!
وتحتوي مفكرة أسماء الطرابلسي على جملة من النماذج النثرية الجميلة في مثل قولها:
جلس ليقرأ لي فنجاني
وباهتمام جلست أستمع إليه
سمعته يقول: هناك حب جديد!
لا أدري
هل قرأه في فنجاني؟
أم في عيني؟!
ومن هذه القطع المملوءة عاطفة وشعور بالمحبة كتبت أسماء:
فوق ملعب من الورق الأبيض
تركت قلمي يركض وعنانه على
عنقه
وعندما توقفت !!!
كان وجهك يبتسم لي
لأنه رأى الشوق في عينيك
ولأن اهتمامك بي ((كالحمل)) لا يمكن إخفاؤه
قال لي بصوت هامس!
لن تغربي عن ذاكرة هذا الرجل!
ولأني أعرف أن شمسي ستظل
عالقة بسماء ذاكرتك..
انتفض عصفور قلبي… وصفق بجناحيه
____________________________________________________
([1]) – مجلة الفصول الأربعة – العدد 15 السنة الرابعة – سبتمبر 1981 افرنجي – ص 178.