محاولة أبعد عن التجنيس..
قراءة في مجموعة (أنفاس) للشاعر/مفتاح ميلود.
1. محاولة للدخول..
لا نستطيع أن ننكر ما قررتهُ الحداثة من ثورة في التعامل مع النص، أو مع الأدب عامة.. فالقد خرجت بها من أطر التحديدات الضيقة إلى الأكثر حرية، أو الأكثر بعداً عن التأطير، وإن كانت الحداثة في أحد تعريفتها: (هي الخروج)، وبمقولة “بودلير”: (الحداثة زمن يتفتت)، لأدركنا الكثير من لَبس المشروعات وشبهتها، وأوجهها الكثيرة التي صارت تمثلها، حتى إننا صرنا نبحث خلف القناع عن الوجه الذي نريد، وعندما كان الشعر (هوية الغموض) كانت الرموز في أوجِ قوتها وطغيانها، ولم يعتذر الشعراء (وما زالوا) عن حجم الغموض الذي يغلف قصائدهم سواء كان بقصد أم بلا.. حتى عُد الشعر والشاعر هوية المبهم.. في هذه المنطقة أنحسر مد الشعر كوهج، كبيرق يستطيع أن يخطف الأبصار، وصرنا نسمع أن الزمن للرواية وأنها (ديوان العرب)، وإن كانت هذه المقولة- مقولة إحلالية، إلا إنها بأي حال من الأحوال كانت تؤرخ للفترة التي ربما لم يعد فيها الشعر يمثل الوجه, وصار من المقبول الحديث عن (موت المتلقي) أو نهايته، والفرح بالكتابة خارج دائرة التلقي..
نحن لا نبالغ بمثل هذا التقديم، بقدر ما نحاول رصد آليات الدخول للنص، النص.. حيث أننا ننجح بهذا المفردة لتفادي الكثير من المشكلات والاعتراضات: (هذا شعر.. هذه قصة).. وإن كانت مقولة “بودلير” حاولت أو رصدت زمن الحداثة بالتفتت، حيث تتحول المُكَوَّنات أو الهياكل إلى أجزاء تتشابه في أشكالها.. فإن ما بعد الحداثة: (هي حالة من فقدان المركزية، ومن التشعب، نُساق فيها من مكان إلى مكان، عبر سلسلة متصلة من السطوح العاكسة كالمرايا المتقابلة تجذبنا صرخةُ الدَّالِ المجنون) كما يقول “هيبدايج”.. صار من الممكن العثور على المركز، أو أن يكون ذاته مركزاً، إنه زمن التأثيرات، وسباق من يخطف الأبصار أولاً، والرابح من يعمي الأبصار بإضاءته حتى الاصطدام بأول مرآة، حتى ليخيل أن كل المرايا دروب، أو مرآة واحدة.. وحتى في هكذا حالة من المفترض أن لا يُعتمد فيها على شكل مّا، أو خارطة للوصل، تسعى التنظيرات للحصر ومحاولة اللَمْلَمة، والتحديد، لكنها تنجح في منح العام دون التفاصيل، معالمه كون من نقطة الراصد يمكن متابعته، وإدراك آليات عمله الخارجية، وكان (النص).. النص هو أحد نتاجات محاولة التوصيف، محاولة التوصيف التي فاجئ بها النص الخاصة، الخاصة من منظرين، وراصدين، قبل أن يلتبس بالشبهة على العامة، العامة من متلقين ومستقبلين (فقط).
2. الدخــول..
ولعلنا وصلنا إلى نقطة يمكننا الانطلاق منها، ناحية الدرب الذي نريد، مخـترقين زحمة المرايا وهوائيات التأثير الكثيرة، ولن نتكئ على (النص) للمقاربة، بقدر ما تحاول جملة العنوان تحديده (حدود الشعر، حدود القصة) رغم أن الصعب في ذاته إمكانية التحديد ذاتها.. وباتجاه التحديد، فإن (أنفـاس)* المجموعة الشعرية الأولى للشاعر/مفتاح ميلود، ستكون محلّ العبور.. محاولين من خلالها إرغام النص على التجنيس باتجاه الشعر، أو باتجاه القصة.. إننا نحاول هنا التحديد (وإن كان صعباً) بغية الوقوف في المنطقة الوسط (وإن كنا نخشى ألا نستطيع).
3. الدخول أكـثر..
يقول: نص/أنفاس1:
لم يشف غليل البوم
حين جفت الآبار،
إلا عشٌ في الدّلوْ..
* *
نكاية في زهرة
على كتف الصبار،
أنبت الحجر شجرة..
الشعر مغامرة (والإبداع في مطلقه مغامرة).. ولا نستطيع أن ننكر هذه الروح، عن الشاعر سارق النار، ولا عن الشاعر الفارس، ولا عنه تحت شباك حبيبته.. الشعر يبدأ من نقطته هو، من نقطة يجدها في الشاعر تفجرت، ويتعاون المـاحول في إعداد هذه النقطة، وصياغتها ومنحها كي تكون، وقد توجهها.. ومن البديهي أن يكون الشعر في البعضِ من المنطقة القريبة، أو منطقة التماس المباشر: اليومي/المعاش، الملتقط/سماع-مشاهدة… هذه المنطقة القريبة جداً منطقة التماس المباشر هي أكثر المناطق توتراً وتفاعلاً اعتماداً على الشاعر، فإما تكون عالية، وبذا تكون قريبة، وإما منخفضة فتكون بعيدة عنه باتجاه المطلق.. ومن هذا القرب (نسبة الابتعاد والاقتراب) يتوكأ الشاعر على هذا التماس المباشر الأكثر حضوراً في نصه.. وفي هذه المجموعة (أنفاس) يظهر بجلاء هذا الحضور القريب لمنطقة المشاهدة، ولعل الجزء الكبير من هذه المجموعة متعلق بالمنطقة القريبة من الشاعر منطقة التماس التي كانت قريبة حتى كانت (أنفاس) عنواناً لهذه الالتقاطات.
هذا وأول ما يصادف هذه الالتقاطات هي جاهزيتها، وحضورها الطاغي، خاصة في حالته البكر، وهو بالتالي يفترض المباشرة كنوعٍ من أمانة النقل، وهي ضريبة تسقط بالاشتغال.. هذا الاشتغال وفي هذه المجموعة نراه يعمل على مخاتلة الرؤية (فعل الرؤية/ الإرَاءَة) بالرؤيا (فعل الحلم/الخيال).. فهو يعتمد الالتقاط البصري من باب المفارقة، كونها: غريبة- لا تحدث- مغايرة للمحيط- تخالف القاعدة، ومن ثم يعمل بالاشتغال عليها.. ولو نظرنا للمقطع السابق لوقفنا على هذا الشكل.
فالمفارقة: صنعتها البومة باتخاذها من الدلو سكناً لها، غرابة هذا الوضع أو هذه الحالة.. وكانت صنعة الخيال: تخلي الدلو عن ممارسة مهمته في الحصول على الماء.. مما عنى بالضرورة كنتيجة أن تكون البئر جفت لتُهْمَل الدلو فتـتخذها البومة سكنها، فتشفي غليل حضورها -أي الدلو- الذي كان.. الثقافة الشعبية تؤكد أن البومة لا تسكن إلا الخرائب والأماكن المهملة البعيدة، فيكون شفاء غليلها (المجزومة) هو هذا السكن.. وبمثل هذه المقاربة يمكننا أن نقرأ المقطع الثاني.
الالتقاط هو أحد معايـير البحث في المكان والتعلق بموجوداته، حيث يعكس تحققها قرب المكان أكثر، في غياب إي معنى لأي من وسائل التواصل الروحي، التي بدأت تفقد شكلها الذي كان، في تفتت العلاقة الإنسانية وشكلها، وهي تدخل عالماً جديداً تتخلى فيه عن أسطورتها وكل حكاياتها التي كانت، صوب ما يتحقق في اليوم (القصة اليومية/الشغل اليومي)، والشاعر لا ينفصل عن هذه الدائرة بقدر ما يغوص فيها، فحضور المكان حضورٌ طاغ، فالشخوص التي يتداخل معها النص هي شخوص المكان التي تمنحه كل انفعالات أحداثه.. يقول:
نص/ القمر2:
أنجب القمر حلماً وردياً
تشممه الناس
خلدوا لنومٍ عميق
أفاق الفجر، ولم يُفق أحد
قيد الحلم بخيوطٍ رفيعه
أقسم متثائباً
أن لا يفك أسره حتى يستيقظوا
ولا زالت الشمس تشرق..
… … …
4- الدخول أكـثر..
في ليبيا كانت قصيدة النثر أحد أهم العلامات المهمة في التجربة الشعرية، خاصة وإنها تعلقت باليومي المعاش، فتحولت سريعاً من مرحلة الصوت الناهض (الشاعر سارق النار)3، إلى مرحلة المعايشة اليومية ومعاشرة الذات، أو الذات كوناً مستقلاً.. مغامرة قصيدة النثر في ليبيا لم تخل من الكثير، وظلت في الكثير صورة للمنجز الأساس في المشرق.. لكن تعويلها الأكثر والأهم هو اقترابها من الذات، ومن المعاش لمسافة جدُّ قريبة، حتى غدت قصيدة النثر صوت الذات أو ذاته (هذا لا يمثل التجربة المحلية فقط)، فبعيداً عن غنائية التفـعيلة الجاهزة حاول الشعراء رصْد إيقاع الحياة المتواتر بإيقاعٍ موازي لا يقبل الجاهزية.. وأمام هذه الجاهزية أقـنـعت نفسها بأنها قادرة على المواجهة بفضل طاقة الشعر التي تحملها.. وحيث المجال لا يسع للكثير من البحث في قصيدة النثر هنا، نعود لموضوعنا الأساس في (أنفاس) مجموعة الشاعر/مفتاح ميلود، ومحاولة التحديد التي نبغيها من خلال هذه الأسطر.. وبعيداً عن المقدمات ( وإن كانت في الكثير ضرورية) سنبدأ قراءتنا مباشرة.
لعل مما يلف إليه الانتباه في هذه المجموعة (وتحديداً ما لفت انتباهي) حجم الأفعال التي تحتشد به القصائد، ولعلها أولى النقاط التي وقفت عندها في قراءة هذه المجموعة كثيراً.. فالفعل في مجرده ليس مجرد التصوير أو الرصد، إنه يخرج من هذا التجرد إلى أفق الدلالة الأوسع، ليكون في شكله البسيط (الرمز أو العلامة) المعنى الأوسع والمتعدد الدلالات ومستويات التلقي، وكأنه يفتح قوسين لمجموعة من الاحتمالات، حيث الفعل لن يكون مكتفياً بحدوده (رسم حروفه) بقدر ما يكون عمله الأساس من خلال مكانه، أو منظومته الدلالية التي يعمل من خلالها (مكانه في الجملة)، فهي من سيحدد بداية الفعل مساحة المشهد وأبعاده.. أو كما أختصرها في: [الانتقال من الرؤية (فعل الإراءة) إلى الرؤيا (فعل الحلم والتخيل)، من البعد الواحد (المجرد) إلى البعد المتعدد المستويات (الدلالة)].
نص/ أوجاع4:
نام والأنين
يفيض من صدره
في الجوار
سالت دموع شمعة
تسرب نورها تحت غطائه
تلاشى الحزن،
وأمضى الأعمى
تلك الليلة حلماً مضنياً..
… … …
وأعتقد أن البداية من الفعل ربما ساعدت من أجل الدخول أكثر لما نريد، فالفعل وحده من يقود القول، وحالما يتحول الفعل إلى القص يتحول القول إلى الحكاية (النصوص في مجملها عملية أدائيَّة أو قولية/قول)، وهو ما خاتلتني به المجموعة، فراوغني فعل القص فيها محولاً الوجهة ناحية الحكاية.. وفي معاودتنا قراءة النص السابق مثلاً (نص/ أوجاع)، وتتبعنا حركة الأفعال وجدناها سلسلة إحالية مرافقة، حيث تنهج ذات حركة الأفعال المتتالية، ومثل هذه الحركة المتتالية التي يتطور فيها المشهد أو تنمو فيها الحالة هي حركة قص (تتبع) لأنها تكتفي بمجرد الدلالة الواحدة للانتقال لما بعد، ومسافة الانتقال هي مسافة التحول أو النمو بما يرافقها.. ولو حددنا هذه الأفعال في هذا المقطع الأول كانت: [نام/ يفيض/ سالت/ تسربت/ تلاشى/ أمضى]، باستثناء [يفيض/ تسربت] فبقية الأفعال في حكم الماضي (نحوياً)، بمعنى التعلق بحدث تتمُ الحكايةُ به، ومما يقيد الصورة ويحدد فردية أدائها هي هذه الأفعال الماضية لأنها تعمل من مبدأ الإخبار لتعلقها بما مضى، وهو ما لا يحتمل إلا دلالته الواحدة [الإخبار= الرصد]، بينما تعمل الأفعال المضارعة على منح الحدث صفة الآنية، مانحة المشهد بعداً زمنياً للفعل الآن.. فيكون الحدث: [نام يفيض/ سالت وتسربت/ تلاشى/ أمضى]، هذا التكوين أقرب للتكون القصصي، حيث القصد إلى القص يبدو واضحاً من بدايات التكوين، ولعلنا فيما ألمحنا إليه غلبة لهذا الإنشاء، من نقطة الاقتراب التي يكون فيها الحدث أقرب من نقطة الاشتغال، فيغلب القص رؤيةً الحكاية رؤيا..
لكننا من منطقة أخرى نسمع “موريس بلانشو” يقول: (لا شيء أهم من النص نفسه بعيداً عن الأنواع الأدبية وعن التصنيفات نثر، شعر، رواية، سيرة ذاتية كانت، فالنص يرفض أن يدخل تحت إحدى هذه التصنيفات، كما إنه ينفي عنها صفة لمكانتها ولشكله، فالنص لا ينتمي اليوم إلى نوعٍ أدبي معين، وكل نص لا يقوم اليوم إلا على مفهوم الأدب، وكأن هذا الأدب يحوي مسبقاً في عمومياته الأسرار والصيغ التي يمكنها وحدها أن تكسب الكتابة واقعها كنص)، لا أريد من خلال إيراد مقولة “بلانشو” هذه التخلي عن الاستمرار، لكني أريد التلميح إلى غلبة الشعر كفن على غيره من الفنون، وأيضاً انفناء التجنيس وجنسية الكتابة، مقابل الجنسية العامة “النص” (ضيق المكان لا يسمح لنا بالبحث أكثر في النص وتنظيراته الحديثه).. ولمزيد القراءة، سأعيد إنشاء أحد النصوص من جديد:
نص/ سكينة5:
تسير في نومها، تصعد لسطح البيت، تملأ حجرها بالنجوم النائمة. تلك الليلة سهرت النجوم، ولم تأتي.. انسكبت من نافذتها، حملتها إلى السماء، نثرت ما في حجرها وتوسدت كتف الفجر، في نومٍ أبدي.
بضع آيات، مسبحة وحجر تيمم، إلا أن الأرض تصعد، تلامس الجبهة المجعدة رأفة بظهرٍ تقوس خشوعاً.
ما الذي حدث، أو أحدثناه في هذا الإنشاء الجديد؟
ما قمنا به لا يعدو كوننا تخلينا عن الأسطر المقطعة، بمعنى أننا تخلينا عن البناء العمودي إلى الأفقي.. أو لنقل إننا أعدنا (هندسة النص) بحيث اعتمدنا البعد الأفقي [التام] بدل الاعتماد على التوزيع العمودي، الذي يضمن هيكلة النص الشعري، الذي يستمد بعده الأفقي من لحظات التواتر في المقطع موزعة على الجمل، وتقنية تقطيع الجمل هي أحد آليات قصيدة النثر في خلق إيقاعها، أو خلقها نوعاً من التواتر.. فإيقاع (قصيدة النثر) ينتج عن وحدات إيقاعية غير منتظمة، وليس بينها أي علاقة، إنها تنتج إيقاعها من مجرد تواتر الأسطر في شكل الجمل الموزعة، وما تحققه المفردات من تواتر، وإن أشكال الانتظام التي من الممكن أن تلمس في نصوص قصيدة النثر، إنما هي انتظام لبنى النص وتراكيبه كاعتماد التكرار، والتوازي، وغيرها.. حتى أنه يمكننا القول أن لكل نص إيقاعه الخاص الذي ينتجه، والذي يتعلق بحق بالشاعر، ومقدار ما يمكن أن يحدث بينهما من تواطؤ، يمنح النص أبعاده الخاصة وإيقاعه الخاص، دون الاعتماد على بنى إيقاعية جاهزة وظاهرة6.. هذه الهندسة أو هذا الشكل البنائي، مفصلٌ آخر من مفاصل هذه المجموعة، ولعلنا نرى أن حركة الفعل هي التي أهلتنا لمثل هذا التشكيل، أو إعادة هندسة النص، فصيغة الفعل المضارع التي دخلت بنا النص هي صيغة بمعنى الآنيَّة، وتكرار هذه الصيغ تكرار يرافق الحالة أو المشهد الذي يرصده الشاعر أو يترءَّاه [بمعنى التحويل من الرؤية إلى الرؤيا]، مما يمكننا من إعادة تشكيل النص أو هندسته منتجين نصاً لا يختلف عن أصله، ولعلي أتجه ناحية القصد أكثر باعتبار أن هذه الحركة الراصدة المتتبعة الآنيّة في صيغة الفعل المضارع، هي صيغة قصٍّ، لأننا نرافق حركة متتابعة، تكون نهاية الحركة فيها بداية الحركة التالية، ولنلاحظ: [تسير/ تصعد/ تملأ/ انسكبت/ حملت-ها/ نثرت/ توسدت]..
أما الجمل فكانت جملاً تامة كونها استكفت دون الحاجة إلى قطعها، فكانت الجمل قصيرة متواترة، لا يمكنها أن تحمل طاقة الجبر على القطع.. بقصد إيجاد حالة من الترقب أو المفاجئة، وقراءة متأنية لهذه المجموعة تقف عند الكثير من هذه، حيث يُعمد إلى قطع الجملة بغية هندسة عمودية:
نص/ أنفاس7:
تتمنى الأوراق
التجول بعيداً
عن الأغصان
لكن رياح الخريف
لا تحقق لها
تلك الأمنية
إلا حين تسقط..
في هذا المقطع يذهب الأمر حد التعسف في قطع الجمل، خاصة مع جملة (لكن رياح الخريف/ لا تحقق لها/ تلك الأمنية)، تركت (لا تحقق لها) معلقة بين جزئي الجملة فلا هي تمكنت من التعلق بالجزء الأول لاحتوائها على ضمير (ها) المتعلق بالأوراق، ولا تمكنت من التعلق بالجزء الأخير كون الضمير جاء مقطوعاً عن أمنية صاحبه.. وهذا أمر لا يخص الشاعر وحده في هذه المجموعة، فهو ما نقراه في الكثير من النصوص المنشورة، منتجاً حالة من التخلخل التي تنفصل معها أجزاء النص، فاقداً فيها الكثير من إيقاعية الحركة المنسجمة أو الحركة التناغمية، ولو عدنا لذات المقطع:
تتمنى الأوراق
التجول بعيداً عن الأغصان
لكن رياح الخريف،
لا تحقق لها تلك الأمنية
إلا حين تسقط..
مثل هذا الخروج يتيح للحالة أن تتحرك أكثر في المساحة الممنوحة لها، فبدل التحرك في مساحة مقطوعة (لا تحقق لها)، تنتقل من (لكن رياح الخريف) لتنزل إلى (لا تحقق لها تلك الأمنية)، لأن الجملة تتعلق أكثر بحركة المعنى، فانقطاع الجملة يعني انقطاع المعنى، واختلال حركته.
5- محاولةٌ للخروج..
نص/ لو8:
لو أنك علمتني شيئاً آخر
غير امتهان الخيبة
لكنت ممتناً لك
أيها الشعر..
ما الذي يحدث لو قرأنا النص بهذا الشكل: (لكنت ممتناً لك/ أيها الشعر/ لو أنك علمتني شيئاً آخر/ غير امتهان الخيبة) إنها أحد أسرار الشعر التي لا تقبل الممايزة، إن إيقاعية النص ورؤياه لا يمكن أن تختلف باختلاف القدوم.. وليس هذا كل شيء.
ليس هذا كل شيء.. لقد حاولنا البدء من فرضية أن النص قابل، وأن الشعر شكل، لذا فإننا إما نقبل إما نختار الشكل، وكوننا اخترنا الشكل، كان لزاماً أن نتواطأ حتى نقطة يمكننا فيها النظر في ذات المستوى، ومستوى القص يخرج عن حدود الرؤيا المطلقة مقابل حضور الكثير من الرؤية، مقابل الحضور الآني الذي يسلك بنا درب المشاهدة، وتحقيق المشاهدة البصرية التي لا تجد إلا احتمالاً واحداً لها، هو احتمال المشهد.
وفي هذه المجموعة، مجموعة (أنفاس) كان احتمال المشاهدة هو الاحتمال الأكثر حضوراً، دعمته سلاسل الأفعال (بصيغتي الماضي والمضارع) المتواترة/المتتالية، كذا فإن حضور فعل الرؤية كان له تأثيره الكبير في خلق حالة من التعلق بالـمُشَاهَد أو اليومي القريب من الشاعر، بكل ما فيه من مفارقة وغرائبية، وربما لقوة هذا الحضور كانت غلبة فعل القص، بحيث إن الرؤية ظلت الحاضرة أكثر دون الدخول بها إلى مجالات الرؤيا المتعددة..
لكن هذه المجموعة طاقة حقيقة باتجاه حالة من التجرد، حالة من الترك لكل الجانبي، باتجاه المباشرة دون الحاجة للتزود إلا بما يكفي فقط، وإن كنت أرى إن إمكانية الانفتاح داخل النص وشغله بالمحيط أكثر، يتيح للنص فرصة أكثر للتعايش مع الشاعر، فكأن النص حالة من معايشة، غير أن (أنفاس) كانت منغلقة أكثر على دائرتها فقط فكانت كأنها بعيدة، لم تمكننا من الشاعر بقدر ما مكنتنا من ذاكرته.
وتختلف هذه المشاركة مع محاولة خلق شكلٍ من المفارقة، بحيث يتحول الشعر إلى فن المقابلة أو الوقوف أمام مرآة مخاتلة، وهي أحد الوجوه التي طالعتنا بها المجموعة، حيث السقوط في هذه اللعبة مهلك ومهدر للطاقة باتجاه خلق مقابلات دون الحاجة للشعر، أما خروجنا الأخير فأمر النثر، أو النثر الصرف (كما أسميه) فهو الطاقة التي يمكن أن يضيفها بغية إنتاج توازي صريح للذات للتعلق بموجوداتها، والنثر في هذه المجموعة كان خادماً طيعاً للشاعر، فسار أينما وجهه، أو لنقل إن القصيدة كانت طيعة، فسارت كما وجهها الشاعر وهذب لها الطريق، فكان الشاعر أكثر شيءٍ ظاهر في هذه المجموعة.
_______________________________________
هوامش:
* مفتاح ميلود. (أنفاس) مجموعة شعرية. منشورات المؤتمر. ط1/2003.
1- أنفاس/ أنفاس: ص-7.
2- أنفاس/ القمر: ص-15.
3- أقصد هنا وأحدد بداية الثمانينات، حيث الصوت الشعري كان صوتاً ناهضاً ومنادياً بالحرية للشعوب، والخلاص بالثورة.
4- أنفاس/ أوجاع: ص-11.
5- أنفاس/ سكينة: ص-33.
6- قصيدة النثر في ليبيا.. دراسة تحت الإنجاز للكاتب.
7- أنفاس/ أنفاس: ص-10.
8- أنفاس/ لو: ص-49.
مجلة المؤتمر- تصدر عن مركز أبحاث ودراسات الكتاب الأخضر- السنة: 02- العدد: 17- التاريخ: 06-07/2003- شهرية