النقد

أزمنةُ الاغـتراب في المجمُوعة القصصيَّة “شـواطئُ الغُــربة” للقاص د.خالد السَّحاتي

حنان الشرنـوبي (نـاقـدة من مصــر)

غلاف المجموعة القصصية شواطئ الغربة.
غلاف المجموعة القصصية شواطئ الغربة.

 إذا اعتبرنا أنَّ (الغُـربة أو الاغتراب) من معاني الفقد أو الشُّعُور بالملل والوحدة.. فإنَّنا نجدُ ثمَّة فارقاً بين معانيها، فالغُربةُ هي البُعْدُ عن الوطن، وغالبًا ما تُشِيرُ إلى المشاعر السَّلبيَّة المُرافقة للانقطاع عن الأهل والأجواء المُعتادة؛ وقد يتغرَّبُ الإنسانُ منْ أجل الدِّراسة أو كسب العيش أو الارتقاء بمُستوى مادِّيِّ أفضل، ورُبَّما بشكلٍ إجباريٍّ، كما في حالات الحرب أو عدم الاستقرار الأمنيِّ. والغُـربةُ قد تجعـلُ صاحبها غريبًا بين الناس، وإنْ لم يُفارق وطنهُ، ومن هُنا نتطرَّقُ لمعنىً آخر من معانيها، وهُو اغترابُ الذَّات، وتتمثَّلُ في عدم القُدرة على تواصُل الفرد مع نفسه، وشُعُوره بالانفصال عمَّا يرغبُ في أنْ يكُون عليه- وتختلفُ عن نظريَّة كارل ماركس في الاغتراب نتيجة العيش في مُجتمعٍ طبقيٍّ يجعلُهُ مُغتربًا عن إنسانيته .-ولقد استعمل السَّاردُ بعض الآليَّات المُعبِّرة عن الشُّعُور بالاغتراب؛ أبرزها: “اللونُ الرَّماديُّ”، الذي عبَّر به عن الرُّتُوش النِّهائيَّة لمجمُوعته، ونرى ذلك في أكثر من موضعٍ، فيقول: ص9: (ثم أخذت حقيبته الرمادية التي لم تعد جديدة)، ويقُولُ أيضًا: ص16: (كزهرتين تفتَّحتا لتوِّهما في خرابة عتيقة مُلطَّخةٍ بلون الرَّماد). أمَّا في ص36  فيصفُ جدَّهُ بأنَّهُ:(كان يرتدي قُبَّعةً رماديَّة)، وهكذا، في أكثر من موضعٍ..

ولهذا اللون دلالاتٌ يرمزُ لها، فهو من الألوان المُحايِّدة التي لا تنتمي للبياض النَّاصع ولا السَّواد الحالك، إنَّما تنتُجُ عن دمجهما معًا، ولمْ يُحدِّد السَّاردُ درجته إنْ كان غامقًا أو مائلاً للبياض، لذلك سنعدُّهُ ساكنًا خاليًا من المشاعر على حدٍّ سواء؛ إذ ارتبط بالمعاني الباهتة؛ كذلك تُمثِّلُ ظلالُ هذا اللون الوحدة والإحباط ومشاعر الحزن المُستمدَّة من تأثير اللون الأسود؛ والصِّدق والشفافيَّة والنَّزاهة المُستمدَّة ممَّا يحتويه من لون أبيض. و أصحابُ الصفات الأخيرة للأسف أصبحت تعاني مما يسبقها من حزن وإحباط. لذلك فهذا اللونُ هُو أبلغُ رمزٍ للتَّعبير عن الغُربة. ومن استعمالاتها أيضا (الصَّمْتُ)، وهُو من علامات الوحدة، ففي الصَّمْت حوارٌ ذاتيٌّ للسَّارد، وهُو أساسٌ في هذا الشُّعُـور؛ فيبحثُ عن الماضي، ويتأمَّلُ فيه، وهُو (متُسمِّرٌ على مقعده الهزَّاز، يُطالعُ صورهُ القديمة بنهمٍ، تعُودُ به كُلٌّ منها إلى لحظتها..)، فنشعر بدفء الحنين، وما في عنوان القصة من (انتشاء) للبطل. والسَّاردُ دُون أنْ يشعُر يستعملُ مُفرداتٍ ومعانٍ تُوجِّهُ المُتلقِّي لمعاني الزَّمن.. إذ استعمل في القصص بعض الإشارات الرَّامزة لحساب الوقت كما يراها.. ففي قصَّة (خربشات صبيانيَّة) نجدُ أنَّ البطلة مُدرِّسة رياضيات تحملُ حقيبتها الجديدة التي تتحوَّلُ- بمُفارقةٍ ما- إلى قديمةٍ في لحظات.. فبعد أنْ سقطت مُحتوياتها بين أيدي التَّلاميذ العابثين؛ حيثُ لوَّن بعضهُم وجههُ، و رسم آخرُون على حوائط الفصل حتَّى تغيَّرت معالمُ( المكان) (الفصل)، وبهذا تحوَّلت الحقيبةُ إلى قديمةٍ؛ لأنَّ المكان الذي يحتويها أصبح كذلك.. والاغترابُ لا يكُونُ بالضَّـرُورة عبر عدَّة سنواتٍ، فرُبَّما يشعُرُ بها للحظات من الزَّمن كما في (تجلِّيات الأقدار)، إذ أصبح الغريبُ صديقاً حينما تحوَّل صديقُ العُمر المُتمثل في البحر مُتقلِّبًا مُضطربًا هائجاً، لا نرى منهُ إلاَّ سطحه، ولا نعرفُ ما تُخبِّئُهُ لنا أعماقُهُ منْ أقدارٍ. وأحياناً يكُونُ الاغترابُ عن الحياة بفقد أحلامه فيها، فكُلُّ ما يُفكِّرُ فيه هُو الخلاصُ من الدُّيُون وشراء مُتطلّبات الصِّغار. فكانت قصَّةُ (المحفظة) سببًا للاغتراب؛ حينما يشعُرُ السَّاردُ بالخوف والتيه الدَّاخليِّ، فيجدُ أنَّهُ وحدهُ والبيُوتُ خاويةٌ، وما هي بخاويةٍ.. إنَّما هي رُؤيتُهُ لما يحتويه الكَوْنُ منْ عدم.. كما في قصَّة (متاهات التَّشظِّي)، التي تُشيرُ لما تُؤدِّي إليه مشاعرُ الوحدة.. ومن نتائجها أيضًا أنْ يبيعُ البطلُ الوَهْمَ للبطلة، فتفعلُ ذلك مع غيره بعد فقدها كُلَّ شيءٍ.. فأصبحت تفعلُ كما حدث معها؛ إذ استغلَّ البطلُ حرمان البطلة من كلمات الحُبِّ والعطف، فباع لها كلماتٍ بثمنٍ بخس لمْ تُقاومْها.. فانتقمت منهُ في كُلِّ رجُلٍ يُقابلُها.. وهُناك ما أراهُ(اغترابًا إيجابيًّا)، إذْ يُقرِّرُ السَّاردُ أنْ يُطيح بكُلِّ ما يُبعدُهُ عن محبُوبته، فيزدادُ إصرارُهُ على مُواصلة السَّيْرِ، والتَّقدُّم لنيلها، فالاغترابُ هُو التَّحدِّي الذي به تتحقَّقُ الآمالُ.. ولكنْ ماذا لو كانت فترةُ السَّعادة التي يحياها البعضُ ما هي إلاَّ وَهْمًا ومشاعرُ نعتقدُها نحنُ فقط في مُخيِّلتنا وهي مُنفصلةٌ عن الواقع كما في (القلب الذهبي)، الذي اكتشف أنَّهُ عاش مرحلةً عابرةً على حياته وليس لهُ من مُؤانس؟!..

ولعلَّ السَّارد عمد إلى اختيار عناوين المجمُوعة بما تحملُهُ من معانٍ زمنيَّةٍ، مثل: قصص (انتظار- طوابير- مشوارُ العُمر- طيف- لقاء-أطلال- متاهاتُ التَّشظِّي-حُلُم- ندم- لاشيء)، وكُلُّها إشاراتٌ لثيمة العمل، فكُلُّها تحملُ زمنًا ما، حتَّى العُنوان(لاشيء)، فهذا هُو زمنُهُ. كذلك استعمل في مجمُوعته اللغة الشَّاعرة (شعريَّة السَّرد) مع مُفارقاتٍ كادتْ أنْ تكُون بطلاً للمجمُوعة.. كما في (نومنا في هُدُوءٍ يُزعجُهُم)، فمُنذُ متى والهُدُوءُ يصنعُ ازعاجًا؟!، وأيضًا (صفَّق الجُمهُورُ بحرارةٍ باردةٍ)، وغيرها كثير لإثارة ذهن المُتلقِّي.

مقالات ذات علاقة

أُمَيْلة النيهوم… نُبوءة يوسف الشريف

المشرف العام

ليبيا في عيون الشعر.. «طبق من فاكهة الأساطير» و«ضحك التين في وجه الخريف»

أحلام المهدي

أطروحات فلسفية في رواية (من أنت أيها الملاك) للروائي ابراهيم الكوني

المشرف العام

اترك تعليق