النقد

التّليسي.. والأسئلةُ المبكرة

ورقة مقدمة في احتفالية “التليسي”، التي نظمها مجلس تنمية الإبداع الثقافي

بنغازي.. 21-22/12/2002

 

 

لا يخفى على إيٍ كان، الجهد الذي اطلع به الأستاذ “خليفة التليسي” في رحلة عطائه التي تميزت بالكثير من الإسهامات التي ظلت حتى هذا الوقت منهل للكثيرين، ومناطق زخم فكري وإبداعي، تعكس جدَية الطرح والسعي الدؤوب.. ومن خلال هذه الورقة نقدم لبعض الأسئلة المبكرة التي طرحها الأستاذ “التليسي”، وهي مجموعة من الأفكار كان تناولها في مقالاته في فترة مبكرة، كان الوعي الثقافي العام فيها في بداية تشكله، وهذه الكتابات تعكس أراء أستاذنا الكبير، وتقدم رؤيته التي ناقش بها المواضيع التي تناولها، حيث نكتشف الجدية المقنعة، والحياد الكبير في تناوله للمنتج الإبداعي، وهذا بقدر ما يُدخلنا في أحكامه القاسية أحياناً، يطرح لنا الموضوع كما هو، أو كما ينبغي أن يكون بتجرد.

سؤال الشعر..

مَن مِنا لا يذكر هذا السؤال (هل لدينا شعراء؟)؟، والذي بحث بجد في ماهية النص الشعري المطروح في وقته آن ذاك، لقد فجر هذا السؤال أحد أهم قضايا الإبداع في بلادنا وفي فترة مبكرة، سؤال الشعر وماهية هذا الشعر، ورغم القسوة (الحقيقية) التي كتبت بها هذه المقالة وقتها1، إلا إنها كانت بحق السؤال الباحث عن ماهيةٍ لهذا النتاج الإبداعي المطروح.. وهو وحتى إن اعتمد مقارنة النتاج المحلي بالنتاج العربي الأكثر تجربة، ومطالبته بتمثله واقتفاءه، بمعنى قراءة النص الشعري المحلي في تجربة موازية (وهي نقطة نختلف حولها)2، لكننا نقف من خلال هذه المقالة على الوعي الحقيقي في التعامل مع النص الشعري، والبحث الحقيقي في ذات النص والتعويل عليه لخلق مناخٍ ثقافي قادر على العطاء.. ولعل انعطافه إلى الشعر الشعبي في مقالته وذوبانه في النسيج العام، هو ما يقرب رؤيته في ضرورة أن يمتلك الشِّعر للثقافة والتاريخ الكفيلين بتكوينه التكوين الصحيح، بحيث لا يكون الشعر شعر مناسبات ومجرد نظم للكلمات.

عن الذاتية وسؤال الذات..

ومن القضايا التي طرحها أستاذنا، موضوعة الذاتية في الإبداع وعلاقة ذات المبدع بالإبداع، ومقالته (الذاتية والإبداع)3، هي من أولى الكتابات على الصعيد المحلي التي تناولت هذه القضية، وكان قد لمح في أحد فقرات مقالته (هل لينا شعراء؟) لهذه الموضوعة وعلاقتها بالشعر، وها هو يعود لهذه الذاتية في مقالة مفصلة.. يقول في هذا المقال: (… ونحن في نهضتنا الناشئة نحتاج إلى أن نمارس جميع التجارب، وأن نعبّر عنها سواء كانت ذاتية خالصة أو كانت منطلقة من نطاق الذاتية إلى النطاق العام، ومن المؤسف أن تساهم أسباب مختلفة في قتل هذه الذاتية، أي في خنق بذور الإبداع في نفوسنا…).

وفي قراءة موازية لهذا المقال (الذي توقفت عنده كثيراً)، تتكشف لنا من خلال أحد ارتكازاته، أحد أهم قضايا الإبداع في وقتنا الحالي وأعني علاقة المبدع والمتلقي، فبقدر الذاتية التي صار عليها الإبداع صار المتلقي بعيداً عن هذا الإبداع، فنحن بالمتابعة يمكننا الوقوف على المرحلة التي كان فيها الشاعر صوتاً للجماهير، ومن ثم كيف خَلَصت الجماهير إلى كياناتها المستقلة فوجد الشاعر أو المبدع نفسه خارج الحسابات، فمارس هو أيضاً بناء كيانه المستقل، الذي نأى به عن المتلقي لأنه لم يحاول أن يُسمعهُ صوته عندما كان الصوت هناك.. يقول الأستاذ “التليسي”: (… وأولها أننا لم نعود القارئ حتى الآن بأن يصغي إلينا ونحن نتحدث إليه عن تجاربنا الخاصة، وكثيراً ما وأدنا أفكارنا وخنقنا مشاعرنا وأحجمنا عن الكتابة عنها بالأسلوب المباشر خوفا أن يتهم الأديب منا بالتبجح والغرور أو أن ينشر غسيله على الناس…)، وفي هذا المقال يلمح لأكثر من نقطة في علاقة الذاتية بالإبداع، ناحية منح النص أكثر رحابة، وأيضاً المتلقي أكثر فرصة للتلقي، وهو أيضاً يلمح إلى الطوق الاجتماعي الذي يحياه المبدع والذي يحد من انطلاقته للتعبير أكثر عن ذاته، التي تتحول من مجرد أنا إلى جسر يعبر عليه المبدع إلى وجدان الآخر، وكأن العلاقة هي بحثٌ في الإيجاد، إيجاد الذات في النص، سواء كانت هذه الذات ذات متلقية أم مبدعة.

سؤال التجربة الجديدة..

هنا يأخذنا السؤال إلى مقدمة (الحنين الظامئ)4 أولى مجموعات الشاعر/علي الرقيعي (رحمه الله)، وفي هذا التقديم لا تتحول الكلمات والأسطر إلى احتفالية بهذا المولود البكر، متعديةً إياه إلى بحث في النص الشعري.

في هذا التقديم يتلمس الأستاذ “خليفة التليسي” مرجعية المشرق العربي في الإنتاج الشعري الليبي، وأنه المصدر الثقافي الأول، والمحرك الأهم في العملية الإبداعية، لكنه أيضاً يلمح إلى ضرورة التعويل على الشخصية المحلية حيث إنه يرى إن إبداع هؤلاء الشباب (…، وهو في حقيقته محاولات جبارة لخلق أدب ليبي،…).

وهو في هذا الديوان يتلمس الكثير من الجوانب التي استطاعت أن تقدمها المدرسة الحديثة (كما تعامل معها من خلال تقديم المجمعة)، وقدرة الشعراء الشباب على الإبداع من خلالها، واستطاع “الرقيعي” أن يقدم صورة واضحة لواقعه ولشخصيته، وهو ما يفترضه الأستاذ “التليسي” كأول الخطوات لمنهجية مستقلة.

عن سؤال الحداثة..

إنه الصراع بين القديم والجديد.. في هذه المقالة (كلام في الشعر)5 التي نشرت خلال شهري يوليو/ناصر وأغسطس/هانيبال (أشد فصول الصيف حرارة)، نكتشف الوعي الحقيقي في التعامل مع مسالة الحداثة، حيث يبتدئها الأستاذ “خليفة التليسي” بتلمس المنجزات الحديثة وأثرها في الآخر، وتعلق الآخر بهذه المنجزات وانحيازه التام لكل ما حديث، وهو في ذات الاتجاه يسبر غور تدخل العلوم في مجمل العمليات الحياتية، واتجاهه للتفسير.. يقول: (… ولا شك إن عصرنا هذا طغت فيه الآلة طغياناً جائراً، وبسطت سلطتها على كل مناحي الحياة، واستغلت مواهب الناس استغلالاً يخشى أثره على صرح الحضارة،…، لقد أصبح الناس يقدرون الأشياء تقديراً نفعياً، فكل نافع جميل عندهم،…، ومن هنا انصرف الناس عن الشعر لاستحالة الفائدة المادية منه…)، ومن ثم يخرج بهذا إلى الشعر، معولاً عليه كقيمة تمتلك مقوماتها التي تكفل لها البقاء، بحيث تتوازى مع الحياة وتتعاطى معها، لذا فإن الشعر ليس مجرد أوزان واستعارات وتشبيهات وألفاظ منمقة، إنه استقطاع من هذه الحياة، ومقدرة الشاعر على الانوجاد في نصه.

محاولة للخروج..

وحتى ونحن نبحث في الكثير من هذه الأسئلة، فإن الكثير من الموضوعات الموازية تتفتح أمامنا، ملقية بالضوء على البعد النقدي الذي اطلع به الأستاذ “خليفة التليسي” والذي نفتقده، لأننا بحق كنا كسبنا إرثاً نقدياً مميزاً لمسيرتنا الإبداعية في ليبيا.

وفي بحثنا هذا سنكون واقفين ونحن نستقرئ هذه الدلائل، عند مجموعة من النقاط:

– كانت الرؤية النقدية محددة الاتجاه، بحيث كانت تتجه للنص أو القضية الموضوع والاشتغال عليها مباشرة، دون فصلها عن توابعها.

– التعامل في هذه الأسئلة (التي عرضنا بعضها) كان يتم بمستوى أدائي ثابت يتغير طبقاً للتغير العام، حيث التعامل بذات المصطلحات دون تعارض، وطرح الأفكار دون تشويش.

– وضوح القصد في البحث عن هوية للأدب الليبي، أو ملامح تخدم الإبداع، وتخرج به من دائرة التبعية للأستاذ الممثل في الشرق.

– التعويل على الشعر كقيمة تملك مقومات وقوفها دون الحاجة لأي عصا ارتكاز، فالشعر ينهض من داخله، لا من خارجه.

– الوعي الكبير بمعنى الحداثة، وأنها ليست الصراع بين القديم والحديث، وأنها منظومة يشتغل الجميع بها، وأن التلقي تبعاً لهذه العملية يعتمد على قدر من التواطؤ بين المبدع والمتلقي.. وأن الحضور الحقيقي للمبدع هو حضوره في نصه.

__________________________________________

الهوامش:

1- نشرت مقالة (هل لدينا شعراء؟) بصحيفة (الليبي)، بتاريخ:6-13-20/10/1952.

2- راجع مقالي المعنون (50 عاماُ على سؤال الشعر) بصحيفة الجماهيرية، العدد: : 3850..بتاريخ: 22-23/11/2002، حيث أعدت فيه قراءة مقالة الأستاذ/خليفة التليسي (هل لدينا شعراء؟).

3- نشرت مقالة (الذاتية والإبداع) بصحيفة (طرابلس الغرب)، بتاريخ: 31/4/1960.

4- علي الرقيعي. (الحنين الظامئ) مجموعة شعرية، صدرت في العام 1957.

5- نشر هذا المقال في صحيفة (طرابلس الغرب)، بتاريخ 7-8/1951.

مقالات ذات علاقة

من أنت أيها الملاك.. قراءة في رواية “إبراهيم الكوني”.. إغواءات لدعوة سرّية

المشرف العام

يُوسُف الشّريف.. الصورة الأيقونيّة لأُمَيْلة النيهوم..

المشرف العام

كتاب – “وزارة الأحلام” لمحمد الأصفر: الكتابة حلماً

منصور أبوشناف

اترك تعليق