النقد

الشلطامي شاعر القضـية

 

د.فوزية بريون

مقدمـة:

حين تنامى إليّ خبر وفاة الشاعر محمد الشلطامي رحت أبحث عن دوواوينه في مكتبة جامعة متشجن، يملؤني الأسف لأنني لم أتمكن من إنجاز أحد مشاريعي في دراسة شعره وشعر غيره من الليبيين وهو على قيد الحياة.. وأسفت على أننا مازلنا كليبيين نغمط رجالنا ونساءنا – الجديرين بالتقدير- حقهم في الإحتفاء بقيمتهم الأدبية والثقافية والفنية قبل أن يسبقونا في الرحيل عن هذا العالم المؤقت.

وحيث أن للروح قدرة خارقة على الانتقال بين البرزخ وهذا العالم والإطلاع على ما يجري فيه، فقد رأيت أن فرصة الكتابة عن الشلطامي وتسليط الضوء على جوانب من قصائده لم تفت.. ولذلك فإن تحيته بمقال مثل هذا هو أقل ما يمكن القيام به.. من أجله ومن أجلنا.. من أجله، ليعرف أن هناك في صحراء الأدب الليبي من يجد في قصائده الواحة التي قصد أن تورف ظلالها فوق كل من له قلب وذوق ووجدان.. ومن أجلنا، حتى نتمكن من أن نرتقي فوق سلبيات شخصيتنا الليبية التي طالما تبحث في الآخرين عن نقائصهم ومثالبهم فتُحرم من أن تتعلم منهم وتستضيء بفضائلهم.

تـمهـيد:

لعل معظم الدارسين يتفقون معي على أن قامتنا الشعرية ليست على الإطلاق سامقة؛ وأن الاضطراب الذي أصاب مفاهيمنا من الناحية الثقافية والسياسية والاجتماعية بل والأخلاقية لاشك قد أصاب كذلك الجانب الأدبي عامة والإبداع الشعري على وجه الخصوص.

ولا يخفى على المنهجية الفكرية التي تُعنى بتطور الثقافة والإبداع في أي مجتمع، ما للتغييرات السياسية القسرية والقولبات الأيديولوجية المفروضة من أثر سلبي على الفاعلية الأدبية وعلى عفوية الإبداع وحريته. وعليه فإن ما تشهده الحركة الأدبية والثقافية في بلادنا من ضمور، وما يعانيه الإبداع الأصيل من انحسار في الكم والكيف يمكن رده بموضوعية كاملة إلى هذا الوضع المعقد والمزمن الذي يكتنف مجتمعنا، وهو الوضع الذي جعلنا نقع في ذيل قائمة العالم المتخلف من حيث النهضة والإنجاز في مختلف المجالات.

لذلك فإن الرحيل المبكر لشاعر في حجم محمد الشلطامي إنما هو خسارة للشعر الليبي الذي يُعتبر الشاعر أحد أهم رواده المبدعين الذين أسهموا في نحت تضاريسه، على الرغم من البيئة المحبطة التي قُـدر له أن ينتمي إليها، والتي بخلت عليه – كما بخلت على كثيرين غيره – بالشروط اللازمة للنمو والإبداع والترقي. ولم يكن خافياً أن ظروف حياته الاجتماعية والصحية والوجدانية قد وضعته في بؤرة المعاناة، في الوقت الذي كان يمكنه أن يكون فيه في الصدارة وفي مركز التكريم والتميّـز إن هورضي لنفسه لبس ثوب الثوري المتسلق ليمدح ويتزلف ويعظّم وينحني على عتبات سيف الدولة! .. ولكن للشلطامي نفساً أبية وروحاً حرةً وعقلاً لا يبيع نفسه لأحد، كما يُستنبط من شعره ومن المواضيع التي عبرت عنها نصوصه. ولذلك فقد أبى على نفسه التردي فيما تردى فيه شعراء آخرون، ربما تكون إبداعاتهم قد وضعتهم في طبقة المبدعين الأوائل، ولكن مديحهم وتملقهم وبرجماتيتهم قد وضعتهم في الدرك الأسفل من طبقات أصحاب المبادئ والمخلصين لرسالة الشعر .. وما مثال الشاعر السوداني محمد الفيتوري عنا ببعيد!

* مضامين شـعره:

يتضح من مجموع شعر الشلطامي أنه شاعر ملتزم بامتياز، وأنه قد امتشق شعره للدفاع عن حق الإنسان في حياة كريمة بكل الأبعاد. لذلك فإن تعاطي الشعر عنده ليس سلوكا ينتمي إلى الرفاهية الأدبية أو الوجودية؛ كما أنه ليس وسيلة للتعبير عن نفس أمارة بالسوء، أو ذات غارقة في لجج الأنانية، متحللة من القيم الإنسانية. فلقد رأى الشلطامي في الشعر مسؤولية عظمى ورسالة سامية لا يمكنها أن تتحيز لغير حرية الإنسان وإطلاق قيوده عقلياً وروحياً ووجدانياً. والالتزام بالنسبة للشلطامي هو روح الشعر التي تتوجه، بالدرجة الأولى، إلى روح القارئ ووجدانه للتأثير فيه وشحنه، وليس إلى عقله لإبلاغه وإعلامه. ولهذا فإن شعره يمثل شعر الضحية المظلومة المهمشة التي يمثلها وينطق بلسانها، وليس شعر البطل المفتخر بنفسه، الذي يتسلح بضجيج اللغة وبلاغتها المركبة. ومن اليسير على الباحث أن يلمس في شعر الشلطامي مضامين إنسانية حضارية في إطارها العام الأكبر؛ وهي في حقيقتها نابعة من ومستندة على مضامين وطنية، في أبعادها السياسية والإجتماعية، وفي قيمها الأخلاقية المتغنية بالعدل والحرية واحترام.

رحلت في نصوص الشلطامي من خلال دواوينه السبعة المتوفرة بمكتبة جامعة متشجن فغمرتني نغمته التي تتميز بالحزن ولذعة الوعي والنفاذ إلى ما وراء حدود المعاني المستهلكة. ووجدت في شعره نكهة فنية يشعر بها القارئ المتذوق ويستقيها من معجمه، ومن أحاسيسه وعاطفته التي تملي عليه كيفية استخراج صوره الفنية وتعبيراته البلاغية. وواضح من جميع دواوينه التي توفرت لديّ بأن شعر الشلطامي لا يصدر إلا عن تجربة نفسية وعاطفية غنية ؛ أي أنه يصدر عن عواطف قوية أولاً، ثم عن فكرة أو مجموعة أفكار محورية.

تتولد العاطفة من تجارب وجدانية ومعاناة شخصية وموضوعية وأحاسيس جامحة، أما الفكرة أو الأفكار التي تغذي كلاً من العاطفة والأداء الشعري فمستمدّة من قضية محورية يحملها الشاعر في حناياه ويعبر عنها في كل قصائده؛ وهي أفكار عميقة تتوارى في أثواب اللغة، وتنتسج داخل الصور الفنية، وتتوالد بواسطة الإيقاع الموسيقي وتعاضد مجموع الدوال في نصوصه المتعددة، لتنضيد الجديد من المعاني، وبث الروح المتوثبة القلقة في ذات القارئ، بغية التأثير فيه ومده بوخزة من الوعي المحرّك الدافع.

والشلطامي يتحكم في زمام الشعر عن مقدرة فنية وثقافة أدبية ورؤية إنسانية. وهو وإن كان يتبنى أسلوب الأداء الشعري الحديث في قالبه، الحداثي في معانيه وروحه، فإنه لم يقم بإحداث قطيعة مع التراث كما ينادي الحداثيون المتطرفون؛ بل تبنى ذلك التراث الفذ وانتمى إليه واستقى منه عن بصيرة وحسن انتقاء لأنه الأكثر ملاءمة لتجربته الوجدانية والأقدر على تصويرها. وقد استعمل الشاعر القالب الشعري التقليدي الذي يلتزم بالوزن والقافية أكثر من مرة، كما في “رباعيات جديدة” بإيقاعها الرائع ومعانيها البديعة، وكذلك في مقطع من قصيدة “أنشودة الحزن العميق”، ثم نوع في الأوزان والقوافي وتبنى أسلوب التفعيلة في بقية قصائده ودوواوينه، ولم يتحرر كلية من معايير النظام الفني ليحول الشعر إلى شكل هجين هو إلى النثر أقرب، كما هو شائع بين الكثير من الشعراء “الحداثيين”.

* عن بعض خصائص شعره الفنية:

من خصائصه الأسلوبية اعتماده في كثير من قصائده على الرمز والإيحاء، وابتعاده عن المباشرة والخطابية، فقصائده خالية من التكلّف والصنعة، ومن الضجيج البلاغي الذي لايؤثر في وجدان القاريء المتمرّس ولا يحركه. وحتى في أشعار المحنة، أي القصائد التي كتبها في زنازين الغبن التي اكتظت إبان ما سمّي بـ “الثورة الثقافية “، وأثناء حملة القضاء على الحركة الطلابية، لم تكن المعاني التي تنداح في ثنايا أبياته دانية سهلة، بل متخفية في غلائل من المعاني المتعددة، المتشابكة والمتقاطعة.. وفي قدرته – حتى وهو في أحلك ظروفه – على فلسفة المواقف التي يوضع فيها؛ فحين يُغلق وراءه باب الزنزانة الثقيل يتجلى أمامه الوطن، فيشكر بكبرياء سجانه الذي أهداه فرصة الامتزاج بالوطن. وهنا يلتفت الشاعر إلى استخدام أسلوب أدبي راق هوأسلوب المفارقة (Irony)، التي تقوم على وجود تعارض أو تناقض بين المستوى الظاهري والمستوى الباطني للكلام، كما في شكر السجان، وكما في إشراق الوطن داخل الزنزانة في الأبيات التالية:

.. فشكرا

لمن كتبوا فوق وجهي ووجهك أنا نحب

وصمتي وصمتك في آخر الليل

صوت الغضب

وشكرا لمن مزجونا ترابا ولحما

ومن أغلقوا الباب بيني وبينك

حتى أراك

وعبارة “حتى أراك” هذه مشحونة بالشعرية، وهي مصدر المفارقة التي ولدتها جملة “أغلقوا الباب بيني وبينك”، حيث تتضمن هذه العبارة في طياتها نتيجتها المنطقية، وهي “حتى لا أراك”، إذ لم يكن إغلاق باب الزنزانة سوى لحصره في مساحة محدودة والحيلولة بينه وبين “الخارج” الذي يمثل الوطن ببعده الحسي والرمزي معناه الأكبر باعتباره القضية التي ساقته إلى السجن. ولكن الشاعر هنا يفاجؤنا بمخالفته للمعنى المنطقي المتضمن، بعبارة مناقضة وغير متوقعة هي “حتى أراك”، التي هي مخالفة لهدف السجن والسجان. وبذلك كانت محنة السجن هذه بالنسبة للشاعر فرصة لـ “رؤية” الوطن .. بعين العقل وبصيرة القلب.

ومن أمثلة المفارقة أيضاً في شعر الشلطامي قصيدة “أفراح سرية” التي يقول فيها:

وأنا في البيت محبوس

وممنوع من التجوال

لكن رجال الأمن لا يستشعرون

من وراء الباب

أفراحي التي

تعبر كالريح

إلى كل المدن

وتغني

مهرجان النصر والحرية الكبرى

وميلاد الـربيع

فحبس الإنسان وفرض الإقامة الجبرية عليه يتضمن نتيجة منطقية، هي شعور ذلك الإنسان بالغبن والقهر لاضطراره إلى الانزواء في مساحة محدودة ضيقة من حريته. ولكن الشاعر يفاجئنا بكونه على العكس، فرحاً مغتبطاً رغم أنف رجال الأمن المنتشرين خارج بيته لمراقبته، بل إن فرحه ذلك يفيض منه وينتشر بسرعة الريح، ليس خارج البيت فقط بل خارج المدينة أيضاً، لينتقل “إلى كل المدن” التي حققت انتصاراتها، لكأن هناك حبلاً سرياً يربط الشاعر بتلك المدن، فوطنه أكبر مما يظن السجان:

وبلادي

أينما تنتصر الحرية الكبرى

باسم البشرية

ولأجل البشرية

ويستعمل الشاعر في قصيدة “أفراح سرية” ما يسمى بـ”المفارقة الدرامية” التي تتحقق فيها غفلة بعض أشخاص المفارقة أو استغفالهم، وقد تم ذلك بالشعور بالفرح وتسريبه والانتقال على صهوته بين المدن البعيدة في غفلة من رجال الأمن المنتشرين خارج البيت.

ومن أبرز خصائص شعر الشلطامي الأخرى، أسلوبه السردي الذي يكاد لا يخلو منه ديوان. فلقد أتقن شاعرنا مزج جنسين أدبيين ديناميكيين هما الشعر والقص ليجعل نصوصه تنبض بالحياة وهي تتفرع إلى مفاصل متّصلة يكمل بعضها بعضا ومبرزة وحدتها العضوية . ومن خلال القص يتنامى الحدث داخل القصيدة حيث يتجلى الحوار- الداخلي منه والخارجي – وتتوالى تفصيلات الموقف التي تتملك خيوطها شخصية الشاعر السارد ؛ ففي قصيدته “تحقيق” مثلا يقول:

وإذا تسأل عني

قلت للمستنطق الفاشي

إن الأغنية

كانت النار التي تدفعني

كي أتحدى سطوة النازية السوداء والعسكر

والليل الخرافي الحزين

وليكن، ما شئت حرّض

عبر مذياعك ضدي الساقطين

ولتكمم

قبل أن تبدأ وصلة تعذيبك

يا مجرم عينيّ

وترسم

فوق جسمي ما تشاء

تحيلنا عبارة (المستنطق الفاشي) في هذه الأبيات، المكونة من اسم وصفة، إلى مسرح مليء بالتفاصيل هو غرفة التحقيق أو الاستنطاق التي يديرها شخص فاشي لا يعرف قلبه الرحمة. وتضم هذه الغرفة أدوات التعذيب، الذي أشار إليه الشاعر بالرسم على الجسم كناية عما يتركه فيه من آثار، و يتخلل ذلك التعذيب فترات التحقيق ولا يستغرقها، كما توحي به كلمة “وصلة”.

والمحقق الفاشي هذا يملك سلطات واسعة خارج غرفة التحقيق تلك، فهو قادر على تحريض الساقطين من ميزان العقل والمبادئ عبر المذياع ضد المحقق معه، وضد كل من يتحدى النازية والعسكر؛ وهي إشارة لتحكم المستبدين في أدوات الإعلام وتسخيرها لتزييف الحقائق وإدانة المخالفين. وتظهر براعة الشاعر أيضا في استعماله عبارة التكميم للعينين، وهو استعمال مبتكر، إذ أن التكميم يستعمل عادة للفم منعا له من النطق، ولكن الشلطامي يستعمله هنا للعينين وهو ما يشير إلى قدرة عيني المتهم على بعث الرسائل وبث المعاني التي لا يحتملها المستنطق.

وتستمر تقنية السرد لتمدنا بتفاصيل موقف الاستنطاق الذي يمثل ذروة العقدة في عملية القص التصويري؛ لكن هذه العقدة ما تلبث إن تهبط من ذروتها بمفارقة درامية جديدة تضيف للقصيدة جمالية أخرى:

يجحظ المستنطق الحاقد عينيه

بعينيّ

ويرغي ويثور

وتميت الصعقة الهوجاء رجليّ

ولكني أغني

ويغيب السوط بعد السوط في لحمي

ولكني أغني

وأغني

وتسمى هذه المفارقة التي تجمع بين التعذيب والغناء بـ “مفارقة المفهوم”، حيث أن هناك ضحية تُعذب ومستنطق يذيقها العذاب، وهو ما يولد عند المتلقي رد فعل سلبي ضد التعذيب، ولكنه في نفس الوقت يولّد عند الشاعر رد فعل آخر مناقض وهو الغناء. ويمكن للدارس أن يعتبر ذلك توظيفاً للأسطورة التي تقول بأن البجعة يشتد غناؤها إذا نزفت!

ولتقنية السرد عند الشلطامي طقوس مميزة، فهو يبدأ في الغالب برسم الخلفية القصصية أو البيئة التي يدور فيها الحدث، ثم ينتقل إلى تصوير الشخصية التي هي غالبا ذات الشاعر ومشاعره لينتهي بعد ذلك إلى إشارات فلسفية أو سياسية أو وجدانية. وقد تبدو الأمثلة الواردة لاحقاً، وهي مقتطعة من سياقها، ضعيفة في موسيقاها الداخلية، بسيطة في مستواها الإبداعي؛ إلا أن الحكم على قيمتها يجب أن يتم من خلال وحدتها الفنية وعناصرها المتكاملة، وهي تدرج هنا كعينة لأسلوب الشاعر في رسم البيئة أو الخلفية التي تمهد للسرد. يقول مثلاً في قصيدته “عاشق من سدوم”:

وتعبق في الجو

رائحة العشب والطين والطلّ

هذا الصباح أتاك ليلقي

وراء حجاب السحاب المخضب

نظرته المطمئنة

فالأرض تستيقظ الآن

تنفض عن وجهها الرائع القسمات

النعاس

وتطفيء عبر مسارب هذي المجرّة

كل فوانيسها المتراقصة الضوء

تستيقظ الآن .. تستيقظ الآن

في الطين

والعشب والطل

يلقي الصباح الوديع على وجهها الرائع القسمات النظر

أما في قصيدة “حوار ذاتي” فإن الحدث يتقدم على تصوير البيئة، ويأتي الفعل الماضي ليعلمنا بأن الواقعة قد حدثت بالفعل وأنها مكتملة القسمات تتوالد تفصيلاتها منذ بداية القصيدة:

أطفأ سيجارته العشرين،

في فنجانه

وابتسم ومال

نحوي وقال هامسا

إن صح ما تزعمه الجرائد،

الحقيرة

فإن ما يفصلنا

عن موتنا يا صاحبي مسافة قصيرة

وتظهر تقنية السرد التي يكاد لا يخلو منها ديوان من دواوين الشلطامي متجلية بصورة أوضح في ديوانه “نص مسرحي من طرف واحد” حيث تحتل القصيدة التي تحمل نفس العنوان حوالي خمس وعشرين صفحة منه. ولم يوفق الشاعر- في نظري – في اختيار العنوان، فهو يوحي للوهلة الأولى بأن الديوان يضم مسرحية شعرية تنتمي إلى ما يسمى بفن المونودراما أو مسرحية الشخصية الواحدة، بينما نجد أن النص متعدد الشخصيات كالحاجب والشرطي والمستشارين والنائب العام والمتهمين جطط وغيرهم. ولعل الشاعر أراد الإشارة إلى أن النائب العام في المسرحية كان يكيل الاتهامات لشخصيات غيرت التاريخ ويقلب الحقائق ليدينها دون أن تدافع تلك الشخصيات عن نفسها فكان بذلك الطرف الوحيد في المحاكمة، أي أنه الخصم والحكم معا. وكان من الجدير بالقصيدة الحوارية أو المسرحية الشعرية أن تعنون بـ “محاكمة من طرف واحد”.

ومن الجدير بالتنويه هنا، للفت نظر الدارسين الشبان والمهتمين بالإبداع الليبي، جمال السرد وفن الحبك المتجلي في قصيدة الشلطامي الرائعة “يوميات مسافر” التي تستحق دراسة خاصة لما تحويه من سمات فنية يمتزج فيها فنا القص والشعر أيما امتزاج. وكذلك “قصيدة عن الفرح” التي تزخر بدورها بتقنية المفارقة والسخرية، والتي يصل فيها الشاعر إلى درجة عالية من الإبداع في الشعر السياسي، حيث تراه مبتعداً عن النسق الفكري الصارم، والنغمة الأيديولوجية المباشرة، وعن التركيبات اللغوية الخطابية، ليحوله إلى لقطة سينمائية وثائقية معبرة تنضح بالشعرية. ولا شك أن انتاج الشاعر مليء بالنصوص التي تستحق مقاربات ومدارسات فنية خاصة تستخرج معانيها وخصائصها اللغوية والتركيبية والأسلوبية.

وبإمكان الدراسة المفصلة أن تقف على أمثلة متعددة لتقنيات الشاعر الفنية ؛ ومن شأن المنهج الأسلوبي أن يتوقف عند طريقة تقسيمه البيت أو السطر الشعري على متتاليات تركيبية منفصلة، وعند ميله إلى استعمال الفاصلة، وعند تكرار بعض الأبيات أكثر من مرتين في ثنايا القصيدة الواحدة، وعند تحوّل الشاعر من التكلم إلى المخاطبة، وغير ذلك من السمات الفنية في النصوص العديدة.

كما أن بإمكان الدراسة المنهجية المتأنية العثور على شفرة الشاعر الأيديولوجية التي يحفل بها شعره السياسي – الذي يمثل غالبية نصوصه – وذلك عن طريق ابراز وتحليل جملة الدلالات والتراكيب الفنية للكشف عن مجموعة الأفكار والقيم التي تتسرب من ذات الشاعر، من أجل رصد انتظاماتها واكتشاف أنساقها المؤثرة في دينامية الأداء الشعري. وقد سبق أن توصلنا إلى التزام الشاعر الوطني الخاص والإنساني العام؛ ويمكننا أيضاً أن نستنبط من بعض النصوص المتفرقة توجه الشاعر اليساري الذي لا ينكره كما في قوله:

من منكمو يا سادتي

يقرأ من أجلي

ومن أجل اليساريين

فاتحة الكتاب

من منكمو يا سادتي

ذاق كما ذاق اليساريون

طعم الموت

من أجل أن تحتقروا

لما تحين ساعة الكلام ذل الصمت

وفي قصائد أخرى نراه يتغنى بالراية الحمراء والنجمة الحمراء، ويهدي سلفادور اللندي خمس قصائد، معلناً “فأنا أحمل في جنبيّ قلبا أممياً”، يفرح بالانتصارات في كمبوديا وتشيلي ولشبونة وآسيا وأفريقيا وضفاف الأمازون. منحازا إلى الملايين الفقيرة وإلى “أحلام حفاة العالم الثالث”.

ذكرنا أن شعر الشلطامي ينتمي إلى شعر الضحية المشحون بالألم والمعاناة وليس شعر البطل المتبجح بالانتصارات. وهذا الشعر هو أكثر أداء لمهمة التحريك والتحفيز الذي يتم في سياق غنائي وجداني متشح بأردية الروح المحلقة المتأبية على حقارة الطين؛ وحتى وإن بدت سطوره الأولى أقرب إلى الخطابية والمباشرة، فإنها سرعان ما تتحول إلى وجدانية وطنية محفزة:

قاوموا أعداءكم

وارفضوا كل القرارات التي

تنعي لكم أنفسكم

وازرعوا في كل نعش

بذرة أخرى لشمس لا تغيب

واصنعوا من كل قبر

منبراً يهتف للحرية الكبرى

وللحب الذي يأتي مع إطلالة الصبح الحبيب

ثم يستأنف نفثاته الشعرية ملقياً أسئلة فلسفية ومصيرية تجعل النفس تتطلع وتتسامى والروح تشرئب إلى أصلها العلوي الحر، الرافض لكل عبودية دنيوية:

ولماذا؟

آه لا نثبت للمرآة أنا

لم تزل فينا بقية

لم نزل نحمل في أعماقنا للشمس

وجهـاً رائعاً للبشرية

لم تزل فينا على رغم ليالي العقم والإرهاب

يا قلبي بقية

أشعلتها عبر ليل الهتلريين القساة

غضـبة الإنسـان لمّا

تزرع الأحذية السوداء والخوذة في عينيه مسمار المذلّة

فيثور الآن.. يستعصي على الترويض

يستشبع في إشراقه الرائع ذلّه

ومن التزامه الأدبي والفكري يتخلق إيمان شاعرنا بدور الكلمة وقدرتها على تغيير الواقع وكشف الحقائق، وهو يسمي هذا الأداء السامي للخطاب الأدبي بالغناء، لأنه لصيق بالقلب والنفس، ولأنه نغمات الضمير الحي في عالم تتصارع فيه الحرية والاستبداد، والخير والشر:

غـنّ فالكلْمة لا تثمر من أول عام

لا ولن يسمعها الآن أحد

غير سيف الدولة الطالع في كل زمان

وجريدة

وليكن،

فالكلْمة كالنخلة لاتثمـر

من أول عام

هذا مقطع مليء بالدلالات الكامنة داخل دوال متكررة في نفس القصيدة مثل سيف الدولة الذي يجب ألاّ يستدعي إلى مخيلتنا الوالي العباسي علي بن عبد الله الحمداني الملقب بسيف الدولة، فقد كان هذا راعيا للفن والعلم، وفتح للشعراء والعلماء والأدباء بلاطه وخزائنه واشتهر المتنبيء بمدح خصاله وجهاده للروم البزنطيين. فكلمة سيف الدولة هنا ليست سوى إشارة إلى الحاكم المستبد صاحب السيف الذي يسلطه على مخالفيه. وهو نموذج يتكرر في كل عصر ويحتل كل الجرائد، ويستمع إلى كل كلمة تنطق، حائلاً بينها وبين الوصول إلى الجماهير الموجهة إليهم.

وتمتلئ قصيدة “عن الموت والحب والحرية” التي أعطى الديوان عنوانها بالشفرات والرموز، وتكتظ بالمعاني والدلالات التي تحتاج إلى مقاربة خاصة. وفيها يتحدث الشاعر إلى كل مبدع كلمة بصيغة الغائب ليجسد عدم حضوره في واقعه وعجزه عن تغييره، فيقول طارحا سؤالا محرجاً الغرض منه الاستنكار:

كيف لا يكسر هذا الكاتب المثقل،

بالهم قيوده

ويموت

هادما أسطورة الموت العقيمة

رافضاً كل الشعارات القديمة

شاهرا سكّينه المسحور

في وجه الهـزيمة؟

ولكي يكون لهذا الكاتب الغائب العاجز حضور وأثر، فإن الشاعر يلّمح له عن الوسيلة إلى ذلك مبتعدا عن التصريح باللجؤ إلى الأسلوب الإنشائي مرة أخرى في صيغة سؤال الغرض منه التمني:

فلماذا الكلمات الدافئة

كالعصافير التي لن تتعلم

أن تطـير قبل أن يطلقها موت المغني

فالكلمات والأفكار تحيا وتخلد عندما يمهرها الكاتب دمه، وها هو موت الشلطامي يبعث أشعاره ليطلقها قارؤه الذين عبر عما يعتمل داخلهم.. فالكلمة الصادقة تصر دائما على أن تتصدى للسلطان المتجبر وتتوالد منتشرة على كره منه… فكلما ولد عصرٌ سيفَ دولة باتر تناسل من الكلمات سيف أقطع وأبتر ليقضي في النهاية عليه، وهذه كما نعلم سنة كونية:

يجهل السلطان أن الكلمات

الدافئة

كالعصافير التي ترحل في كل مكان

دون أن تحمل تصريح الدخول

يجهل السلطان أن الكلمات الخضر

لم تولد،

ولن تفنى

على بوابة القصر الكبير

ولذا يحفر قبره

حينما يحفر قبر الكلمة

وهكذا تعددت الخصائص الفنية في شعر الشلطامي؛ من الغنائية إلى السردية، ومن الوصفية إلى التحليلية إلى الفلسفية، ومن الرمزية إلى الواقعية، حيث يستخدم هنا وهناك المفارقة اللفظية مرة، والمفارقة الدرامية أخرى، ومفارقة المفهوم مرة ثالثة. كما تتعدد أساليب أدائه الشعري من الذاتي إلى الاجتماعي إلى السياسي، حيث تدور أغلب الموضوعات حول قضبة أساسية هي الحرية التي هي في جوهرها قيمة إنسانية مختلطة بأمشاج التكوين البشري؛ ولذلك أصبحت الإنسانية بمعناها الواسع هي الإطار التي تدور في حدوده قصائد الشلطامي وموضوعاته التي تدعو إلى إعادة الاعتبار للإنسان الذي كرّمه الله وامتهنته أنظمة الاستبداد.

هذه عينات من إبداعات شاعر مميز تربع على صفحة مشرقة من ديوان الشعر الليبي، امتشق يراعه في زمن استبد فيه سيف الدولة وكمم الأفواه وشوه الإبداع حين جعله يصب في مديحه وتعظيمه فنشر الإلزام الكاذب وخنق الالتزام الصادق .. ولكن الشلطامي – مع كوكبة من جيله المكابد – أبى إلا أن يخلص لرسالة الشعر، الباقية بعد كل السيوف المفلولة.

رحم الله شاعرنا وعوضه في الجنان وطنا خيرا من وطنه، وعشيرة خيرا من عشيرته.

______________________________

هوامش:

1.”كتابة على باب الزنزانة رقم 3″ في ديوان قصائد عن شمس النهار، ص 6.

2.ديوان ” قصائد عن الفرح” ، ص28-29.

3.السابق.، ص 13.

4.ديوان “قصائد عن شمس النهار”

5.السابق، ص 15.

6.ديوان”عاشق من سدوم”، ص 11.

7.ديوان”قصائد عن شمس النهار” ، ص 25.

8.السابق، ص 34.

9.ديوان “عاشق من سدوم”، ص 8.

10.السابق، ص 9.

11.ديوان ” أناشيد عن الموت والحب والحرية”، ص 49-50.

12.السابق، ص 51-52.

13.السابق، ص 64-65.

مقالات ذات علاقة

قراءة في رواية “رحيل آريس” للكاتبة الليبية د. فاطمة الحاجي

المشرف العام

العقيد

شكري الميدي أجي

دراسة لبعض جماليات القصة القصيرة.. قصة الكاغط محمد النعاس أنموذجا [1]

عبدالحكيم المالكي

اترك تعليق