سعيد خطيبي
يفضل جمعة بوكليب معارضة شهرزاد، لا يحكي ليلاً بل نهاراً، لا يعنيه أن ينوم القارئ ويسحبه إلى بلاد الأحلام، بل يلزمه بأن يظل مستيقظاً ويؤول الحكايات التي يقرأها، فهو لا يتخذ من أرض واحدة موطناً لحكاياته، بل ينط بين أكثر من أرض، من ليبيا إلى لندن وما بينهما، من سبعينيات القرن الماضي إلى زمن حاضر، من صحراء لا يهطل فيها مطر إلى بلد لا ينقشع الغيم عن سمائه، إنه يكتب في روايته «نهارات لندنية» عن عوالم جغرافية متحولة، لكنه يكتب، لا إرادياً، عن تحولاته الذاتية، من سجين سابق في زمن كانت فيه ليبيا لا تتلون سوى بالأخضر، إلى كاتب وقد صارت لليبيا ألوان أخرى، كي يفهم ذاته، وكي يكتب شيئاً من سيرة مختصرة، يستعين بوكليب بعدد لا بأس به من الشخصيات، التي سوف تعينه على أن ينظر إلى نفسه بحياد.
ذلك الشاب المندفع حين وصل إلى لندن قبل أكثر من ثلاثين سنة، الذي كان يقرر طبيعة علاقته مع المرأة قبل أن يتكلم معها، صار مع الوقت شخصاً حكيماً، يستشيره عرب ومواطنون له في قضاياهم، تحول من النقيض إلى النقيض في سفره من شمال افريقيا إلى بحر الشمال، تخلص من جلد قديم وتلبس جلداً جديداً، مع ذلك ما تزال هناك بقعة رمادية في القلب، بقعة تتردد طوال الوقت على لسان بطل روايته، أو في حكاياته، إنها بقعة سنوات السجن التي لم ينسها، لكنه يسعى إلى مداواتها بالكتابة.
رسالة البدء
يفتتح جمعة بوكليب روايته (الصادرة عن دار الفرجاني ـ القاهرة 2021) بحيلة فنية، من خلال رسالة يكتبها إلى صديقه محمد، يخبره فيها عن نيته في كتابة رواية، وهو الذي قضى عمراً في كتابة القصة القصيرة: «في الأيام الأخيرة، بدأت تناوشني فكرة رواية مرتبكة مثلي، وظريفة مثلك، في الوقت نفسه» يتوقع القارئ أن المؤلف سوف يصل في ذروة الحكي إلى تحرير الرواية التي تحدث عنها، في البداية، لكن من فصل إلى الآخر، ندرك أن الرواية الموعودة هي ذاتها «نهارات لندنية» كان يكتب روايته وفق إيقاع حياته، دون أن يدرك ذلك، قسم فصولها حسب أيام عاشها، كل فصل بعنوان، يبدأ بكلمة نهار، «نهار غير محايد جداً، نهار مربك ومتعب جداً، نهار عسير على القلب، إلخ» جاءت تلك الفصول قصيرة، مقتصدة في اللغة، والأهم أنها جاءت مقتصدة في الأحداث، بل أحياناً وفق أحداث مبتورة غير مكتملة، مثل قصة شخصية (سالي) أو قصة المرأة الليبية التي هربت ابنيها إلى لندن، ولعل ذلك كان خياراً منطقياً من المؤلف، في محاكاة ساخرة للحياة المبتورة التي عاشها، بوصف الحياة محطات غير مكتملة.
ففي هذه الرواية لا يعول القارئ على حكايات مكتملة، مريحة للعقل الخامل، ولا حكايات مستقيمة تبدأ من نقطة وتنتهي إلى أخرى، بل إنها رواية تورط القارئ أيضاً في لعبتها، تجعل منه طرفاً في مباراة السرد، تحمله على تخيل نهايات للأحداث، على ملء الفراغات، أن يشارك المؤلف في تصور حيوات للشخصيات ومصائر لها، مع أن الراوي يبدو صوته مهيمناً على جل النص، فإنه من حين لآخر يتنازل عن مقامه ويزج بشخصيات ثانوية في مقاسمته الحكي، يدخل أصواتهم في حكاياته المتوالية، ويجعل منهم أبطالاً مؤقتين، قبل أن يمسك بخيط النص من جديد لاحقاً، في هذه اللعبة السردية التي راهن عليها المؤلف، لا يمكن أن ننسى حرصه في استعادة الماضي، في تفخيخ الرواية بمشاهد فلاش باك، في ذهاب وإياب بين حياته السابقة في ليبيا وحياته الحالية في لندن، وعلى عكس «موسم الهجرة إلى الشمال» فبطل «نهارات لندنية» لا يبدو عليه أنه معني بصناعة تاريخ شخصي له في المهجر والعودة مظفراً إلى الوطن، لقد عاش الراوي بطولته في ليبيا، وحل في لندن كي يكمل حياته كاتباً لا نجماً فوق العودة، كما أن هذه العودة المتكررة إلى الماضي التي تتردد في الرواية، لا تدعو إلى الحنين والرغبة في الرجوع إلى أرض المنشأ، بل فقط عودة ماضوية لتتمة سيرته، لقد تخلص المؤلف من حنين الوطن، كما علمته صديقته الجزائرية، واقتنع بالعيش في لندن، لاسيما نهاراً، لأنه يقضى الليل وحيداً مخلصاً للكتابة.
أن تسافر إلى المهجر دون أن تغادر بيتك
لسنا ندري لماذا اختار المؤلف عنونة روايته ﺑ«نهارات لندنية» فالمتعارف عليه أن كلمة (نهار) تُجمع (أنهر أو نُهر) لكن هذا ليس خطأ، ففي اللغة العربية لا يوجد الخطأ والصواب، بل يوجد الشائع وغير الشائع استخدامه، لعله كان مصيباً في توظيف كلمة (نهارات) بحكم أنها الصيغة الأكثر استخداماً على الألسنة، لكن صيغة (لندنية) تحتاج إلى توقف، هل هي رواية عن لندن؟ ظاهرياً نعم، بحكم أن شخوصها يعيشون في لندن، لكن عدا توصيفات خارجية، في طرقات وشوارع وأسماء ضواحي أو أحياء لا نشعر بنبض لندن في الرواية، وذلك أمر له ما يبرره، فقد سافر الراوي إلى هناك محملاً بذاكرة ليبية، عاش في إنكلترا بذهنية ليبية، كما أن جل الشخوص الأخرى من عرب أو ليبيين من بني جلدته، صحيح أن المهجر قد جمعهم، لكنهم ظلوا يواصلون عيشهم من منظور عربي، يتعاملون مع الأشياء وفق تعليمهم الأولي في بلدهم الأصلي، فهم مهجرون من منظور إداري لا مندمجون من منظور روحي، أجسادهم في الشمال وعقولهم في الجنوب، هي بالأحرى رواية ليبية في مهجر لندني، وهذه علامة تحسب للنص، لم يعد العربي كما كان في الماضي، بمجرد أن يصل إلى الغرب يسرع الخطى منبهراً بسحر الأضواء والألوان هناك، بل يخبرنا جمعة بوكليب في روايته أن العربي لم يعد مسحوراً بالغرب، يذهب إليه مضطراً، بسبب ظروف سياسية أحياناً، أو اقتصادية في أحيان أخرى، لكن نبضه يظل وفياً للأرض التي جاء منها، لذلك نجد بطل الرواية يعارك الحياة الأوروبية بيدين ليبيتين، ينام في فراش لندني لكنه يحلم أحلاماً ليبية.
________________
كاتب جزائري
القدس العربي – 10 ديسمبر 2021