النقد

تراتيل الشاعر الذى أعياه الصمت

 

إبراهيم عميش

السنوسى حبيب الهونـى ملمح من ملامح المشهد الثقافى ، الأدبى والسياسى فى ليبيامنذ مطلع سبعينات القرن الماضى ،.. تعرّفت عليه من خلال ديوانه الأول ” عن الحب و الصحو والتجاوز ” ثم جىء به معتقلا سياسا إثر الإنتفاضة الطلابية الجامعية فى بنغازى فى ابريل سنة 1976م ليصبح أحـد رفاقى الذين أعتز بصحبتهم بين جدران السجون وفى المعتقل قرابة الثلاث سنوات قبل أن أهــرب من السجن يوم 3 سبتمبر ـ أيلول سنة 1978م ليبقى السنوسى حبيب عشر سنوات أخرى، وكان محكوما بالسجن المؤبد لأنــــه ” بارك بإسم الوطن كل الدمـاء التى عطّرت سـاحة الرفض من كل جيـــل “..

ولأنه من غير الممكن قراءة الإبداع الأدبـى بمعزل عن التاريخ الثقافـى المنتج له ؛ فإن السنوسى حبيب قـد تميز كما الشـلطامى بنظرته الشـاملة للإنسان والمجتمع و الكـون ، وعبّر بشـكل ايقاعى فنى عن حـال زمانـه وجغرافيــة مكانـه .. ” هــون ” فى قلبــه تحرك أشـجانه و ” بنغازى ” ملهمـة أشـعاره ، فكان “يحطم فى الأسـواق أضواء النيون ، ويُرجعُ للحــرف دفء الصدق والمعنى الخصيب.. ” .

عرفتـه حزينا متعبا يحمل هموم أحفـاده الذين لم يولدوا بعد.. تكسـو ملامحــه طيبة أبناء “هون وتستنطق كلماته الودودة مواجــع الوطن . فى سنة 1975م أصدر ديوانــه الأول ” عن الحب و الصحو و التجـاوز ,” رافقت فيه كل قصيدة من قصائده لوحــة للفنان الذى استنطق بريشته الإبداعية سـكون الأشياء ” عمــر جهـــان ” وصلى بأولى قصائده فيه ” صلوات لإنسان القرن القادم ” ورتّــــــل :

يا حزن العالم هبنى لحظة صحــو

كى أكتب كلمة حب لمـن أهـــــوى

علّى استنشق رغم العالق فى حلقى

أنفاس الحب

علّى فى برد ليالينا أدفـأُ لحظــــات

فى بسـمة طفل تتلمس قدماه الدرب

فى نظرة وجـه متـورد

اعيــاه الصمت

فى معول عامـل من شـعبى

فى قطرة ملح تذرفها عينا إنســان

ورفض السنوسى حبيب ان يغرق بين خيارى الواقع المؤلم الذى فرضته السلطة بأن يفقد مبادءه و يبيع قلمــه ، أو أن يهرب إلى المنفى النفسـى مدفوعا بجهل مجتمعه بحسب وصف الكاتب والأديب الليـبى يوسف القويرى ” ان المجتمع المتخلف المغلق يقذف طلائعه الثورية نحو المنفى النفســى ..” ولم يكن الصمت مجد فى مواجهة ما سميت وقتها ــ بالثورة الثقافية ــ ونكبة 16 أبريل سـنة 1973م ؛ فأعلن حبيب حزنه نشـر تراتيل صـلواتـه فى 27/ 11 / 1973م مدفوعا بإسـتشـعار روح الأديب فيه والفنان للحال واستيعاب اللحظـة التى سرقت فيها حـدة ســكين القاتل أثـار هـول الكارثـة وغيبـة الوعى، فأردف شاعرنا ينشد فى صلواته:

يا حـزن العالم مرتسـما فى نكبــة شـعب

بليت نعلاه على الطرقات وفى القاعـــات

والليل طويل والحادى قد ضل الــدرب

ها أنـذا تصفـع أذنّى كل الطرقــات

ماذا أعطيت لكى يعطيك الفـرح الـرب

* * *

يا حـزن العالم هبنى لحظة صحو أبديه

علّى أتخلص لحظتئـذ

من هذا الوحش الرابض فى قلبى

من هذا الوحش الرابض فى الساحات

وفى القاعـات المكتظة بالكلمات الصفراء

بضجيج الـزيف وبالتسويف وبالإرجــاء

احتـواه الحزن من هول الكارثــة التى وصفها بنكبة شعب بليت نعلاه على الطرقات وفى القاعات و تماثلت فجائعها بمفاعيل الناكب فى ســيناء و فى الجــولان ؛ واستشعر أبعاد الكارثـة و عمق مأسـآة الإنسان فى ليبيا، وطفق يلعن بحزنه عاهات الفكر وسـطوة الجـلاد وهو يعانق احزان (شيل ) ورثاء  (نيرودا) ، وحذّر السنوسى حبيب حزنا من الإغفاءة التى قد تطول حتى يولد من رحم المأسآة والليل الأسود الطويل إنسان القرن الواحد والعشرين المشرقة من عينيه صحـو اللحظات.

يا حزن العالم فى ” شيلى ” أنهار الدم

عبثت بالشاعر والإنسان

( نيرودا ) شاهـد هذا العصر

لا تتألم .. نم مرتاحــا

فسـلاح الفاشست العصرى

لن يرهبنــــــا

لن يقتل فينــا البذرة والإصـرار

و جميع المـدن المنهوبة فى عالمنا

ستهب غدا أو بعد غــد

لتقاضى الناهب والجــــلاد

و تولّد من رحم الأحزان ورحم اللي

إنسـان القرن الواحد والعشرين

إنسـانا تشرق من عينيه ومنشفتيIIالشمس

إنسـانا يعرف ما سـيناء وما الجولان

لا يرهب وهج الشمس ولا خوذات النازيين

إنسـانا يعرف ما الثورات وكيف يكون الثوريون

* * *

يا حـزن العالم هبنى لحظة صحـو

تمحـو زيف اللحظـات ——————–نشرت فى الاسبوع الثقافى 1973\11\27م

احتوى الديوان الأول للشاعر السنوسى حبيب على سـبع قصائد وثلاثة من ” تهاميش على مقاعدالمكتبة ” ثم ” الرؤيـة ” و ” قبل القبل ” و ” الاشـعار ” و ” البعد ” وتأتى ” لاشـىء ” قبل المقاطـــــعالخمس فى قصيدته الأخيرة ” إلى وحشـية العينين ” كتبها ونشرت جميعها فى الفترة ما بين 27/11/1973م و 24/12/1974م ، وجمعها فى ديوانـه ” عن الحب و الصحو و التجاوز ” فى ربيع سنة 1975م.

وقد تجلى عنصر الصدق والإخلاص لدى السنوسى حبيب ، وفى رؤآه لحقيقة الواقع وتحقق التزامه فى محاور ديوانه الثلاث ؛ الحب و الصحو و التجاوز مؤكدا انحيازه لقضية الإنسان والوطن ؛ وكانتالذات ممتزجــة فى قصائده امتزاجـا تاما بالموضوع وفى وحدة لا تنفصم مقاصدها بين الخاص والعام وبدرجة من الوضوح فى فهم الواقـع من حوله ، وقد زاوج الشاعر السنوسى حبيب محاور ديوانه الثلاث بالخيوط الأساسية التى يتألف منها نسيج المضمون فى قصائده ؛ الأحــزان .. الأحـلام .. الفعـل .. فنراه يستصرخ جيل الرفض فى ” احـلام ليلة باردة ” وقد تحجّرت الدموع فى مآقى بنغــازى الحبلى بالبذرة والحب .. وغدت حلماتها حجرية،..

لكنه ضـل يحلم ويبشّـر بالصحـو الذى سيشق ركام التاريخ ليتبرعم فى الأعماق ويضحى وهجا تتجاوز به زمن الخوف ، الصمت ، السـحل .. إلى زمـن الإرهـــاص..

إيــه يا احلام يومـى

مالذى تنبتـه الأحلام فى ليل السـبايا

و نجيمات الليالى الهمجيه

فى مطبات الهواء المكفهره

فى سـما بنغازى ذات الحلمات الحجرية

* * *

إيـه يا أحلام .. يا أحزان .. يا بعض دمائى والخلايا

يا تراتيل نبى فى زمـان ليس يعطى

غير نبت السـبخة الدكناء فى ( الكيش )

و أصباغ الوجوه المستباحة

غير تفـّات البغى إذا اشمأز الرافضون

و اكتساحات الرؤوس المسـتريبه

لأغـانى الفقراء الطيبين

وكأن بالسنوسى حبيب ينعى فى أحـلامه وبحزنه هذا أفراح جيله المؤودة فى ليل السبايا ويرجىء البشــارة بجيل سـوف يأتــى ليدحرج تلك الصخرة الرعناء عن جيله و تمتد به الأيام ليشهد الأرض الحبلى بالبذرة و الحب تروى بالصحو الأكيد.. يعانق ” أحجـار ” الشلطامى التى ” تورق فى أقسى جبل “:

إيه يا أحـزان .. يا أفـراح

يا أرضى التى تحبل بالبذرة و الحب

و بالصحو الأكيـد

آه لو تمتد بى الأيــام حتى

تولد اللحظة يوما فى روابيك النديه

( تورق الأحجار )(1) تعلوهمهمات الخافتين

وكأنى بحبيب هنا يحاور الشلطامى فى ديالوج ( dialogue ) الثائر ويسـأله :

من ترى يحمل تلك الصخرة الرعناء

عن جيلى إلى رأس الجبـل

ثم لا يألوا يدحرجها إلى أعلى إذا ارتدت

إلى القــاع

فلا يثنيـه خـوف .. لا كلل

ومن بعيد .. بعيد يخترق سـكون مقابر الأحياء صدى صوت الشاعر محمد الشلطامى يردد ” أنشـودة الحزن العميق ” و ننصت مع حبيب إليه :

حينما تسـمع مثلى

ضجة الموتى بصمت المقبره

فلماذا قاومونى

حينما باركت بالمشـعل ،

حـزن الكلمات

عندما يحلم ثائر

تورق الأحجار فى أقسى جبل

فلماذا قاومونى

حين فصلت بالأحرف خبزا ؟

وحــذاء

لملايين الضحايا ، فى جحيم المذبحة

و لماذا الأسـلحة ؟

قاومت حزنى لعرى الشــجرة ؟

ويستحضر السنوسى حبيب مأسآة ” الحلاج ” ويردد مع السّياب، يا نهر بويب :

إيه يا أفراح يا أحزان

يا برد الليالى الهمجية

كلما نـوّر فى الظلمـة و البرد شـعاع

سـجد الحلاج فى صمت وحيته السما

هـل أنا أنت وهل أنت أنـا ؟

ردد السّـياب يا نهر بويب

روّ جوع الأرض

عجّـل بالمطر

و أنا والليل والحزن العظيم

نبذر الحبّات كى يأتى المطر

* *

إيه يا أحزان كلّ الفقراء الطيبين

فى حقول الأرض فى كل البقاع

إيـه بنغــازى تحييكم وتضنيها الدموع

——————————– نشرت بمجلة فينوس 6/12/1973م

وفى مجرى صراع الإنسان مع واقع الأسى والمرارة وما يحفر فى القلوب ويغلى فى النفوس و يعتمل فى العقول إزاء الحقائق الموجعة التى تطالعنا بها الأوضـاع المرتبطة بالتخلف وبالقهر السياسى و الإجتماعى وبالإحباطات فى ليبيا ؛ ضربت سلطة القمع والإرهاب حصارا على إنتاج أد باءنـا الشرفاء ومارست عمليات عزلهم عن مجتمعهم .. منفيين بين جدران السجون، وفى عتمة المنفى النفسى بل وحاولت السلطة أن تفقد البعض حتى أنفسـهم ،.. وظل السنوسى حبيب كما هـو رغم كل المحن التى عُرّض و تعرّض لها مطارد بتهمة إقتراف التفكير !!! يجتر أحزان جيله ويُحرض على الفعل بـ” انبلاج

الأشياء الصامـة ” فى غـد يأمله ولن يخبو شـــعاعه:

أصــدقائى

ماتت الأحـرف فلتبكوا سقوط الكلمات

عندما يوهمكم قارضها الجرد الحقير

بالأمانى الرائعـــــات

أحـذروه

عفن التاريخ فيها والوجوه الكالحــة

فتشـوا فى معجم الأطفال عن كل المعانى

مزقـوا القاموس والمرشد وليحيـــــــــــا

ارتعاش العضـــلات

استطاع شاعرنا المناضل السنوسى حبيب بالأبنية اللغوية والترنيمة الموسيقية فى شعره أن يقوم بتعرية الواقع المؤلم فينقل لنا من خلال إنفعالاته أحــزان جيله ومأســآة وطنه ، وأن يحتـل مكانته فى شـعرنا الوطنى المعاصــــر حيّوا معى شـاعرنا الحبيب ( السنوسى حبيب ) شـفاه الله وعافاه ، وأعيدوا قراءة اشعاره ورســالته فى ” البعــد ” إلينـــا ؛

أصــدقائى

باركوا الفعل ، وكونوا الزيت

والقنديل ، والجيل المخاطر

كونوا الدم الفـوّار ، والإصرار

و الجــرح المصــــابر.

مقالات ذات علاقة

بعضاً من سيرة العبودية..

ناصر سالم المقرحي

قراءة في شخصيات “نزيف الحجر” للكاتب إبراهيم الكوني

أمينة هدريز

قصاص الأثر

المشرف العام

اترك تعليق