فريحة محمد
الخوف أبقاني حيا هي الرواية الليبية التي تثير جدلا وإن كان خافتا في الأوساط الأدبية في ليبيا وخارجها هذه الأيام وفقا ما قرأته في بعض الصحف الألكترونية، وهي نص روائي طويل نسبيا للروائي الليبي عبد الله الغزال صدر منذ سنة عن دار الانتشار العربي اللبنانية ولكنها منعت من العرض في معرض الكويت الدولي للكتاب بداية الشهر الماضي كما نشر موقع جيل نقلا عن جريدة القبس الكويتية.
وبالرغم من أن أسباب المنع لم تكن واضحة حتى الآن بالنسبة للمناخ الثقافي والسياسي الكويتي إذ أنها لم تتعرض بأي شكل من الأشكال للمواطن الخليجي بصفة عامة أو خاصة أو حتى الحياة السياسية أو الاجتماعية هناك، إلا أن بعض المتابعين يرون في الروائي الغزال ظاهرة قد تقلق بعض الجهات التي تريد دائما أن تضع النصوص الإبداعية تحت رحمة مقصلة السلطات الرقايبة وهي في الغالب أجهزة أمنية ذات رؤى ارتيابية تفسح الكثير من وقتها وجهدها لتعداد أنفاس المبدعين ورصد حركاتهم وسكناتهم وخصوصا إذا أحاطت بذلك المبدع شبهات شك بأنه لايظهر ولاءه صراحة للسلطة الحاكمة. وقد تنطبق هذه الرؤيا على الروائي عبدالله الغزال وفقا لما أورده محمد الأصفر في مقدمة لقاء صحفي معه (وهو اللقاء الوحيد الذي ظهر فيه الغزال بصوته وصورته) وقد نشر في مجلة الثقافة العربية قبل أكثر من عام.
والذي يقرأ الخوف أبقاني حيا لابد له من أن يقف أمام هذا النص الطويل بداية من عنوانه الطويل أيضا الذي ينعطف به الكاتب انعطافة جديدة مغايرة لعناوين نصوصه السابقة وهي رواية التابوت ورواية القوقعة والمجموعة القصصية السوأة (التي لم أقف عليها حتى الآن) حيث اقتصرت جميع هذه العناوين على كلمة واحدة فقط (التابوت-القوقعة- السوأة)، أما عنوان هذه الرواية فهو جملة طويلة غامضة وحمّالة أوجه قد توحي بالكثير وإن كان ما يرشح منها فيضا شعريا بالأساس.
كما أن القارئ سيجد نفسا آخر غير مألوف في الرواية الليبية وهو معاصرة هذه النصوص الإبداعية للتاريخ والوقائع المعاصرة التي ظلت (باستنثاء الغزال) بعيدة كل البعد عن يد من يكتبون السرد، لأن المتتبع للنصوص الروائية الليبية سيلاحظ ابتعادها عن أي حدث بعد سنة 1969 وبالتالي عن أي معالجة لحدث معاصر منذ هذا التاريخ، إذ يمكن القول أن الروايات الليبية جميعها وتقدر بحوالي 185 رواية تنأى بنفسها إلى ساحات الماضي وتتخذ من المادة التاريخية (نصوص الكاتب الروائي خليفة حسين مصطفى ونصوص أحمد إبراهيم الفقيه وعبد الرسول العريبي وغيرهم) ركيزة أساسية في كتابة النصوص. والبعض الآخر لجأ إلى خوض مغامرة أخرى بركونه إلى الكتابات الأسطورية واختيار الأزمنة والأمكنة الملائمة لها دون أن يستطيع مقص الرقيب النيل منها بحجة عدم مساسها بمزاج الدولة بل على العكس، فمثلا فقد بدا واضحا التقارب الكبير بين الإنتاج الروائي إبراهيم الكوني وبين التوجهات السياسية والفكرية للسلطة في ليبيا (رباعية الخسوف) وهي من باكورات الإنتاج الروائي والقصصي للروائي الكبير إبراهيم الكوني وهي تربو عن ستين مؤلفا. كذلك يمكن بوضوح شديد ملاحظة أن التجارب الإبداعية (على ندرتها) عند الأجيال الشابة التي في الغالب نشأت وترعرعت في أحضان المؤسسات الثقافية الرسمية التي تهيمن عليها وتوجهها وتنفق عليها الدولة.
وعلى ما سلف ذكره، لعل نصوص عبدالله الغزال هي النصوص الوحيدة واليتيمة المطروحة الآن على الساحة الثقافية الليبية من حيث كونها تتعالج مع إشكاليات الحياة المعاصرة (بخجل شديد ولغة يغلب عليها طابع الحذر) وتحاول تفعيل الأدب الروائي والعودة به إلى معاصرة الأحداث بدل اللجوء إلى الركام التاريخي أو الاشتغال على الشكل الظاهري للنص من حيث توظيف اللغة وبما في ذلك أيضا أسطرة الأدب الروائي شكلا ومضمونا كما هو الحال في جل أعمال الروائي إبراهيم الكوني كما سبقت الإشارة وهي ظاهرة لها روادها في تاريخ الكتابات السردية الطويلة في العالم.
ولعل من المهم القول بأن الخطاب السردي لدي الروائي عبدالله الغزال كان جريئا إلى حد ما بالرغم من إذ طرح في روايته الأولى المعنونة بالتابوت قضية الحرب الليبية التشادية في ثمانينات القرن الماضي وهو ما لم يتجرأ أي كاتب ليبي على الإشارة إليه من قريب أو بعيد لعلمه بأن الخوض في مثل هذه المفاصل الحساسة من التاريخ السياسي الليبي قد يثير غضب الدولة الليبية، ثم تأتي روايته القوقعة التي قدم لها الناقد المغربي سعيد يقطين لتثير قضية أخرى بالغة الأهمية على المستوى المحلي في ليبيا وهي حالة البؤس والحرمان التي يعانيها الليبيون ولجوؤهم إلى تونس للتدواي بالرغم من إمكانيات الدولة النفطية الهائلة ممثلة في بطلة الرواية ناسكة وهي الشخصية المحورية التي فقدت أمها ثم عذريتها في تونس في مأساة إنسانية ألجأتها إليها الحاجة والظروف القاسية، ربما أراد الكاتب أن يوصل رسالة ما عن حالة الحرمان والتدهور الاقتصادي والاجتماعي التي تسود المجتمع الليبي وخاصة تحت ظل الحصار السياسي والاقتصادي الذي تعرضت له ليبيا في التسعينات من القرن الماضي.(1)
ثم تأتي روايته الخوف أبقاني حيا لتسرد بوضوح وفي سلاسة محزنة حكاية طبيب ليبي يعيش وأصدقاؤه يوسف وحامد حالة مخيفة من التفسخ والإرهاق النفسي والضياع وكما سماها الناقد الليبي عبدالحكيم المالكي (يدخل عبدالله الغزال بالرواية مدخلا جديدا يمكن تسميته بسرد الأعماق المشوهة)(2) هذه الحالة من الضياع تنتهي بحامد إلى الانتحار وتنتهي بيوسف وهو فنان تشكيلي إلى الموت بعد يقينه بأن حياته لايمكن احترامها على أي وجه كانت حيث لا ماضي يدافع عنه ومستقبل مأمول يدافع عنه وخصوصا عندما يعرف بطريقة ما أنه ابن سفاح من والد صديقه طبيب الأطفال. لا يمكن الوقوف عند ظاهر الحكاية فالمكر السردي لدى الكاتب بالإمكان تحسسه بطول النص حيث يلوح أن سلسلة الأحداث التي تشكل في مجموعها الحكاية الكبرى للرواية ما هي إلا إشارات وتوريات باطنة لحكاية أخرى أكبر قد يكون الأستاذ المالكي يلمح إليها عندما كتب في مقدمة الرواية (ينطلق السرد من أعماق هذه الذات المأزومة في لحظة من أشد لحظاتها عتوا وعصفا وضياعا بين رياح الشك والشعور باليقين المهزوم، ومعها ومع هدوئها القاتل نبدأ رحلة النكش عن أسرار مجتمع روائي متكامل مثخن بالمحن) لتجسد القول الشهير (المعنى في بطن الشاعر).
أما الدكتور مصطفى الشقماني الذي وصف الكاتب عبدالله الغزال بأنه موهبة نادرة في تحليل النفس البشرية في ورقته(3) التي ألقاها في مؤتمر تداخل الأنواع بجامعة 7 أكتوبر فإنه سيجد نفسه مستوى آخر أشد عمقا وبراعة في قدرة الغزال الهائلة على تشريح النفس البشرية عندما يلقي بنفسه في عوالم رواية الخوف أبقاني حيا.
وتسرد الرواية بأسلوب بارع ماكر ولغة نادرة تدمير السلطة لغابة النخيل وهي –على ما يبدو- رمز وطني لتراث الأجداد، ولا تخلو الرواية من إشارات واضحة مفعمة بسخرية سوداء من السلطات المحلية وتتفيه لكل ما يصدر عن هذه السلطات، وحالة الرضا والاستكانة التي تسيطر على الناس وهو يشاهدون الجرافات وهي تدمر الغابة وهي أقدم رمز في المدينة.
هذه الرواية التي كانت ضمن قائمة الكتب الأعلى مبيعا في مكتبة النيل والفرات حققت رواجا كبيرا في ليبيا وخارجها وفق الإحصائية اليومية لمكتبة النيل والفرات ربما لأنها تتكلم عن المسكوت عنه حتى في ضمائر القراء العرب الذين يرون المسافة الشاسعة التي تفصلهم عن أماكن صناعة القرار في بلدانهم، وربما وجد فيها الجيل الجديد من المهتمين بالكتابات الأدبية تعبيرا مباشرا عما تمتلئ به نفوسهم من أحاسيس بالضياع والانتماء إلى أوطان ولدوا فيها وترعرعوا فيها ولكنها غريبة عنهم في الوقت ذاته حيث لا اتصال وحيث فقدان الهوية يتجلى في أشد صوره مرارة، وتصويرا مباشرا عن مأساة المواطن العربي بصفة عامة ويأسه وغربته داخل وخارج وطنه.
هذا الطرح الذي بدا واضحا في منتصف الرواية من خلال رصد الكاتب للبطل وهو يتجول في شوارع طنجة ويشاهد العذابات البشرية في عيون الشيوخ الطاعنين في السن في أزقة شوارع طنجة وباقي مدن المغرب الذين يتسولون على أبواب المطاعم والشباب العاطلين.
ولكن قصة هذه الرواية الطويلة –وهي متعددة الفضاءات- لا تنتهي بموت حامد أو موت يوسف في النهاية بل على العكس تمام تبدأ عندما يشعر القارئ بأن حامد مات وفي صدره سر كبير لم يبح به لأحد وخاصة حين يعرف بطريقة أو بأخرى أن صديقه يوسف ليس إلا ابن سفاح من والد الطبيب راوي الرواية. الرواية كلها كما قدم لها الناقد الليبي عبدالحكيم المالكي نسيج معقد من الشخصيات والأحداث المتوالدة التي تضع القارئ أولا وأخيرا في مواجهة حقيقة مع ذاته أولا ثم في مواجهة أخرى قد لاتقل دموية مع أنماط المعيشة المحكومة دائما بالقرار السياسي.
بطل الرواية وهو طبيب أطفال يقف في واجهة مع هذا الواقع وفي مواجهة أخرى مع نفسه المرهقة وأحكامه الخاطئة دائما وعلاقته المتوترة مع الأشياء حين يكتشف خسته وهو يخون صديقه المقرب يوسف الفنان التشكيلي مع أخته، لكنه مع هذا يحاول في النهاية الوقوف على قدميه بعد خروجه من مصحة المجهدين عقليا، ثم حامد الشخصية الأكثر غموضا في الرواية وهو الشخصية الميتة الحية وهي مزروعة على ما يبدو في النص بطريقة متعمدة وبذكاء شديد استطاع الكاتب عبدالله الغزال أن يستخدمها ليسرب من خلال مثولها المستديم في ذهن المتلقي ما أراد أن يسربه من قلق وحزن وتشتت وتفاهة الواقع المعيش منذ بداية النص حين قام حامد بحرق دفاتره وتكسير عوده وتطليق زوجته ثم قتل نفسه هربا من حياة بائسة لا يؤمن بها. هذا الواقع الباطني المأساوي للطبيب (..لتصبح عوالمه الباطنة صورة حية للواقع الليبي والعربي المعاصر وليصبح هذا الواقع الذي صار مجتمع الرواية أداة الروائي يطرق بها ما يريد طرقه من أبواب أزمات الأوطان المخلخلة)(4)
هذا الطبيب الشاب الدميم يسافر إلى طنجة بالمغرب ثم يسافر إلى بادية من بوادي ليبيا ثم يعود متقوقعا على نفسه في غرفته (وهي رمز آخر) راسما العالم من حوله في حالة من السوداوية القاتمة على نحو لا مثيل له في السرد الليبي المعاصر، لكنها السوداوية المرهونة والمستمدة من محن خارجية وداخلية لا تحصى لعل أهمها محنة الدونية والتضاؤل أمام واقع متدفق بالجبروت كان أثقل من أن يتحمله على عاتقه المرهق بالعذابات الخاصة.
بوضوح يمكن القول أن هذه الرواية التي حظيت بكلمة من الناقد السوري الدكتور سمر روحي الفيصل والدكتور سعيد يقطين والكاتب والمترجم الأمريكي إيثان شورن (الكلمات الثلاثة على غلاف الرواية))5) قد تكون بداية انعطافة هامة في مشوار السرد العربي الحديث وقد تكون من النصوص الهامة التي قد تقدح شرر ما يسمى بالنضال الفكري ضد الظروف الواقعية المعاشة.
__________________________________
* طالبة دراسات عليا.
(1) القوقعة دار الانتشار العربي 2006.
(2) الأستاذ عبدالحكيم المالكي مقدمة رواية الخوف أبقاني حيا.
(3) الدكتور مصطفي الشقماني مؤتمر تداخل الأنواع المنعقد بتاريخ 18/11/2009
(4) الأستاذ عبدالحكيم المالكي مقدمة رواية الخوف أبقاني حيا.
(5) الخوف أبقاني حيا دار الانتشار العربي 2008.