عام 2013 كنت قد يئست من لقاء الأستاذ يوسف القويري، فما سألت أحدا عنه إلا أجاب آسفا بأن آخر العهد به كان قبل السابعْ عشر من فبراير. وكتبت في موقع نادي هواة القراءة مقالة بعنوان ابحثوا عن يوسف القويري، تفضل بإعادة نشرها الأستاذ رامز النويصري في بلد الطيوب.
ومرت ثلاث سنوات نسيت فيهن هذه الأمنية، ولذا كانت سعادتي كبيرة عندما نقل إليّ الأستاذان (محمود البوسيفي) و(زكريا العنقودي) رغبتهما في أن أحاور الأستاذ، وأن ينشر هذا الحوار في صحيفة جديدة كانت ستصدر من القاهرة، ليطل في عددها الأول على قرائه بعد الغياب الطويل.
قد تنبأ الأستاذ يوسف القويري في قطرات من الحبر بأن دراسة الظواهر الروحية علميا سيقضي على الخرافة إلى الأبد، ونحن نرجو ذلك لنفهم السر في أن اللقاء الأول بيننا وبينه تم في الظلام الدامس، والثاني ضاع، والثالث لم ينشر، والصحيفة الجديدة لم تر النور. ( وكان حاضرا في المرات الثلاث الأستاذ عبد الحكيم القبائلي ).
كان الحوار الأول يتناول حياته، وقد نشرت صحيفة الأيام فيما بعد حديثا مع الأستاذ ولم يكن فيه كثير اختلاف عن الحوار الضائع. وكانت مفاجأة الحوار الثاني أن الأستاذَ يكتب كتابا جديدا بالاشتراك مع الأستاذ حسام الفطيمي بعنوان [ تحرير اللغة ]. فأخذ الحوار هذا المسار تلقائيا، وهو موضوع هذه الورقة: آراء الأستاذ حول اللغة، وهي في عمومها متأثرة بلا شك بالمدرسة التي عبر عنها كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية لسلامة موسى أكمل تعبير. فكان السؤال: ما مدى تمثل القويري لهذه المدرسة وتعبيره عنها، وما مدى اقترابِه منها أو ابتعاده الآن، بعد تجربة طويلة للكتابة والتأمل والتفكير الطويل؟ كان مشروع هذه المدرسة خلقَ اللغة المثلى التي لا تلتبس كلماتها ولا تتشابه عن بعد أو قرب، اللغةَ التي تؤدي المعاني في فروق واضحة كالفرق بين العددين خمسة وستة.
وظل سؤالها: هل نستطيع أن نصل في جميع الموضوعات إلى لغة تنقل إلينا الفكرة الفنية أو العلمية أو الفلسفية بمثل الدقة والسهولة اللتين ننقل بهما إلى أذهاننا عددا، كالمائة أو الألف؟ بدأت الأسئلة بنشأة اللغة، قال الأستاذ يوسف القويري إنه ناقش مع الأستاذ حسام الفطيمي هذه المسألة شفويا ولم يدونها بعد، وأن تركيزهما كان على فكرة التعليل الخرافي لنشأة اللغة واستبدال التفسير العلمي به. ومضى يقول: في البدء كانت الإشارة، اللغة نظام إشاري مثل التلغراف، نظام شفري شفرته ليست سرية، بل إشارات يترجمها من تدرب عليها.
ونحن نجد هذه الآراء مبثوثة في قطرات من الحبر: “ نشأت اللغة نشوءا تاريخيا لا نشوءا كهنوتيا، تكاملت وتهذبت بالتدريج عبر العصور المتعاقبة “. هو هنا يمثل المدرسة آنفة الذكر أحسن تمثيل، فهي المدرسة التي تعتمد على التفسير التطوري لنشأة اللغة عند الكائن البشري، وتجعل اللغة سببا ـ وربما نتيجة كذلك – من الأسباب التي أدت إلى تطور الإنسان، إلى جانب الأسباب الأخرى كحجم الدماغ، وانتصاب القامة، والمدى الواسع الذي أتاحه الاعتماد على النظر بدلا من الشم.“ للحيوان صوت وللإنسان لغة. صراخ الحيوان ذاتي يعبر عن إحساسه. ونداء الإنسان موضوعي ينقل إحساسه إلى غيره.
اللغة هي التي جعلت الزمن تاريخيا، والفضاء جغرافيا. ولم يكن كلا الأمرين ليتحقق لولا الكلمة “. ومن نافلة القول هنا تأكيد رفض الأستاذ للنظرية التي ترى أن العربية أم اللغات، أو أنها اللغة التي تكلمها آدم، وقد اكتفى بأن يقول إن احتمال اشتراك العربية مع غيرها في أصل قديم قائم ولكنه يدخل في باب الظن. والحقيقة، وقبل أن يتكلم عن نشأة اللغة، كان أول خاطر خطر على نفسي بعد أن سمعت كلمة [تحرير اللغة] هو أن الكتاب سيتناول مشكلة من أخطر المشاكل التي تعيق تطور العربية، وهي تأخر ظهور المعجم التاريخي للغة العربية، يتتبع اللغة مفردة مفردة، مبينا تطور دلالتها والمعاني التي اكتسبتها أو فقدتها عبر الزمن، هذا المشروع فرغت من إنجازه اللغات الأخرى منذ وقت طويل، ولم يشرع فيه عندنا إلا قبل سنوات قليلة. وأحببت أن آخذ الحديث إلى هذه المسألة، قال الأستاذ: لم نقترب في بحثنا من هذه المسألة بالذات، لقد تكلمنا عن الدلالة القاموسية للمفردة، كما هي في المعاجم الكلاسيكية، واختلفنا بصورة خاصة مع الذين يدافعون عن المترادفات، ويعدونها عماد اللغة، ويرون أنها خيارات، أنا أرى أنها تسبب اضطرابا للقاريء، لماذا يكون للأسد هذا العدد الكبير من الأسماء؟ الأسد لا يجب أن يكون ليثا وسبعا وضرغاما، يكفيه أن يكون أسدا؟
وما الحاجة إلى مسائل تؤدي إلى إرباك – حسب رأيه – من قبيل الفرق بين العام والسنة، ألا يكفي أن نقول سنة أو نقول عاما؟ وهذا هو الملمح الثاني الذي يذكرنا بمدرسة سلامة موسى. فإن تلك المدرسة – وأحيل إلى كتاب البلاغة العصرية – ترى أن اللغة الحسنة تتوقى المترادفات لأنها ثرثرة صبيانية يضيع بها الوقت، والكاتب الذكي يحيل المترادفات من التوحيد إلى التنويع، إننا نميز الآن بين الذهن والعقل، وبين الروح والنفس، وبين الحكومة والدولة، وبين المثقف والمتعلم. وهذا حسن، كذلك نحن نتبع الأسلوب التلغرافي، ونتخير الكلمة التي تحمل العبرة فضلا عن المعنى.
وجدير بالذكر أن الرد على هذا الرأي جاء بأن هذه الدقة القاموسية في التفريق بين المفردات مرآة تعكس عقليةً ونمط حياة ورهافة شعور عند القوم الذين تطورت اللغة على ألسنتهم عبر العصور. بل كان من علماء العربية الكبار من نفى وجود مترادفات في العربية، كأبي هلال العسكري في كتابه الفروق في اللغة.
الملمح الثالث من ملامح هذا المدرسة هو الدعوة إلى العامية، وحجة الداعين إليها – وكانوا اشتراكيين – أن الخطاب يجب أن يتوجه إلى عامة الناس، وهم لا يفهمون الفصحى. وتوقعت أن تكون العامية ضمن مباحث الكتاب فسألته عنها، وأكد أن البحث يخلو من هذه المسألة، عدا إشارة إلى استعمال الجاحظ للعامية في بعض المواضع، والانتقاد الذي وجه إليه بسبب ذلك. ومضى يتكلم عن ضرورة تيسير القاعدة، محترزا بقوله إننا لا نطالب بإلغاء النحو والصرف، بل ندعو إلى التيسير، نظام الأعداد مثلا فيه تعقيد شديد جدا حتى إن الطفل يعجز عن استيعابه.
والحقيقة أني لم أقف على رأي للأستاذ في هذه المسألة، وإن كنا نجد إشارات إلى مشكلة الأمية عامة، لا مشكلة فهم الفصحى الخاصة، فنجد في كتابه في الأدب والحياة نصا يقول فيه: المسألة ليست أداة الإيصال، بل المشكلة الأمية. على ما في الكتابة الاضطرارية بلغة المستعمر من مخاطر الانفصال غير المقصود عن روح التراث القومي“. “إن المشكلة في الجزائر ليست مشكلة الكتابة بلغة أجنبية كما يبدو لأول وهلة، فالطبقة الوسطى الجزائرية تملك ناصية الفرنسية امتلاكا كاملا، وللفرنسية قاريء جزائري للأدب، وليس حنين الأدباء الجزائريين إلي اللغة القومية لب المشكلة، المشكلة هي أن غالبية المجتمع الجزائري هي من الفلاحين والعمال بمعزل عن الارتباط. وكأن الحل عند القويري يكون بالقضاء على الأمية، لا بالنزول إلى مستوى لغة الشارع. ويوشك أن هذا هو الملمح الوحيد الذي نلمس فيه للقويري ابتعادا عن الخطوط العريضة المميزة للمدرسة المذكورة.
أما الملمح الرابع فهو قضية التعريب، وكانت هذه القضية محور الجدل الذي أجبر الحوار على تجاوز الشكل الصحفي، والتحول إلى الجدل الحقيقي الذي طال فلا تسمح هذه العجالة بالإفاضة فيه، ولكن يكفي أن أشير منه إلى رفض القويري تسمية computer، بالحاسوب، قائلا: علينا أن نسأل أنفسنا: حتى إن سلمنا بأن هناك إجماعا على قبول كلمة حاسوب، هل تؤدي كلمة حاسوب المعنى الذي تؤديهالمفردة الأجنبية؟ أنا أرى أن استخدام الكلمة الأجنبية كما هي أولى من نقلها إلى حاسوب، والسبب أنها “ لا تؤدي المعنى الدقيق للعمليات التي يقوم بها هذا الجهاز“.
إن رأي المدرسة التي يمثلها سلامة موسى هو أن كلمات اللغة هي بمنزلة النقود التي نتعامل بها، وكثيرا ما يكون فيها النقد الزائف، أو القديم الذي بلي وانمحى منه نقشه. الأمة التي تهمل كلماتها ولا تجددها، ولا تسك الكلمات الجديدة هي أخسر من الأمة التي تجيز التداول للنقد الزائف، لأننا نشتري بنقود المعدن أو الورق حاجات الجسم، ولكنا نشتري بالكلمات حاجات الذهن والروح والعقل. ولكن كيف تسك الكلمات الجديدة؟ يقول سلامة موسى: إن الكاتب الذي يستبيح اعتناق الكلمات العلمية كما هي بلا ترجمة، إنما هو في الواقع يستبيح حضارة العلم والمنطق والرقي الصناعي، بدلا من حضارة الآداب والعقائد والزراعة , إلى حضارة أرقى هي حضارة العلم والمنطق والصناعة،أما القويري فيعلل ذلك بقصور المفردة العربية عن أداء المعنى الدقيق.
ولا يمكن أن نذكر هذا دون أن نأخذ على الأستاذ تجاوز المنجز المجمعي المتحقق خلال سنوات طويلة في مجال التعريب. كما رفض القويري حجة “ التعريبِ للتيسير” ,وسيقت أمامه حجة لأحد أهم علماء اللغويات الليبيين هي أن التعريب غايته التيسير، فإذا أخذنا كومبيوتر وقنعنا بذلك، فكيف سنترجم الفعل: computerize، إن حاسوب تعطي إمكانية أفعال مثل حوسب يحوسب، بدلا من الخيار المضحك “يكمبتر” الذي لا مفر منه إن رفضنا التعريب. كان رد الأستاذ القويري على هذه الحجة: [إن اللغة ليست فهلوة].
هذه لمحة شديدة الاختصار، شديدة القصور، لا يمكن وصفها إلا بالانطباع العابر، الذي يحتاج إلى مزيد من البسط والتحليل، حاولت فيها أن أجد فيها إجابة، هو ما مدى تمثل القويري لمدرسة سلامة موسى في كتابه المرتقب [تحرير اللغة] من خلال إنتاجه السابق ومن خلال الحوار المطول، ولئن كان الجواب اليقيني مازال حبيس الورقات حتى يظهر الكتاب، فإن الجواب المؤقت هو أن القويري مازال وفيا لتلك المدرسة، معبرا عنها في العموم، لولا إهماله لمسألة الدعوة إلى العامية، ولولا منحى خاص في الرأي حول التعريب، سننتظر الكتاب حتى نفهمه حق الفهم.
[divider]
طالع أيضاً: القويري وستون عاماً من العطاء.
طالع أيضاً: يوسف القويري . . مسيرة ستون عاماً.