عندما انتهى من سرد حكايته انفجر الجميع بالضحك رغم وجودهم على كراسٍ متلاصقة في أحد المآتم..ما يدعو للضحك هو تصور حال شخص وقد وجد نفسه في ورطة تم إعدادها بإتقان، وكأن أحداً ما كتب السيناريو بحنكه وأن ثمة مخرج نفذه .. روى السارد حكايته كالآتي : كان يقام في شارعهم عرس لأحد أبناء الجيران ، كان اليوم عاصفاً وقد ذهب الجميع وبقى هو في بيته المفتوح مباشرة على الشارع الرئيسي ، ولأنه نادراً ما تتاح له مثل هذه الفرصة ، وكانت في الحمام أنواع مختلفة من الشامبو الذي تستخدمه البنات ، راودته فكرة أن يجرب هذه المركبات الملونة التي تبدو كأنواع من العصير المغري .. خلع ملابسه عدا الداخلية منها، وضع رأسه تحت الماء وسكب قليلاً من الشامبو، وصار يلهو بالرغوة التي تتكاثر فوق شعره الأشيب، وفي تلك اللحظة سمع طرقاً على الباب، اقترب من الباب وسأل عن الطارق ،فوصله صوت أحد موظفيه يقول: لديك رسالة من العمل . ولأنه في وضع لا يسمح له بأن يظهر للضيف طلب منه أن يدخلها من تحت الباب، وحين حاول التقاطها بطرف إصبعه انزاحت الرسالة إلى الخارج، ففتح الباب بسرعة ليلتقطها دون أن يراه أحد ، ولكن بمجرد أن فتح الباب سحبتها الريح مسافة أبعد فلحقها بسرعة، وفي تلك اللحظة أقفلت الريح الباب عليه في الشارع ، وفي اللحظة نفسها مر موكب العرس وجميع من في السيارات التي تطلق زماميرها ينظر باستغراب إلى شيخ يرتدي ملابس داخلية، تغطي رأسه ووجهه الرغوة، ويدور حول نفسه. الورطة الإنسانية المخرجة بدقة تجعل الإنسان فعلاً يدور حول نفسه، ذاهباً إلى أن ثمة قوى خفية تدير مثل هذه الورطات بحنكة، وكانت الريح بطلة هذا المقلب وكأن صفيرها تحول إلى ضحك صديق ورط صديقه في مقلب محكم .. كثيراً ما يحس أحدنا بأن الأشياء لها عقلٌ وتتآمر عليه، كأن تحصل على مبلغ مالي فتتعطل ثلاجة البيت، أو تتوقف سيارتك في مكان مزدحم يشتمك فيه العابرون جميعاً .. حدث مرة أني كنت أقل أحد أصدقائي ليلاً إلى غرفته المجاورة لمخيم الطاقم الطبي البولندي لمستشفى درنة وانتظرته ليحضر لي أحد الكتب، مرت بقرب سيارتي ممرضة بولندية تقود كلبة صغيرة ناصعة البياض وقد تهدل وبرها المسرح بعناية على وجهها وجانبيها ، وفي اللحظة التي كانت تقطع فيها ساحة ترابية كثيرةُ القش هجم عليها كلبٌ متشرد من الجوار يبدو أنه يعاني كبيئته حالة قصوى من الكبت، أخذ الكلب يطارد الجروة المدللة، التي أخذت تلتف بالحبل حول ساقي الممرضة ، التي كانت تصرخ بأعلى صوتها حتى سقطت وهي تضم الكلبة على صدرها، والكلب الليبي منحنٍ فوقهما .. في تلك الأثناء كنت أركض تجاهها، وركلت الكلب بقدمي، فعوى ولاذ بالفرار واختفى .. خرج بعض سكان المخيم واقتربوا من موقع الحدث وهم يحدقون بي .. المرأة كانت تصرخ وثيابها مليئة بالتراب والقش، وأنا واقف بجانبها مرتبكا ، الورطة محكمة وتم إنجازها في وقت قياسي ودون خطأ.. ولولا أن استعادت الممرضة وعيها وشدت على يدي وهي تردد شكرا .. شكرا ، لكانت العواقب وخيمة ، تصورت لو أن الممرضة أغمى عليها أو توفيت من أثر الصدمة، فما الذي سيثبت براءتي والشاهد الوحيد لاذ بالفرار، ومن سيصدق حينها حكاية الكلب الليبي المكبوت؟!
تتحالف الصدف المحبوكة والجمادات الصامتة كي تضعنا في قلب ورطة كأن مخرج خفي من أعد مشاهدها في أكثر تجليات لعبها وتآمرها على كيان عاقل يعتقد أنها طوع يده ، الأشياء حين تناكدك أو تعبث بهدوئك أو تفتح أمامك باب اكتشاف هائل مثل تفاحة نيوتن أو صابون ارشميدس ، والأشياء حين تحاربك وتخرج من لعبتها بنزيف من الدم: جاء شخص يسأل عن صديقه في أحد البيوت الريفية ، ولأنه كانت توجد مناسبة شد عليه صاحب البيت ليدخل كي ينتظر صديقه الذي ذهب في مشوار قصير ، ارتبك أمام الحشد الموجود أمامه الذي والمطلوب منه مصافحتهم جميعاً ، وخلال دائرة تسليمه داس على كوب زجاجي فتهشم وغاصت منه شظية في قدمه ، نزف كثيراً وقام صاحب البيت بلف جرحه بقطعة من الشاش ، اتكأ تحت نافذة الغرفة فأخذته حمى ونام لفترة من الزمن ، وحين استيقظ ووجد نفسه في مكان غريب ومزدحم، نهض مرتبكاً بسرعة، فضربته ضلفة النافذة المفتوحة إلى الداخل على رأسه ، نزف رأسه ثم ربط هو الآخر بشاش، وعندما وصل صديقه وجده بحالة يرثى لها وكأنه خرج من معركة شرسة . لقد خاض الضيف معركة لم يحسب لها حساباً مع أشياء بدت وكأنها تتآمر عليه ، والموقف لا يخلو من المأساة الممزوجة بالضحك ، ومن عمق هذه الورطات كان المسرح يتغذى ، والأعمال الدرامية الكوميدية التي تعتمد على سلسلة من ورطات تحيق بالبطل ويخرج من إحداها ليقع في أخرى ، من رحم هذا الـتآمر البريء، ومن خفة ظل الأشياء حين تتقصد إحراجنا، جاء شابلن والسيد بين وغيرهم، ومن هذه الكوميديا الإنسانية كان ينهض سؤال الإنسان المرهون لعبث المصادفة رغم حذاقته وحذره وإحساسه بأن حياته مخطط لها وفق هبة عقله التي بها يتسامى على محيطه الصامت، الذي يعتقد جازماً بأنه مدجن وطوع أمره . وعبر هذه الورطات المتكررة يكتشف قانون الحركة الذي يسري في كل شيء ، والذي عبره ينزع موسيقاه ولوحاته التشكيلية ، ومكان مسرحه أو روايته ، وزمن شعره ، الأشياء الموضوعة حول الممثل تتكلم هي أيضاً وتشارك في خطاب المسرحية ، ووصف محيط الشخصية الروائية توحي بالمكان وبالزمان ، وبنفسية الشخصية وبظرفها الاقتصادي والاجتماعي ، لذلك ليس ثمة ما هو صامت أو محايد في هذا الكون ، وأي فن يتجاهل المكان وفعل الصدفة والروح اللابثة في قلب الجمادات محض إعادة ترتيب للقاموس. ثمة مشهد أخاذ في فيلم “الجمال الأميركي” حين كان الشاب يصور كيساً تحركه الريح بعشوائية وضمن نطاق محدد في زاوية الشارع التي يدور فيها الهواء ، وعندما عرض المشهد على صديقته كان يحدثها عن الروح التي تسري في الأشياء التي ندوس عليها كل يوم ، كان المشهد فيلماً قصيراً داخل الفيلم الروائي ، ولم يكن محشواً ، لكنه كان يعبر عن ثيمة العمل الرئيسة المتعلقة برغبة البطل في السكون أمام الحياة ، وبرغبة النازي المتقاعد للخروج من ورطته وبالأفكار ضد الحياة التي مازالت تلاحقه ، وبيقينه بأن ذهابه إلى مكان لا يعرفه فيه أحد وأن ثمة صمتا سيحميه من ذاكرته. إن الأشياء حين تتحرك تبعث فينا سؤالاً مقلقاً حول ماهية الموت والذاكرة والحدس ، وبالتالي حول أوهام الفن الذي لا يرتع من هذا الإلهام الكوني العظيم. الأشياء التي تلعب معنا حين نعتقد أننا نلعب بها.
_______________
نشر بموقع بوابة الوسط