يوسف القويري.. 60 عاماً من العطاء.
قراءات

المثقف في المنفى النفسي

يحتل الكاتبُ والأديبُ الليبي يوسف القويري مكانةً مرموقةُ في مسيرة الحركة الثقافية في بلادنا، لما تُمثُله كتاباتُه الأدبية والنقدية من إسهام بارز في إثراء النتاج الثقافي الليبي وإغنائه بالنصوص السردية والإبداعية المتميزة ، وبالرؤى والتصورات والتحليلات النقدية المتبصرة التي ساهمت في تعميق الفهم تجاه النصوص الأدبية وتجاه الأدب والفكر والثقافة عموما في ليبيا.

يوسف القويري.. 60 عاماً من العطاء.

الإطار التاريخي الذي ظهر فيه يوسف القويري

كما هو معروف يوسف القويري من مواليد مصر سنة 1938من عائلة ليبية من مصراتة، من ضمن العائلات الليبية التي هاجرت إلى مصر إبان الاحتلال الايطالي لليبيا، وقبل أن يعود إلى بلاده سنة 57 تشرّب القويري الفكر الوطني والقضية الوطنية عبر تفاعله مع الأوساط الليبية من المهاجرين الليبيين في مصر حيث كانت القضية الوطنية تتفاعل عبر هذه الأوساط طيلة الأربعينيات عبر الصحافة المصرية وعبر اللقاءات والاجتماعات التي كانت تعقد حول هذا الموضوع، حتى عام 57 وهي السنة التي عاد فيها يوسف القويري إلى ليبيا، ليبدأ من سبها (1) ومن خلال صحيفة فزان نشاطه الثقافي عبر مقالات ينشرها في تلك الصحيفة، وبالتالي كانت القضية الوطنية تنمو في وجدانه، ويتغذى بها فكره في وقت مبكر من حياته، وتربطُه ربطًا مصيريًّا بوطنه وهو يخوض معركة تأسيس الكيان الليبي وبناء الدولة والنهوض بالمجتمع ،غداة تحقيق الاستقلال، والشروع في تأسيس مؤسسات الدولة وأجهزتها أواخر الخمسينيات وطوال الستينيات، واكتشاف النفط وما استتبعه من تداعيات تمظهرت في التحولات التي طرأت على البنية الاقتصادية والاجتماعية المتمثلة في التحول من الاقتصاد الزراعي الرعوي إلى الاقتصاد الريعي الخدمي ونمو الطبقة المتوسط، وتصاعد مطالباتها بحصصها من المكاسب المادية والمعنوية (2) وتأثر هذه الطبقة بمايجري في المشرق وخاصة مصر والعراق وسوريا وفلسطين ،من تطورات سياسية وانعكاس ذلك على النخب الثقافية الذي تمظهر في بروز بدايات تيارات فكرية وسياسية من بعثية ويسارية وناصرية، وهذه الأخيرة كان لها ثقل جماهيري لافت. من ناحية أخرى تفاعل القويري مع كتابات كبار الكتاب المصريين في الصحافة المصرية ،خلال فترة وجوده في مصر في مرحلة الأربعينيات والخمسينيات وحتى بعد عودته من خلال متابعته لكتابات طه حسين ومحمد حسين هيكل وصادق الرافعي وعباس محمود العقاد وزكي نجيب محمود وغيرهم وتأثر القويري على نحو خاص بالكاتب المصري سلامة موسى الذي كان أحد أبرز ممثلي الفكر النهضوي في مصر والعالم العربي، لقد تحدث القويري أكثر من مرة في لقاءاته عن تأثره بسلامة موسى ، كما أنه خصص عديد المقالات التي عرض فيها لأفكار سلامة موسى وجمعها لاحقًا في كتبه.

تأثر القويري أيضًا بكتابات أقطاب الفكر اليساري من أمثال محمد مندور ومحمود أمين العالم ولويس عوض وغيرهم ، وقد أدى تفاعله مع الفكر اليساري إلى اعتقاله من قبل السلطة المصرية منتصف الخمسينيات مع مجموعة من الكتاب اليساريين.

هذا هو الإطار الفكري التاريخي والثقافي والاجتماعي الذي ظهر فيه القويري كاتبًا ينشر مقالاته في الصحافة الليبية أواخر الخمسينيات وطوال الستينيات، وهي الكتابات التي سيعكف القويري على جمعها ونشرها في كتب تباعًا، ابتداءً من أوائل عام 69 حين جمع مجموعة من المقالات ونشرها ضمن أول كتاب له طبعته دار المصراتي وجاء بعنوان «الكلمات التي تقاتل» وضم مجموعة من المقالات التي نشرها من 57 وحتى 69.

لماذا توقف يوسف القويري عن الكتابة عقب انقلاب 69؟

مع انقلاب سبتمبر 69 وإغلاق بعض الصحف الخاصة من قبل السلطة العسكرية الجديدة وفي مقدمتها صحيفة الميدان التي كان يعمل بها يوسف القويري مسؤولًا على صفحتها الثقافية والتي جاء إغلاقها في وقت مبكر من قيام الانقلاب ( نوفمبر 69 ) سوف يلتزم كاتبنا الصمت، وسوف يستمر صمته طوال السبعينيات والثمانينيات ، ليعود مجددًا ينشر مقالاته مع بداية التسعينيات في صحيفة الشمس ثم مجلة المؤتمر ثم وفي مرحلة لاحقة مع صحيفة أويا وماتلاها من صحف ومطبوعات، وسنلاحظ أن القويري العائد إلى الكتابة بعد صمت دام سنينًا سوف ينأى عن الكتابات ذات الطابع النقدي سواءً النقد الاجتماعي أو الفكري والثقافي ،التي كان يتناولها خلال الستينيات وأواخر الخمسينيات، وسينأى أيضًا عن الكتابة التي تتناول اللحظة الراهنة التي يعيشها المجتمع حتى من منظور ثقافي وفكري، ولايوجد لدي تفسير لهذا، سوى خشية القويري من المشاكل التي قد تسبب هذا النوع من الكتابات مع السلطات، وبالتالي سنلاحظ أن الكاتب إثر عودته للكتابة بعد طول، انقطاع، سيهرب إلى قضايا «محايدة» ذات منحى إنتربولوجي أوتراثي أوعلمية.

وخلال هذه المرحلة من 69 وحتى أوائل التسعينيات وهي المرحلة التي توقف فيها القويري عن النشر في الصحافة، سوف ينصرف كاتبنا إلى تجميع مقالاته التي نشرها خلال هذه الفترة ويصدرها تباعًا في كتب (الكلمات التي تقاتل، خيوط رفيعة، قطرات من الحبر، على مرمى البصر، في الأدب والحياة، من مفكرة رجل لم يولد) بعد أن يجري عليها التنقيحات والتعديلات تصل أحيانًا إلى مايسميه القويري بإعادة التأليف الثانية. (3)

نستثني من هذه الكتب مسرحيته «القادمون» التي صدرت 2014 وجاءت تأليفًا جديدًا ولم تكن من بين مانشره خلال أواخر الخمسينيات وطوال الستينيات.

ثم عاد بعد إنشاء أمانة الثقافة في 2004 ليستأنف مجددًا جمع مقالاته المنشورة في صحف الخمسينيات والستينيات وإصدارها في كتب حيث أصدرت له اللجنة الشعبية العامة للثقافة في 2006 «تثاؤب الشرق» و«مدخل إلى قضية المرأة»، وأصدرت له وزارة الثقافة والمجتمع المدني في 2014 «القادمون» و«عصر النهضة».

ويرى الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه في مقال له نشره بموقع ليبيا المستقبل أن سبب صمت القويري وتوقفه عن الكتابة في الصحف يعود لرفضه اغتصاب العسكريين للسلطة «فقد كان شديد الحزن لما حدث، رافضًا له، دون أن يفصح صراحة على هذا الرفض (…) لم يكن صمتًا عارضًا طارئًا، وإنما هو صمت الموقف، وصمت الثبات على مبدأ الرفض القاطع للانقلاب شكلًا ومعنى، وأنه وسيلته لمجابهة ما حدث، فلم يكن متيسرًا أي موقف آخر إلا هذا الموقف) (4)

ولعله أصيب بخيبة أمل كبيرة في الانقلاب، إذا كان دائم التفاؤل بالمستقبل في كتاباته مؤمنًا بالتطور الديموقراطي ومستبعدًا أي قفز على السلطة، إذا نقرأ له مقالة كتبها خلال الستينيات عقب زيارة له إلى إيطاليا بعنوان: «الفاشية لعبة قديمة» يقول فيها: «لقد سكت صوت موسيليني إلى الأبد..، وتقوض نظام هتلر بعدما تحولت الترسانة الحربية المزدوجة لقوات المحور إلى أنقاض (…) ومعنى ذلك أنه لم يعد هناك مكان للفاشية في العالم، فالعالم قد تغير، وينبغي أن نفهم ذلك، فليس ثمة قوة قادرة في عصرنا الحديث على إعادته إلى الوراء ولأجل هذا فإن الطريق الصحيح هو طريق التطور السلمي، من خلال برلمان حقيقي، ودستور مبجل، وحياة نيابية منتظمة، فهذا هو الضمان الأكيد ضد مغامرات القفز السياسي، وضد كل عاصفة حمقاء »!! (5)

ولاننسى أن إغلاق الصحف الخاصة والاكتفاء بالصحف التابعة للدولة، والتضييق على حرية الرأي والتعبير والتي وصلت إلى حد اعتقال المثقفين والأدباء والكتاب والإعلاميين من مختلف التوجهات السياسية في منتصف أبريل 1973، فيما عرف بالثورة الثقافية آنذاك ،وكان من بين المعتقلين الأستاذ يوسف القويري نفسه، إضافة إلى المناخ التعبوي والخطاب الشعبوي الذي كانت تضج به وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، والدخول في سلسلة من الممارسات المعادية للحريات والتي كرست الاستبداد والفوضى من إغلاق الصحف الخاصة إلى ماسمي بالثورة الشعبية واعتقال الطلاب في ال 7 من أبريل 1976، والإعدامات شنقًا في الميادين، وإنشاء اللجان الثورية التي باشرت السيطرة على مؤسسات الدولة ونشرت مناخ الإرهاب في المجتمع إلى غير ذلك من الممارسات القمعية، لاننسى أنها ساهمت جميعها في إسكات كل الأصوات من أصحاب الرأي والمثقفين، باستثناء أصحاب الأصوات المؤيدة، ولذلك كان من الطبيعي أن الأستاذ يوسف القويري صاحب الصوت النقدي والرأي المستقل الذي لايقبل أن يسير في ركاب السلطة كان من الطبيعي أن يلتزم الصمت حفاظًا على حياته وخوفًا من البطش والإرهاب التي كان يهيمن على تلك المرحلة لاسيما وأنه قد سبق له أن اكتوى بتجربة السجن.

الأطروحة المركزية في كتابات يوسف القويري

كتابات القويري خلال المرحلة من 57 وحتى 69 اتخذت شكل المقالة الأدبية والمقالة الفكرية والنقد الأدبي إضافة إلى القصة القصيرة والخاطرة ونصوص سردية وحوارية بعضها ينتمي إلى أدب الرحلات وعروض كتب علاوة على تجربته المهمة في كتابة نص سردي مهم ينتمي إلى أدب الخيال العلمي هو «من مفكرة رجل لم يولد» نشر مسلسلًا في صحيفة «الميدان» خلال الفترة 1966-1968م .

والسؤال الذي يطرح نفسه ونحن نتفحص هذا النتاج الذي تضمه كتب القويري، من خلال موضوعاتها المتعددة المتشعبة: هل ثمة قضية مركزية تتمحور حولها كتابات القويري وتنقلها من مجرد آراء وانطباعات وأفكار مبعثرة عبر صفحات الصحف الليبية هنا وهناك إلى أفق الرؤية الفكرية المتكاملة؟

بمعنى آخر هل هناك أطروحة رئيسية تمثل شاغلًا أساسيًا لدى القويري أم أنه يخوض في قضايا متعددة ينتقل بينها دون أن يربط بينها رابط؟

الإجابة هي نعم،هناك أطروحة مركزية تدور حولها كتابات القويري رغم تنوع كتاباته وتشتت مواضيعها كما قد تبدو للقاري في الوهلة الأولى، والأطروحة المركزية عند يوسف القويري هي قضية التخلف الحضاري الذي تعيشه ليبيا وبقية الأقطار العربية، والبحث عن سبل تجاوز التأخر الحضاري واللحاق بالأمم المتقدمة، ومحاولة تقديم الإجابة على السؤال الذي سبق أن طرحه شكيب أرسلان: لماذا تخلفنا وتقدم الآخرون؟

وتعد هذه المسألة شاغلًا أساسيًّا نجده حاضرًا في جل ماكتبه القويري ،خاصة تلك التي اتخذت منحى النقد الاجتماعي والفكري والحضاري، حيث يناقش القويري مسألة التخلف الحضاري من عدة جوانب، ولايكتفي بنقد هذا التخلف بل يطرح مفاهيم مركزية تتكرر في كتاباته باستمرار من بينها: تحرير المرأة ،الإعلاء من شأن العقل والعقلانية، التصنيع والصناعة ودورها في التحديث، تطوير اللغة، التفكير العلمي، أزمة المثقف الحداثي في مجتمع تقليدي، والإيمان بقدرة العلم على دحر الخرافة والفكر الغيبي، الانتصار للجديد في الصراع القائم بين القديم والجديد، نقد الموروث الفكري التقليدي ومنظومة القيم المحافظة.. إلخ.

ولعل هذه الأفكار وغيرها، كانت من مشاغل جزء من النخبة الثقافية الحديثة في ليبيا بشكل أو بآخر في تلك الفترة التي وجدت في الصحافة حاضنة لكتاباتها فظهرت المعارك الفكرية، بعضها يدور حول حرية المرأة والسفور، وبعضها الآخر حول الشعر الحديث والشعر التقليدي، والأصالة والمعاصرة، وإلى غير ذلك من القضايا التي شغلت الرأي العام عبر صحافة تلك الفترة، ولعلها كانت تمثل بعض القضايا التي كان السجال يدور حولها في صحافة المشرق العربي التي كان صداها يصل إلى ليبيا عبر الصحف والمجلات المصرية.

بين يوسف القويري وسلامة موسى

وإذا كان القويري يستفيد من كتابات الكتاب النهضويين المصريين وهو يتناول هذه القضايا وفي مقدمتهم أستاذه سلامة موسى إلا أنه لاينسخ تجربة سلامة موسى، ويقتفي أثرها ، بل نراه يختط لنفسه مسارًا خاصًا يميزه عنها، فإذا كان سلامة موسى ينادي برفض الماضي والتخلص منه دفعة واحدة، وتبني التجربة الغربية بالكامل، فإن يوسف القويري يقدم طرحًا مختلفًا في هذا الصدد، فهو وإن كان لايقدس التراث لكنه ينادي بإعمال العقل وقراءة التراث قراءة نقدية معمقة، أيضًا لايتبنى القويري تلك الدعوة المتطرفة التي نادى سلامة موسى خلالها بالكتابة باللهجة المحلية، بل دعا دائمًا إلى تطوير اللغة العربية، المسألة الثالثة التي تميز بها القويري عن سلامة هي اعتناء القويري الفائق بالأسلوب الذي يصوغ به مقالاته، فإذا كان سلامة موسى يلجأ إلى لغة صحفية بسيطة ومباشرة فإن القويري يشحن كتاباتَه بطاقة شعرية تُكسِبُها نضارة وإشعاعًا وسطوعًا ، ولعل هذا يقودنا إلى التطرق إلى قدرة كتابات يوسف القويري على البقاء عشرات السنين محتفظة ببريقها ونضارتها وكأنها كُتبت اليوم، والسبب أن القويري الذي يُعدُّ أحد المجددين الكبار للمقالة الأدبية كان يكتبُ مقالتَه بِنَفَس إبداعي، وكأنه يصوغ قصيدة أو قصة قصيرة بكل جوارحه، ويسكب فيها مشاعره وأحاسيسه وعُصَارة روحه وتوقد ذهنه ،يقول في مقدمة الطبعة الأولى من كتابه خيوط رفيعة: «منذ عام 57 وأنا في عراك مع اللغة وشوائبها ومرادفاتها وتراكيبها التقليدية وحشود قواعدها الفضفاضة المملة ،محاولا تطويعها وتليينها وتقشير جلدها الخشن المليء بالبثور والزوائد والنتوءات الصلبة ،وإنطاقها بما لا تنطق به المفردات والجمل الشائعة ” (6) ولم يكتفِ القويري بالعناية الجمالية والأسلوبية لكتاباته فحسب بل اعتنى بعمق الفكرة، ودقة المفردة، وموضوعية التناول، ورصانة التحليل العقلاني المنطقي الذي تسنده بصيرةٌ تجعلُه ينفُذ إلى جوهر الموضوع، وكأن الكاتب امتلك بوصلة شديدة الدقة، تجعله قادرًا دائمًا على الوصول إلى لب القضية في كلمات قليلة، تجلى ذلك واضحًا في نقده الاجتماعي مثلما اتضح في نقده الأدبي والثقافي ،وفي نصوصه النقدية الأدبية التطبيقية على قلتها يكشف القويري عن حساسية مرهفة في التعاطي مع تلك النصوص، جعلته يتمكن باستمرار من التغلغل إلى أعماق النص، والكشف عن خصائصه الفنية والجمالية وأبعاده الدلالية المستترة، باحثًا عن الحساسية الخاصة في لغة الأديب، وهو ماجعل محمد الفقيه صالح يعلق على هذا بالقول إن هذه الخاصية هي مايضفي على القويري «صفة الناقد الجمالي الذي يجوس برهافة العمل الأدبي» (7)

ولعلي لاأكون مخطئًا إذا وصفت محمد الفقيه صالح الذي كتب هذا الكلام في منتصف السبعينيات في سياق عرضه لكتاب «الكلمات التي تقاتل».. أن محمد الفقيه صالح هو أحد التلاميذ النجباء الذين استوعبوا تجربة القويري بعمق واستفادوا منها خاصة في مجال النقد الأدبي التطبيقي ومن يقرأ مقالات الفقيه صالح التي جمعها في كتابيه: «أفق آخر» و «في الثقافة الليبية المعصرة: سيرى كيف طور الفقيه صالح الكتابة النقدية التطبيقية للقويري وأضاف إليها، حيث نراه يمزج شاعرية الأسلوب بعمق التحليل، واستنطاق النصوص من داخلها دون إسقاط أفكار مسبقة عنها.

وماأحوجنا اليوم إلى هذا النوع من النقد الأدبي التطبيقي القادر على التعامل مع النصوص بموضوعية، وبحساسية فنية وجمالية بعيدًا عن العدائية والتجريح، وبعيدًا أيضًا عن المجاملات والنقد الاحتفالي الأعمى الذي هو أقرب إلى الدعاية الشخصية والإعلانات الترويجية والتسويقية منه إلى القراءة الواعية المتبصرة التي رأيناها عند كاتبنا يوسف القويري، في كتاباته النقدية الأدبية التطبيقية، وهي كتابات قليلة، بل نادرة للأسف الشديد، ولاأدري سبب ندرتها في تجربة القويري ربما لأنها لم تجد الترحيب الكافي من الأوساط الثقافية، فانصرف عنها الكاتب، فالناس في مجتمعنا ترغب دائمًا في المجاملة والكلام الدعائي المجاني، ولاترحب بالنقد الموضوعي الذي يتلمس مواضع القوة والضعف في العمل الفني بعيدًا عن الدعاية الشخصية وهو مانادى به القويري في كتاباته «علينا أن نضع إبداء المحبة وعواطف التقدير للآخرين في جهة، والنقد الموضوعي في جهة أخرى». (8)

ولكن يبدو أن النقد الموضوعي غير مرحب به.

أختم بأن أعود وأؤكد على ماسبق أن أورده الدكتور احمد إبراهيم الفقيه الذي وصف يوسف القويري بأنه كاتب من قماشة المبدعين النوابغ، واستدرك قائلًا «أنا هنا لا أتكلم عن إنجازه، بقدر ما أتكلم عن موهبته في لمعانها الخاطف التي لم تجد مناخًا يساعدها على التحقق تحققًا كاملًا» بسبب انقلاب سبتمبر الذي جاء ويوسف القويري في ذروة توهجه وعطائه وماأحدثه هذا الانقلاب من إرباك في كافة مناحي الحياة الليبية انعكست على قدرة هذا الكاتب على الاستمرار في الكتابة وتقديم الجديد.

وأود أن أضيف سببًا آخر ساهم في منع تتحقق هذه الموهبة الكبيرة وهي المجتمع المتخلف المعادي لكل إبداع ولكل تجديد وقد تناول القويري هذه الأزمة أكثر من مرة عبر كتاباته العديدة، وتساءل عن قدرة المثقف على الاستمرار على العطاء في بيئة معادية للإبداع ، ولعل أشهر هذه التساؤلات جاءت عبر صرخته الشهيرة: «المجتمع المغلق يقذف طلائِعَه إلى المنفى النفسي». ولقد عانى القويري طويلًا مثل أي مثقف وكاتب حقيقي، من هذا المنفى المزدوج ، منفى فرضه المجتمع المتخلف المعادي للتجديد والإبداع ،ومنفى آخر فرضته سلطة مستبدة معادية لكل رأي لايسير في ركابها.

_________________________________________________________________

1-من نفس المدينة، وفي نفس التوقيت تقريبًا، سيباشر معمر القذافي مخططه الرامي إلى القفز على السلطة ،وسوف يكون لهذا المخطط دورًا حاسمًا في مسيرة القويري كما سنعرف لاحقًا.

2-محمد الفقيه صالح ( في الثقافة الليبية المعاصرة ملامح ومتابعات) طرابلس، دار الرواد، 2016، ص83

3-يوسف القويري مقدمة الطبعة الثانية من كتابه (على مرمى البصر ) طرابلس، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان ،1981،ص7

4-دأحمد إبراهيم الفقيه (الكاتب الرسولي والمتنبيء بعالم لم يولد بعد) موقع ليبيا المستقبل الالكتروني.

5-يوسف القويري (تثاؤب الشرق)طرابلس، منشورات اللجنة الشعبية العامة للثقافة ،2006،ص15

6-يوسف القويري (خيوط رفيعة )طرابلس المنشأة الشعبية للنشر والتوزيع والإعلان والمطابع،1981، ص7

7-محمدالفقيه صالح (أفق آخرآراء ومتابعات في الشأن الثقافي )طرابلس، منشورات مجلة المؤتمر، 2002، ص78

8- يوسف القويري (خيوط رفيعة) طرابلس المنشأة الشعبية للنشر والتوزيع والإعلان والمطابع، 1981، ص99

[divider]

طالع أيضاً: القويري وستون عاماً من العطاء.

طالع أيضاً: يوسف القويري . . مسيرة ستون عاماً.

مقالات ذات علاقة

ابلاد وعاصمتها اطرابلس

البانوسي بن عثمان

قراءة في كتاب ضمير وطن!

المشرف العام

روايات ليبية نسائية.. ملاحظات جريئة وإضافات نقدية

المشرف العام

اترك تعليق