قراءات

صُراخُ الطابقِ السُفْـليِ .. بعضُ تاريخِنَا المؤلِم

صُراخُ الطابقِ السُفْـليِ.. بعضُ تاريخِنَا المؤلِم
قراءةٌ في رواية الدكتورة فاطمة سالم الحاجي

عن صفحة د.فاطمة الحاجي على الفيسبوك

روايتان ليبيّتان اختارتا الحرم الجامعي فضاءً إبداعياً لمجريات أحداثهما وأبطالهما وبطلاتهما. وأعترف بأن رواية “يوميات زمن الحشر”(1) للدكتور صالح السنوسي بفضائها الزمني الذي احتضن مشاهدها وأحداثها قد اقتربت كثيراً ولامست بعضاً من زمني الجامعي الشخصي. بمعنى أن الفترة الزمنية التي سجلها الراوي لأحداثها قد بدأت سنة 1976 بينما التحاقي بجامعة طرابلس كان في فصل الخريف للسنة الدراسية 1979، وبالتالي فإن ارتدادات تلك الأجواء الأمنية والايديولوجية الثورية العنيفة التي استنطقتها الرواية كانت لازالت طاغية ومؤثرة بفاعلية تلقي بظلالها القوية على المشهد الجامعي حين التحقت به وقتذاك.

أما رواية “صراخ الطابق السفلي”(2) للدكتورة فاطمة سالم الحاجي فإنَّ زمن أحداثها ووقائعها هو زمنيّ الدراسي بالكامل، وفضاءاتُ أمكنتها المتعددة بالجامعة هي بيئتي بكل معالمها ودروبها ومساربها الدقيقة، التي عرفتها وتجولت في أركانها وخبرتها طوال دراستي الجامعية، وحتى تلك الأماكن خارج الحرم الجامعي مثل طريق الشط وقرقارش ومقبرة سيدي حامد وميدان الغزالة وغيرها بمدينة طرابلس هي أمكنتي التي أحمل لها في الذاكرة والقلب الكثير من الحضور والزهو والافتخار.

وعلى الصعيد الشخصي فإن معرفتي بالدكتورة فاطمة الحاجي مبدعة الرواية تعود إلى منتصف ثمانينيات القرن العشرين المنصرم أثناء بدايات مسيرتي الإعلامية الإذاعية والصحفية، وكنتُ حينها لازلتُ طالباً بكلية العلوم بجامعة طرابلس، بينما هي كانت مذيعةً متألقة تملك صوتاً رقيقاً دافئا،ً ولغةً واثقة قويةً، وحضوراً جميلاً يعكسُ فكراً وثقافةً وحُسناً وبهاءً لا يلقى إلا الاحترام والتقدير في كل المحافل.

صراخ الطابق السفلي

قبل أن تصدر روايتها الأولى أسست الدكتورة فاطمة سالم الحاجي مخزونها الفكري وبيئتها وقراءاتها وبنيانها الروائي علمياً وأكاديمياً من خلال إعدادها رسالة الماجستير حول “الزمن في الرواية الليبية”(3) ثلاثية الروائي الليبي الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه نموذجاً، ثم أتبعتها بأطروحة دكتوراة خصصتها للدراسة المقارنة حول الزمن الأسطوري والزمن التاريخي في الرواية الليبية وتحليل رواية “إينارو” للدكتور علي فهمي خشيم ومدى تأثر ذلك بالرواية الأوروبية. وهي من خلال كل تلك المطالعات والدراسات المنهجية والنقود الأكاديمية لابد أنها هيأت نفسها للاستفادة نظرياً من تلك التجربتين العالميتين سواء على صعيد تقنية كتابة العمل السردي الروائي، أو إلتقاط الفكرة وانتقاء الموضوع ووسائل معالجته درامياً.

وإذا كان الأديب الفرنسي جيرار جينيت يعتبر أن العنوان هو الوسيط بين أنثوية النص وذكورة القراءة، فإن العنوان بلا شك ينطوي في نفس الوقت على أبعاد متعددة تتداخل فيها التأثيرات النفسية والانفعالية، والأبعاد الدلالية لزمان ومكان أحداث الرواية، ولذلك جاء عنوان الرواية (صراخ الطابق السفلي) موحياً بالتحرر من معاناة الكبت والصمت المكبل بالقلق والخوف والرعب والعنف الذي عاشته الطبقة السفلى من المجتمع الليبي، وهي الضحية والواجهة الاجتماعية الأولى التي أصابتها طعنات السلطة الخادعة، وسراب الأيديولوجيا المثقوبة، وقذفت بها إلى مزيد من الضياع والتمزق والصراع مع الذات والآخر… والزمن.

إن عنوان هذه الرواية عكس تماماً رسالة النص التي تود المؤلفة البوح بها وإعلانها ونشرها فكان معبراً بكل إتقان عمّا احتواه ودار بين دفتيه، وكأن ترجمة هذا العنوان تقول ها أنا الآن في وطني أتكلمُ بصوتٍ عالٍ، وأصرخُ بكلِّ حريةٍ، لأحكي وأكشف حياةَ الظلمِ والقهرِ والذل والمهانةِ التي عانتها الطبقة المذيلة بأسفل سلمنا الاجتماعي، وها هي الشواهدُ والأحداثُ والشخصياتُ تؤكد ما تعبر عنه هذه الصرخة المدوية في سماء الحرية. وانطلاقاً من قول الناقد البلغاري الفرنسي تزفيتان تودوروف (السرد يعادل الحياة.. وغياب القصص يساوي الموت.. ولو أن شهرزاد لم تجد المزيد من القصص لترويها.. لكان عليها أن تفقد رأسها!) جاءت هذه الرواية طويلةً في جزئين ضمتهما أربعمائة وستة عشرة صفحة من الحجم المتوسط، استهلتها المؤلفة بصوت البطلة “سعاد” وهي تقرأ رسالتها إلى الناشر تنقل فيها رغبتها التخلص والتحرر من مسئولية الكبت والصمت وذلك بالبوح والتوثيق لجزء مهم من حياة المجتمع الليبي وفترة عصيبة من تاريخه (.. قبل أن أرحل أردتُ أن أسردَ شهادتي على ما عايشته، وأزيحَ الستار عن أسرار لم تكشف لأحد من قبل، أسرارٍ تعود إلى فترة مجهولة من تاريخ ليبيا المتواري في ركن خفي من الوجود..)(4).

واحتوى الجزء الأول من الرواية على ثلاثة عشرة فصلاً بينما تضمن الجزء الثاني خمسة عشرة فصلاً، جاءت كلها بلا عناوين، رئيسية أو فرعية، وهو ما وفر فضاءً حراً لا تكبله العناوين فتحبسه وتقيده إطاراتها المتسعة أو الضيقة، وهذا بدوره أتاح للمؤلفة السباحة في براحٍ واسع، تبحر فيه بحرية أكثر بأدواتها التقنية السردية والتعبير والتخطيط لمسار وسياق الأحداث التي تستحضرها من ذاكرتها الماضوية المكتظة بالمواقف والمشاهد والشخصيات، وتهيء لها السُبل والطرق لإدماجها في ذاك الواقع الذي كان. ولم تكتفي المؤلفة بأسلوب السرد الوصفي المطلق في هذه الرواية بل اعتمدت كذلك تقنية الحوار سواء بين شخصيات روايتها، أو بين الشخصية وذاتها والذي يعرف بالمونولوج الداخي أو التفكير بصوتٍ عالي، وهو ما عزز البناء الدرامي لنصوصها السردية وسهّل عملية التصوير التخيلي لدى القاريء، إضافة إلى ما يمنحه الحوار بشكل عام من تشويق وتسريع لإيقاع الغوص في أعماق العمل الروائي.

صراخ الطابق السفلي

أتاحت لي أحداثُ وشخصياتُ هذه الرواية إعادة إحياء الكثير من الذكريات الجامعية المتعددة واستحضارها من دهاليز الماضي المعتمة إلى حياة الحاضر بكل تداعياتها. أيقظت الرواية ذاك الحب العذري القديم والعلاقات العاطفية المبكرة وصورة الحبيبة الأولى ورسائلها المعطرة بالورد والمسك والمبللة بالآهات والدموع أحياناً، وجلسات العشاق المسائية في ردهات وممرات كلية الزراعة القديمة الرومانسية الهادئة، وبرامج مكتب النشاط العام بالجامعة وفوزي بالترتيب الأول في المسابقة الأدبية التي نظمها على مستوى طلبة الجامعة، والأمسية الشعرية الجميلة للشاعر العراقي الراحل مظفر النواب في مدرج “المرحوم أحمد الفنيش” بكلية التربية قبل تغيير اسمه إلى “المدرج الأخضر” والمنافسات الرياضية المختلفة في ملاعب كلية العلوم، والتسابق الصباحي المبكر بين الزملاء لحجز مقعد في أروقة المكتبة المركزية أو صالة الدور الأرضي بمكتبة كلية العلوم أو بعيداً في مكتبة كلية البيطرة، وقفشات وتعليقات طوابير استلام المنحة الشهرية، والكتب المنهجية المقررة، والمعدات والأدوات الهندسية ومعطف المعمل “البالطو” والبدلة الجامعية الخاصة والملابس الرياضية، والتي كانت كلها توزع مجاناً، وكذلك إصداري وزملائي عددين من نشرة (دوحة الأرصاد) التي لازلتُ أحتفظ بنسختيهما، وما عانيناه من بيروقراطية إدارية ومراقبة وتعهدات أمنية عند استعارة الآلة الكاتبة من القسم لرقن وطباعة تلك النشرة على ورق الحرير “الستنسل” وسحبها وتوزيعها، وكذلك أجواء المخيمات الطلابية، وحفلات استقبال الطلبة الوافدين الجدد، ومسرح الراحل نورالدين الرايس بإشراف الدكتور كمال عيد وتوجيهات الفنان الراحل محمد شرف الدين أيوب المسرح الليبي، وأغاني الفنان مصطفى طالب والفنان الصديق بلحاج، ومعرض الفنون التشكيلية بمدخل كلية العلوم، ومشاعر النجاح والتفوق مع بعض انتكاسات الخيبات المريرة.

ولاشك فإن وجوه وأسماء وممارسات وسلوكيات العنف اللفظي والجسدي لعناصر اللجان الثورية والشخصيات الأمنية المتخفية وراء كراسات الطلبة، والمدسوسة وسط مدرجات الحرم الجامعي، وسلسلة المحاضرات الأيديولوجية عبر الدوائر المغلقة، وبعبع مناسبة السابع من أبريل، وحبال المشانق المعلقة في ساحات كليات الهندسة والصيدلة والزراعة لازالت ماثلة في هذه الذاكرة التي تقاوم النسيان.. وكيف أنسى فوضى تعطيل وإيقاف الدراسة لصالح مهزلة المسيرات والمظاهرات وجلسات المؤتمرات الطلابية الصورية، وأساليب التهديد بفرض الرأي والفكر الواحد وهتافات العنف التصفوي الجسدي المبطن والصريح؟ وكيف أنسى زمرة المثابة الثورية بكلية العلوم مثل عبدالمولى، فرج، حسين، علي، كامل، مبروكة وغيرهم الذين رفضوا البث في رسالة قبولي معيداً بالقسم المحالة إليهم من إدارة الجامعة.. فحرموني من نيل الموافقة لأكون عضو هيئة تدريس بالكلية رغم تفوقي الدراسي وموافقة القسم على قبولي برسالته الموجهة إلى شئون المعيدين بإدارة الجامعة. اووووووف.. كثيرة هي الأحداث والذكريات القاسية والمريرة التي سجلتها ورصدتها أو ألمحت إليها رواية (صراخ الطابق السفلي) بما فيها من سرد جميل مفرح ومبهج، وتاريخ مؤلم وعنيف بكل تداعياته في مناسبات كثيرة جعلتني أقفُ محتاراً ومتردداً في تسجيل ردود فعلي وانطباعاتي تجاه مبدعة الرواية الدكتورة فاطمة الحاجي، فهل أوجه لها الشكر الجزيل والامتنان العظيم على توثيق تلك الأحداث الجامعية التاريخية في مشهدنا السردي الإبداعي الوطني، أم أن مشاعري المجروحة وعيوني الدامعة وأنفاسي المنكسرة والمضطربة تلومها وتعاتبها على استذكار وقائع تلك المآسي وصورها المؤلمة، وإعادة وخز جراح الماضي النازفة في أعماقي بكل أسى وشجن وحرقة وألم؟

صراخ الطابق السفلي

إذاً هذه الرواية هي جزء من تاريخي الشخصي.. بل من تاريخ جيلي كله.. وتاريخنا الوطني معاً.. لأن أحداثها وسياقاتها لا تقتصر على محيط الوسط الطلابي والفضاء الجامعي فحسب، بل تتعداه إلى أركان المجتمع في كامل ربوع ليبيا الحبيبة، وذلك من خلال المشاهد والمناسبات التي استطاعت الكاتبة ربطها في حبكة درامية رائعة وهي تحرك بطلة الرواية “سعاد” التي قامت بدور السارد في الجزء الأول كاملاً، فجسدت مفهوم أنا والآخر في العمل السردي بكل شمولية وذلك من خلال سيرتها وتتابع سردها الحزين الصامت وزفرات الألم الموجعة التي ألهبت فضاء الحكي وبللت صفحات الرواية بالدمع المتهاطل غزيراً من القلب والعيون على حد سواء.

ولهذا يحق لي أن أعتبر رواية (صراخ الطابق السفلي) ذات قيمة إبداعية مميزة بالنسبة لي شخصياً، وتتفق تماماً مع تأكيد المؤلفة نفسها حول أهمية العمل الإبداعي حين قالت بأن (.. قيمة الأبداع الروائي لا ينبغي أن تقاس بشمولية الرؤية، ولكن أيضا بمدى تأثير الوسائل الأسلوبية المستخدمة للتعبير عن مضمون الرؤية لدى المتلقي..)5) وهذا فعلاً ما حققته الدكتورة فاطمة الحاجي في روايتها، وانعكس على تأثيرها في وجداني وعالمي الشخصي الخاص أثناء قراءتها، واستمرارية تأثري بها أثناء كتابة هذه المقالة التي ابتعدت فيها كلماتي عن تحليل الرواية وأسلوبها السردي منهجياً وفنياً بشكل موضوعي بل غصتُ عميقاً في عالم ذكرياتي مع فضائها الزمكاني الثمانيني الجامعي. ولكن إن كان النقد الموضوعي المنهجي الذي بطبيعته يتجرد من تأثره بالذات القارئة ويحد من طغيان عاطفة الناقد تجاه النص، ينحاز إلى تحكيم العقل والمعايير الفنية لنظريات النقد المختلفة في تحليله وتشريحه، فإن النقد الذاتي للنص الذي يبرز من خلال مثل هذه القراءة الانطباعية العاشقة – كما أزعم – يستدعي قدراً من التذوق والتفاعل الشخصي مع عوالم النص الإبداعية وهذا يعد من المكاسب والمحاسن التي تضيف إثراء معرفياً وإغناء لتجربة كاتبة النص والتي تكتسبها من روح القاريء وثقافته ومعلوماته باعتبارها تجربة إنسانية أخرى تضاف إلى تجاربها الخاصة(6).

صراخ الطابق السفلي

(… في هذه الرواية ستجد قصص الحب واللهفة المتوهجة وقصص المشانق وحرب الصحراء في تشاد، وستجد قصص الرحيل عبر المجهول والإبادة إبان الإحتلال الإيطالي، والهجرة إلى الشمال عندما يرحل الصوت الأمازيغي بحثاً عن الحرية. شخصيات تلتقي على دروب مختلفة ترتبط بالعشق المحرم وتتقاطع في ايديولوجياتها، تجمعهم دروب المكان واختلاف الوجهات..)(7). هكذا وصفت مؤلفة الرواية عملها الإبداعي في خطاب “سعاد” للناشر، وهي لم تبالغ أبداً في ذلك. فالرواية غزيرة بكل شيء: الوطن والحب والشعر والفكر والتاريخ والجهاد والحرب والدمار والظلم والغبن. في ثناياها نجد مصطلحات الليبرالية والواقعية والاشتراكية وكذلك محاورات واقتباسات من عدة مفكرين أبرزهم “افلاطون” و”ديكارت” و”نيتشه” و”هوبز” و”غوته” وكيوبيد إله الحب” و”ميكيافيلي” و”ابن خلدون” وآلهتي الإغريق “هيرا” و”زيوس” وغيرها. ولم تغفل الرواية أبداً قصة تلك الحسناء الإيطالية “فاترا” القاطنة بحي “جورجمبولي” في طرابلس التي أعلنت إسلامها وصارت “فاطمة المسلمانية”، وكذلك المجاهدة “سليمة بنت مقوس” البطلة التي شاركت في ملاحم الجهاد ضد الايطاليين وخاضت معركة قرقارش وغيرها من المواجهات ولكن تناستها قوائم الجهاد ومحافل التكريم مثل كثيرين غيرها من الرجال الأبطال والمجاهدين الحقيقيين الذين أسقطوا كما عبر عن ذلك بكل أسى وحزن والد “سعاد” الشيخ الطيب وهو يناجي بندقيته العتيقة التي احتضنها لسنوات طويلة أثناء معارك الجهاد قائلاً (.. وأنا أحضر حفل المجاهدين عزّ عليّ أن أجد من لا علاقة لهم بالجهاد يتصدرون المنصة ويسرقون دماء الشهداء ويتقاسمون ثمنها علناً. لا أحد حارب مثل ما حاربت، ثم يسقطوا اسمي من قوائم الجهاد، إنه حقي الذي لا يستطيع أحد محوه. أنا لم أطلب منهم تكريماً ولا نياشين ولا أوسمة ولكن دعوتي إلى الحفل وإصرارهم علي للحضور هو الذي دفع بي للذهاب. أما ما دفعته أنا ودفعته أسرتي وعشيرتي فهذا أولاً واجبي، ثم إن الله هو المجازي عليه. لقد قضيت عمري في الجهاد ثم يسقطوا اسمي سهواً، أنا صارعت الطليان وحاربهم والدي وجدي وأمي وجدتي وأخيتي وانتصرنا عليهم واليوم أسقط في السهو..)(8). ولقد وظفت الكاتبة كل هذه المواقف والمشاهد والكثير غيرها مثل الغارة الأمريكية على مدينتي طرابلس وبنغازي وحرب تشاد ووسائل الاصطياد والإغراء والتوريط في مستنقع الأيديولوجية وما يتبعها من سياسات وجرائم بشعة لا تتوقف عند الاغتصاب والتصفية، في تطريز الصورة الدرامية الشاملة للنص الروائي والارتقاء بنسق الحوارات المتداخلة بما يحقق درجات عالية من الجمالية والجاذبية ويضيف الكثير من المعرفة والتشويق لدى القاريء.

صراخ الطابق السفلي…

رواية مكتظة بالأسئلة. كل أنواع الأسئلة كانت حاضرة سياسية وفكرية واجتماعية. أسئلة تملك إجابات حاسمة وقاطعة، وأسئلة تحمل العديد من التأويلات والتخمينات، وأسئلة مغلقة لا إجابات لها في النص، وهذه في تصوري هي الأجمل لأنها تحفز القاريء على إدارة محركات عقله والسعي للتفكير فيها والبحث عن إجاباتها خارج الفضاء الروائي، وهو ما يجعل للرواية تأثيراً لا ينتهي بعد طي صفحاتها، بل يتعداه كثيراً على الصعيد المكاني والزماني معاً. ولا شك فإن تخصص الكاتبة في مجال دراسة الفلسفة وتخرجها من هذا القسم قد أتاح لها إطلاق ذاك الكم الهائل من الأسئلة العنكبوتية المتشابكة، وهي بالتالي أكدت أن الفلسفة ليست إيجاد إجابات للأسئلة الصعبة والمعقدة أو التحايل عليها بأسلوب مراوغ ذكي، بل هي القدرة على خلق الأسئلة المتوالدة والمحفزة للعقل الإنساني لكي يدير دواليبه ويغوص في تأملاته العميقة بحثاً عما يشبع حاجاته ويلبي رغباته المعرفية ويطفيء لهيب شوقه للوصول إلى اليقين.

وليست أنواع الأسئلة وأشكالها فقط هي وحدها التي تعددت، بل حتى أصواتها ومصادر إطلاق ذاك الكم الهائل من الأسئلة العميقة التي أضافت دفعاً ملحوظاً لتسلسل الرواية وخلق صراعات فكرية غزيرة وثرية جديرة بالتوقف عندها. فكانت الأسئلة ترد تارة بصوت المؤلفة على لسان السارد أو الساردة وتارة أخرى يفرزها المنولوج الداخلي للشخصيات المتحركة في فضاء النص الروائي خلال حوارات جدلية ومناقشات وبوح يضفي على أجواء النص الكثير من الإمتاع والتشويق. وإن حظيت “سعاد” بنصيب الأسد في خلق هذه الأسئلة فإن “طاهر” و”كريستينا” و”حازم” و”وليم” و”عائشة” و”آدم” وغيرهم كان لهم جميعاً نصيب آخر معتبر منها وفق سياق كل شخصية في فضاء النص الروائي الخاص بها.

ولقد ظهر السؤال الاستهلالي الأول في الرواية بصوت الساردة “سعاد” نابعاً من أعماقها الحزينة المضطربة بكل حرقة وألم حين حدثت نفسها وتسائلت (… كيف ينمو الحبّ داخل أروقة الجحيم؟ وكيف يحدث هذا تحت أعواد المشانق وعويل الأشباح، وجوقة مصاصي الدماء؟ كيف يأتي هذا العشق متمرداً على كل الأعراف الوجدانية والكونية ليصبح قصة العشق الحارق الذي يبحث عن مرفأ؟ وكيف ينمو زهرة وردية تحت حبل المشنقة وسط قفر الديار وعواصف الرمال الساخطة التي تلعن  المباني والحكام والبشر في مدينة منحتها الألهة لثعابين وأفاعي الصحراء الكبري وأغلقت دونها الأبواب، مدينة تسمي طرابلس…)(9).

وهذا السؤال يقودنا إلى فضاء ذاك المشهد الدرامي الذي كان سبب الصرخة المدوية للذات المبدعة كما نقلته لنا الساردة نفسها وهي تصف الجريمة التي نفذت وسط الحرم الجامعي (… فجأة وبدون سابق إنذار جيء بمشنقة خشبية حسبتُها في البداية إشارة لعملية كثيراً ما رأينا مثلها على شاشة التلفاز لشنق الأعداء رمزياً. لم أكن أعلم أننا نعيش حدثاً حقيقياً حتى فاجأتنا سيارة عسكرية كالريح في سرعتها، وقفت فجأة بطريقة استعراضية فأثارت عجلاتها أزيزاً يخترق الفضاء عند توقفها المفاجيء. نزل منها عدة أفراد طوال القامة يجرون شخصاً هزيلاً وهو يصرخ “أنا بريء أنا بريء. أرجوكم اسمعوني. أعطوني فرصة. أرجوكم الرحمة”. لم يستمع إليه أحد وسلّمه الرجل البدين لاثنين من الرجال الواقفين المتأهبين، وأشرأبت الأعناق نحوه وألتفت الجموع تتدافع نحو الأمام لترى ما يحدث، فأخفت بتدافعها عن ناظريّ تفاصيلَ ما يدور حتى أتمكن من ملاحقة المشهد…)(10).

وتواصل “سعاد” سردها للمشهد الصادم المؤثر فيها وفي غيرها من الحضور الطلابي داخل الحرم الجامعي (… وجدتُ مسافة صغيرة بين الزحام، حشرتُ رأسي في تلك المسافة لأتمكن من متابعة ما يدور. رفعتُ رأسي فلم أجد إلا ساقين ترتجفان معلّقتين في الهواء وما هي إلاّ لحظات حتى توقفت الساقان عن الحركة وكان في عداد الأموات. لقد شنقوه وسط ذهول الجميع. علا الصراخ الفاجع والعويل وسقط أعداد من الطلبة مغمى عليهم..)(11).

هذا أحد المشاهد الإرهابية والأحداث المأساوية التي عشتُها شخصياً وجيلي داخل الحرم الجامعي المدنس آنذاك بالعديد من الجرائم المادية الجسدية والمعنوية الفكرية، وقد نقلتها الكاتبة بكل دقة وتفصيل مؤثر وبليغ بل وأضافت إليها ربطاً تاريخياً ذكياً يتصل بالمشانق التي نصبها الاحتلال الايطالي للمجاهدين الأبطال الليبيين وهي مقارنة عميقة الدلالة السياسية والروائية. ومن قلب ذلك المشهد الدرامي تتخلق الحبكة الفنية المحركة الأساسية للنص الروائي والتي صورها الموقف الأول للحظة إلتقاء البطلة “سعاد” بحبيبها “طاهر” وبداية العلاقة العاطفية بينهما كما نسجه خيال الكاتبة ببراعة (.. صرختُ بأعلى صوتي، وألتفتُّ يمنة ويسرة أحاول أن أتخطى الأجساد المتدافعة الملقاة على الأرض لأفر من الموقف ولا أجد القوة لأنجو من هول ما رأيت، فقد منعتني جموع الطلبة المتدافعة والمتراكمة حولي. كلها تحاول الهرب ولم أجد فرصة لالتقاط أنفاسي وضاع صوتي وسط الصراخ المتدافع من الحناجر المفزوعة. كنتُ أرتعش وأسناني تصطك. أقاوم الرعب للخروج حتى ظهر نفس الشاب الذي رأيته ينظم الطلبة فجأة، يمد لي يده كما تمتد يد الملاك من بين الأمواج للغريق. نظرتُ إليه ودفعته بكل فزعي لأبعده عني وأنا أستغيث “لا لا”. صوّر لي رعبي أنه يقودني أنا أيضاً إلى المشنقة. تكلم مثل روح آتية من عالم آخر يحاول تهدئتي وكأنه يعرفني من قبل قائلاً بأعلى صوته:” لا تخافي لا تخافي سأخرجك من هنا فقط أعطيني يدك.. . هات يدك يا آنسة”..)(12).

وهكذا ارتبطت الآنسة الطالبة “سعاد” قلبياً وعاطفياً بالشاب “طاهر” وظلا معاً صحبة آخرين ينسجون خيوط رواية “صراخ الطابق السفلي” وفق خطوط ومسارات الكاتبة مبدعة النص. وهذا المشهد بالذات لم يغادر فكر وخيال الساردة طوال الرواية وظل على الدوام الهاجس الذي يشكك في ولاء الحبيب “طاهر” للأيديولوجيا وانغماسه في جرائمها المادية كما حضوره القوي فيها ضمن الجوقة الناعقة بمقولاتها وهتافاتها وأعمالها الإرهابية. لقد استوطن هذا المشهد ذهن وفكر “سعاد” وكلما حاول القلب إبعاده عن ساحة التفكير والبحث عن إجابة صريحة ومحددة وصادقة وواضحة له تناوبت الظروف والأحداث على تغييب ذاك الجواب الشافي للهيب شوقها المتواصل لليقين دون جدوى. فظلت سعاد تتعذب بحبها وأسئلة مطرقتها الفكرية وحيرتها الدائمة (.. كيف يتحول هذا التوجس إلى إعصار عشق؟ كيف يمتزج الخوف منه والهيام به في آن واحد؟ فرحٌ مباغث ملأ فضاء الروح وانتشر في كل الجهات. أنت البرق القادم من خلف الغيوم، وأنت من أنت؟ أنت أيها القادم من وسط الجحيم تمدّ لي يدك لتخرجني من محافل الشنق المعلن وتفتح بوابة النجاة لتجعلني أمر بلا تصريح، هل تراك فتحت بوابة قلبي معها إليك لتعبر دون سؤال؟ السؤال الحارق: هل أنت معنا؟ هل أنت معهم؟ خفق القلب لك رغم الشبهات التي تلف نسيجها حولك ولازالت عقدة المشنقة تفصل بيني وبينك، لازلتُ غير متأكدة من براءتك لكن الحب لا يعطينا فرصة أن نختار من نحب ومتى يخفق القلب…)(13).

صراخ الطابق السفلي…

برز الصوت الجدلي واضحاً وواثقاً في الرواية من خلال طرح المؤلفة أفكارها المتعددة، المشاكسة والمعاندة أحياناً، خلال المناقشات العديدة التي ظهرت في هيئة حوارات موضوعية تناولت العديد من القضايا التي يعيشها المجتمع ومن بينها قضية حقوق المكون الأمازيغي التي يطالب بها. وقد انحازت الكاتبة بفكرها المستنير، وهي المنتمية والضاربة جذورها العائلية في هذا المكون الاجتماعي العريق، إلى تسليط الضوء والاهتمام بالدولة القوية بكل مكوناتها مع احترام تاريخ الحضارات القديمة التي سادت على أرضها، كما ورد في ردود “سعاد” على رفيقها الامازيغي “حازم” حين قالت (.. إن هناك حضارات سبقت الأمازيغ على هذه الرقعة على ما أذكر الحضارة “الموستيرية” و”العاترية” والمهم ليس في السبق يا حازم. هناك ما هو أهم من هذه المواضيع ألا وهو بناء مجتمع الحرية..) وتواصل التعبير عن رأيها الجريء بصيغة التساؤل (..ما فائدة التغني بأمجاد غابرة ونصرف جهداً نحتاجه لبناء الإنسان الليبي بغض النظر عن عرقه الأمازيغي أو الافريقي أو العربي أو التركي؟. ما الفرق؟ كلنا نرتدي “الجرد” أو “الحولي” و”الرداء” ونتحلق حول أكل “الكسكسي” وتراثنا هو هذه المغارات التي نسكنها جميعاً. ما فائدة التغني بأمجاد مضت ونحن نفتقر الآن إلى أدنى حد من الحرية ونساق كالقطيع؟..)(14).

صراخ الطابق السفلي…

إحدى مظاهر الصور المريرة التي تبرز المعاناة النفسية القاسية للساردة تمثلت في إبعاد حبيب قلبها عنها وإرساله في ظروف غامضة إلى جبهة القتال في حرب تشاد جنوب ليبيا وذلك للاستفراد بها. وقد تمكنت الذات الأنثوية الكاتبة من وصف فضاء ساحات المعارك وعمليات القتال والخطط الحربية وأسماء المواقع والأماكن الحربية وأنواع الآليات العسكرية ومجريات الأحداث في تلك الحرب البشعة ببراعة ودقة متناهية، بل تفوقت كثيراً في تصوري على ما سجلته رواية “التابوت”(15) للروائي عبدالله الغزال، الحائزة على جائزة الترتيب الأول في مسابقة الشارقة للإبداع العربي سنة 2003 والتي بطلها “زيدان” الشاب الليبي ميكانيكي السيارات الذي يجد نفسه مطلوباً للذهاب إلى جبهة القتال في “تشاد” ضمن القوات الليبية مفارقاً حبيبته وزوجته “بتول”، فظل طوال فترة مكوثه في جبهة القتال وحتى وفاته بها، يسجل يوميات حياته القاسية بين رمال الصحراء ووحشتها ورصاصها وألغامها وتفجيراتها، وهو يناجي فيها حبيبته ويصف أحداث الجبهة وعمليات الهجوم والصد والدفاع في تلك الحرب المجنونة القذرة، متوسداً طيف “بتول” في صحوه وأحلامه وآماله البسيطة التي يرسمها ويهيئها استعداداً ليوم العودة واللقاء بحبيبته لكي يسرد عليها ويوثق ما يدور من فساد وترويع وإهدار للطاقات وقتل للأمكانيات الليبية وتدمير الروح الإنسانية النابضة في الليبي البسيط.

إن تفوق الكاتبة هنا في رواية “صراخ الطابق السفلي” مرده أنها وحّدت المعاناة سواء بالنسبة للشابين “طاهر” و”آدم” أو أسرتيهما أو لدى حبيبتيهما “سعاد” و”عائشة”، كما أنها استطاعت وصف جبهة القتال بالعديد من التفاصيل الحربية الدقيقة وهي المرأة التي لم تخبرها أو تراها، وبالتالي جعلت محرك فضاءها الروائي يرتبط ويعتمد على عناصر متصلة ومتواجدة في المكانين وهي الأنفس المفعمة بالشوق واللهفة، والمسكونة بالهموم المشتركة، والمعلقة بأمال اللقاء، وأيضاً مشاهد الحياة المضنية والقاسية التي تعيشها الحبيبة في مدينة محاصرة بالقمع والارهاب والعنف الذي يتساوى مع صنوفه هناك في ساحات القتال المحفوفة بكل هواجس القلق والترقب والتربص الدائم لمفاجأت الموت والهلاك. وبالتالي جاء قول عائشة عند اكتشافها أن حبيبها “آدم” قد أرسل للمشاركة في معارك جبهة القتال في تشاد متوافقاً مع أفكار النص وواقع أحداث الماضي المأساوي البغيض. (.. ليتك تدري بأخبار معاركي هنا في هذه الأدغال الموحشة مع الحيوانات المتوحشة. إنها أشرس من معارككم. آه أيها الغائب لقد أبعدوك ليستفردوا بي. لم استطع مغالبة دمعي الحارق الذي منعني من القراءة واستلقيتُ مستسلمةً للنزف..)(16).

صراخ الطابق السفلي…

جاء استخدام الكاتبة والساردة لتقنية الفلاش باك انسيابياً متكرراً ومكملاً للمشهد الروائي وترابطه في كل جوانبه مما جعل السرد متوحداً في تنقلاته عبر أزمنة متعددة بين حاضر الساردة وماضوية المشاهد والمواقف المسترجعة والتي ظلت ناقوساً مدوياً في الذاكرة المبدعة. ولعل أبرز مثال على ذلك هو مشهد المشنقة الذي ظل يتمثل ويتكرر في ذهن الساردة “سعاد” كلما طاف خيال حبيبها “طاهر” وهواجس الظن والشك في دوره الحقيقي حيث تقول: (… قررتُ أن أصارح طاهر بشكوكي. لا أستطيعُ أن أتواصل معه على حدود خطوط التماس، وأن يظل حبل المشنقة يفصل بيننا..)(17).

صراخ الطابق السفلي…

استطاعت الكاتبة أن تنقل الكثير من صور الشر والظلم والطغيان التي عاشتها الساردة، ومن خلالها توغلت تلك الصور في المشاعر فأجهشت النفوس بالبكاء وأسالت سيول الدمع، ولكنها في ختام الرواية انحازت لقيم الخير وحب الحياة والإيمان بأن استمراريتها هي تأكيد الأمل في مستقبل مشرق وغد أفضل. وقد جاء مشهد لحظة محاولة الانتحار معبراً عن كل ذلك ببراعة أجادت الكاتبة سرده معززاً بالكثير من الشواهد والأشخاص والأحبة والأسئلة والاستفاقة للعقيدة الدينية السمحاء حين كانت بطلة الجزء الثاني على شاطيء البحر تستعد لفتح قنينة السم استعداداً للانتحار والخلاص من واقعها المرير ومذلة الحياة وظلمها (.. ظهرت فجأة صورة أمي وأنا أحاول فتح القنينة بفمي. أبعدتُها لأبحث عن مسلك آخر لفتحها. ظهرت صورة أبي النائم جالساً أمام عربة حماره، وانتظار أختي لعودتي لها، وأخي الواقف ينتظر نصيبه اليومي ليشتري الحبوب التي أدمنها. ماذا تبقى لهم لأفجعهم في العائل الوحيد؟ قطع حبل تفكيري فجأة صوتُ ملائكي ينادي “الله أكبر” إنه صوتُ الآذان منادياً للصلاة الله أكبر ومنادياً لي أن أعود…) ويعكس هذا الانحياز لحب الحياة وقيم الخير، والذي تداخلت واشتركت فيه “سعاد” و”عائشة” والساردة رحابة الفكر وسمو العقل الإنساني ورهافة الأحاسيس المفعمة بالمحبة للوطن والآخرين والذات التي تؤمن بأن الحياة لا يمكن أن تتوقف عند موقف أو حدث أو زمن معين، بل سمتها التواصل الطبيعي والدوران الزمني كما عبر عنه الشاعر:

(حين اتكأ الليلُ
على خاصرةِ الشمسِ
وبثَّ العتمةَ في كُـلِّ الأرجاءِ
ونعقَ بصوتٍ همجيٍّ
قالَ: أنا موجودْ
ابتسمَ الصُّبحُ بثقةٍ
شدَّ إليهِ
بقايا خُيوُطِ الضوءِ المُرتعشِ
وغادرَ وهو يقولُ
غداً سأعودْ)(18)

وفعلاً مثلما تقول قصيدة (إن غداً) لشاعرنا الكبير عبدالحميد بطاو، ها قد عاد الصبح والزمان المغاير لذاك الذي عشناه تحت رعب وديكتاتورية العسكر ومزاجية الايديولوجيا التنظيرية المتقلبة وهواجس القلق والخوف. ها قد عاد الصبح وصار للبوح فضاءه الحر وذائقته المميزة، وللإبداع الليبي نكهته الخاصة وعلو كعبه عربياً ودولياً من خلال إنتاج العديد من الأعمال الأدبية المتميزة والمتفوقة التي ولدت من رحم معاناة نفسية قاسية وظروف المعيشة الصعبة المتدنية، وتلك كلها إن كانت تعزز التأكيد على قدرة الإنسان الليبي على العطاء والتميز والتألق في غياب الإمكانيات وتردي الظروف والبيئات اللازمة للإبداع إلى مستوى سحيق، فإنها تطرح سؤالها الشرعي  إذا كانت هذه الأعمال الابداعية على غرار رائعة (صراخ الطابق السفلي) للدكتورة فاطمة الحاجي قد ولدت بهذا التألق السردي المبهر من خضم المعاناة الإنسانية وتحت دويّ الرصاص ورائحة الموت وشلالات الدم وعذابات الغربة القاسية، فكيف ستكون مستويات الإبداع الليبي فيما لو كانت الأوضاع أكثر استقراراً وأمناً وسلاماً؟ وهل سيكون المبدع الليبي أكثر عطاءً وازدهارا وتميزاً وتفوقاً أم سيظل كما يصفه الأستاذ منصور بوشناف في مقالته (الأدب الليبي مائة عامة من العزلة)(19) المنشورة بمجلة “البيان” الصادرة عن رابطة الأدباء الكويتية:(… ليس عبثاً ما يقال “من ليبيا دائماً يأتي شيءٌ جديد”، وهذا الجديد حراك ثقافي وإبداعي له خصوصيته وفرادته شكلاً ومحتوىً ودلالةً، نلمحه في الفن التشكيلي، والأغنية، كما في الشعر والقصة والرواية، ولا تنقصه الغزارة ولا النوعية، إنما الاكتشاف والتعريف والتسويق والإنتشار أيضاً…) فما أحوجنا إلى اكتشاف هذه الجماليات الكامنة في ذواتنا الليبية المبدعة، والسابحة في فضاء بيئتنا الوطنية الخاصة، والمستوطنة في فكر وعقول مبدعينا ومبدعاتنا، والتي تظل إحداهن كاتبة هذه الرواية الدكتورة فاطمة الحاجي التي نقشت بصمتها الإبداعية الأولى في مشهدنا الأدبي الليبي بكل جدارة واقتدار واستطاعت أن تنقل بكل أمانة معاناة الجنسين المرأة والرجل في ليبيا خلال عهد دكتاتوري ظالم، وأن تبوح وتصرخ بذلك في عملها الروائي (صراخ الطابق السفلي) الذي يستحق كل التحية والتقدير والثناء.

__________________________________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

(1) يوميات زمن الحشر، صالح السنوسي، دار الهلال المصرية، القاهرة، الطبعة الأولى، 2012. (2)  صراخ الطابق السفلي، د. فاطمة سالم الحاجي، دار النهضة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2016.

(3) الزمن في الرواية الليبية، فاطمة سالم الحاجي، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، الطبعة الأولى، 2000.

(4) صراخ الطابق السفلي، ص 5.

(5) الزمن في الرواية الليبية، مصدر سبق ذكره، ص 289.

(6) انظر: مدخل إلى النقد الأدبي الحديث، شلتاغ عبود شراد، دار مجدلاوي للنشر، الأردن، الطبعة الأولى، 1998، ص 63.

(7) صراخ الطابق السفلي، ص 5.

(8) صراخ الطابق السفلي، ص 214.

(9) صراخ الطابق السفلي، ص 6.

(10) صراخ الطابق السفلي، ص 9.

(11)  صراخ الطابق السفلي، ص 9، 10.

(12) صراخ الطابق السفلي، ص 10.

(13) صراخ الطابق السفلي، ص 32.

(14) صراخ الطابق السفلي، ص 87.

(15) عبدالله علي الغزال، التابوت، الشروق للطباعة والإعلان، مصراته، ليبيا، 2005.

(16) صراخ الطابق السفلي، ص 342.

(17) صراخ الطابق السفلي، ص 186.

(18) عبدالحميد بطاو، ديوان (مرثيةٌ مُرائية)، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، 1998.

(19) مجلة البيان، رابطة الأدباء والكتاب الكويتية، العدد 360/361، يوليو/ أغسطس 2000.

مقالات ذات علاقة

الرواية والحياة.. خوض في قضايا التهميش والعنف

خلود الفلاح

نبش الذاكرة

المشرف العام

إبراهيم الكوني وفلسفة الاستقرار والترحال في رواية البحث عن المكان الضائع

المشرف العام

اترك تعليق