قراءات

أوشاز الأسلاف لداود حلاق.. سير التاريخ وتوطين أحداثه

غلاف كتاب (أوشاز الأسلاف) للكاتب والباحث داود حلاق
غلاف كتاب (أوشاز الأسلاف) للكاتب والباحث داود حلاق

لعب التاريخ بأحداثه وتقلباته وبأزمانه وأمكسه دورا مهما وعميقا في ذاكرة الكاتب والقاص والمؤرخ داود حلاق، فقد استولى على حسه وفكره وولمه، وجاءت كتاباته ـ حتى القصصية مها ـ تتسم بأبعاد التاريخ، وتمثل أعماقه وأحداثه المختلفة، ولاسيما تاريخ ليبا، الدي كان لهدا المثقف علاقته الخاصة والمتواصلة والمتوترة معه في مختلف مراحله وتسلسلاته، ولاسما تاريخ ليبيا القديم بوجه خاص.

فالتاريخ وأحداثه هو الشريان لهدا الكاتب الدي يمد كتاباته بالحياة ويمنحها طعما خاصا، ونكهة مميزة لا يجدها عند سواه، فكتاباته تجمع إلى البعد التاريخي الأصل الذي سهل منه، جمال الكتابة وروعة الأسلوب وأصالة المنبع الثر الذي لا يتوقف بين يديه وعبر اتصاله وتواصله المستمر معه.

وقد مثل كتابه (أوشاز الأسلاف) الذي يتوقف هذا البحث عنده، زاوية مهمة وعميقة لدراسة هذا التاريخ وما بركه من آثار لها أبعادها الخطيرة في كيان الناس ووجدانهم وحياتهم في مرحله خطيرة من حياه هؤلاء الناس في منطقة الجل الأخضر، ارتبطت بالمواطن والزمن والمجتمع، حاول المؤلف رصد أبعادها وتوطين أحداثها وربطها بما وجد من آثار تدل على الحوار المستمر والعميق بين الإنسان في هده المنطقة وبيئته من حوله.

فهذا الكتاب قراءة عميقة وأصيلة، عاشت في ذاكرة المؤلف واستوعب أبعادها وخالطت أعماق نفسه مرحلة طويلة أربت على ثلاثة أعوام، كما يقول المؤلف من عام 1985 -1987 م قبل أن يجسدها كتابة في هذا المؤلف المتميز.

وهذا الوعي القديم الجديد تحسه في كل جزئية من هذا الكتاب؛ عبر الكلمة تارة وعبر الصورة تارة أخرى، بدءا من اختيار العنوان ذاته (أوشاز الأسلاف) الذي جسد العمق التاريخي والاجتماعي والثقافي والحضاري لمجتمع الأوشاز الذي رصده المؤلف وتابع حياته عبر صفحات كتابه الذي يبدو أن المؤلف قد استعان فيه بذواكر أخرى كانت رافدا قويا وسندا حاضرا حين الحاجة، فيذكر المؤلف  كثيرا جده الحاج حلاق حمد مؤمن الذي استوعبت ذاكرته القوية والواعية كثيرا من الأحداث التي مرت بها حياته الطويلة، وكانت سجلا حافلا لها فيه الكثير من التفاصيل والدقة المتناهية في استرجاعها وعرضها، فقد كان واحدا من الليبيين الذين احتضنتهم هذه الأرض وربطوا حياتها بها ووجودهم بوجودها مهما كانت المحن والكوارث، إذ أن حبهم لهذه الأرض وارتباطهم بها كان أكبر من كل شيء، وكان قادرا على مواجهة عدوها وعدوهم مهما كان، وهذا ما جسدته مقولة البطل الشهيد عمر المختار لجلاديه الطليان “نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت”.

فجاء هذا المؤلف عبر التأمل الطويل والقراءة الواعية والتجربة الميدانية المضنية التي خاض غمارها المؤلف ورفافه بوسائلهم الذاتية وأدواتهم البسيطة وجرأتهم العالية في مواجهة الأخطار التي يمثلها الكشف عن أكثر من تسعين كهفا معلقا يصل ارتفاع بعضها قرابة سبعين مترا، أي ما يعادل ارتفاع بناية من عشرين طابقا، ابتداء من (وادي الخليج) الواقع شرق درنة، حتى (وادي كعب) جنوب بطة، تحت شعار (المعاليق أولا) ليكشف عن واقع هذا المجتمع المعلق التاريخي والاجتماعي والحضاري والثقافي.

وغاصت هذه المغامرة في عمق التاريخ منذ العصر الحجري (أي لأكثر من ستين ألف سنة) خلت، كانت هذه الأوشاز هي الموطن والملاذ والمأمن لهذا الإنسان الذي عاش في أناة وصبر، وقاوم عوادي الأيام، ورفض الهروب أو الفرار خارج هذا الوطن.. يقول المؤلف في مقدمة هذا الكتاب : “هذا عمل متواضع، بل إنه ضئيل أتى بصورة عامة وفي كثير من الإيجاز الملحوظ، إلا أنه يميط اللثام عن ملامح القصة كاملة لمجتمع الأوشاز الذي مارس حياة اجتماعية شبه جوية في مقرات صخرية معلقة في أودية الجبل، في حقب تخللتها أحداث مهلكة جثمت قرونا بصورة شبه متواصلة، ناشرة رداءها الأسود على المنطقة بأسرها”.

وكانت هذه الملاذات المعلقة الضاربة في عمق التاريخ، أمكنة اتخذها الإنسان في هذه المنطقة سكنا له، وقام بنحت وإعداد ملاذات أخرى ترتفع عن سطح البحر، وتقع في الانحدارات الصخرية وأجراف الأودية، وأقام الاستحكامات والتحصينات المتفرعة فيها لدرء الخطر ومنع الدخلاء والطامعين.

وقام سكان هذه الملاذات بتشييد الجدران الحجرية والشرفات الخشبية لهذه المقرات لتأمين الحياة داخل الكهوف بهندسة فذة، وتصميم عجيب ومدروس، يؤمن لهم حياة مريحة داخلها ويمنع عنهم الخطر الداهم من خارجها.

الراحل داوود حلاق.
الراحل داوود حلاق. تصوير: أحمد العربيبي.

وتعددت أنماط هذه الكهوف كما يقول الباحث، حسب التطور الزمني والظروف التي تحيط بالسكان في هذه المنطقة، وفد وفر السكان داخل هذه الأوشاز كل أسباب الأمن ووسائل الراحة لأنفسهم، والمرافق التي يحتاجونها في حياتهم اليومية، وطرق حمايتها والدفاع عنها عند الحاجة، كما مثلت حياتهم فيها الدقة وحسن التنظيم وروعة التعاطي مع ما يحيط بهم، والذوق الرفيع في تصنيع وإعداد حاجياتهم، فقد جمعت إلى الهدف الأصلي منها، دقة الصنعة وحسن المنظر وسلامة الذوق في داخل هذه المواقع المعلقة.. يقول الباحث بعد أن عدد التسميات المختلفة المنتشرة في المنطقة، التي أطلقها الناس على هذه الملاذات مثل: “أمعلقة أو معلقية، طيارة، طبقة، كاف، تيقة، شرايحية، وشز، جمعها أوشاز، وهو العنوان الذي اختاره المؤلف لكتابه.. يقول المؤلف في بيان اختياره لهذا الاسم، ودلالته الخاصة على هذه الملاذات دون سواه من هذه التسميات التي ارتبطت بحوادث معينة أو بأسماء أشخاص، لكنها لا تدل بدقة على هذه الأوشاز، ولا تعبر عن جوهر وجودها وهدف إنشائها مطلقا، يقول : ” وعلى هذا الأساس فإن اسم وشز هو الاسم الذي يرد ذكره غالبا دون غيره من أسماء هذه المقرات، معبرا ودالا على نمط من تلك المقرات وأسمائها دون الإنقاص من التسميات الأخرى”.

وقد تعددت واختلفت مهمة تلك الأوشاز التي أربت على سبعة قرون، وفق الظروف التي عاشها الناس، وحسب الحاجة التي دفعتهم إلى استخدامها، فاستخدمت كمساكن عامة أو خاصة، ومناحل خاصة أو عامة، ومخازن عامة أو خاصة، ومخابئ، وخضعت للتغيير والتحسين والتطوير حسب هدف استخدامها والاستفادة منها، من جيل إلى جيل حتى عهد الاستعمار الإيطالي.

كما طور الإنسان نماذج هذه الأوشاز لتلائم إقامته فيها من ناحية، ولتوفر له إمكانية العيس فيها وحماية نفسه ضد عوادي الطبيعة والبشر، سواء في النماذج التي شكلتها هذه الأوشاز، أو في وسائل العيش داخلها، وطريقة تنميقها وتزيينها وتنظيمها من الداخل من ناحية أخرى.

واستفاد الإنسان الليبي في هذه المنطقة أقصى استفادة من استخدام هذه الأوشاز بالفكر والعمل والابتكار والاعتماد على ذاته في توقير كل ما يحتاج من أشياء البيئة المحيطة به، واستغل عناصرها وموادها أحسن استغلال وأثمنه وأفيده وأكثره اقتصادا له، وقربا لوقعه وحياته، في ذكاء وصبر مكنه من العيش فيها، والتعاطي مع ظروفها الصعبة المهلكة لأن إرادة الإنسان هي التي تصنع حياته حاضرا ومستقبلا.

إن هذا المجتمع الذي رصدته هذه الدراسة في الجبل الأخضر، خلق حياة خاصة به، وثقافة خاصة به، وكيانا اجتماعيا ينم على قدرته الفائقة، وذوقه الرفيع، وسعيه الحثيث والمتنامي، لخلق ظروف تصنع حياة كريمة له في حاضرة، وفق ما توافر له من إمكانيات، وما استطاع خلقه من إبداعات مميزة، تفتح لأجياله اللاحقة معاني حب هذه الأرض، والالتصاق بها، مهما ساءت الظروف المحيطة به، فإرادته ستكون أفوى، وتفاعله سيكون أوفى وأثمن ما يقدم لها.

إن هذا الحوار المستمر، والتفاعل المثمر بين الإنسان في ليبيا وأرضه هو الأصل، وما عداه هباء تذروه الرياح وتلقيه في ركام العدم، قال تعالي في سورة الرعد : ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال).

إن هذا ما حوته هذه الدراسة، وما عبرت عنه هذه الأوشاز كشواهد تاريخية عميقة الدلالة وحاسمة، تعطي الحياة والتفوق والشرف للإنسان في هذه المنطقة، والثقة بخالقه الذي لن يخذله أبدا، والأمل الذي يسعى لبلوغه، حين رفع صوته وغنى للحياة القادمة فقال :

القمح واجد والرحى رقابة “” والراس ما من حاطا في طاقة.


المصدر: منتديات عيت أرفاد التميمي.

مقالات ذات علاقة

بين الصَّادقِ النَّيهوم وأشواقِ الآلِهَة

المشرف العام

رحلة القلم النسائي الليبي في كتاب القيادي

خلود الفلاح

القصة القصيرة الحاضرة الغائبة في الأدب الليبي

إبتسام صفر

اترك تعليق