السبعينات شهدت أسماء وتجارب بارزة انطفأت تحت القمع الدموي
عمر شبانة
الحديث عن الثقافة في ليبيا حديث معقد إلى حد ما، ففي حين يمكن الحديث عن الأصدقاء من الكتاب والمثقفين الذين عاشوا سنوات الاعتقال والتعذيب، وخرجوا بصور من التشوهات الجسدية والنفسية، وكتبوا الشعر والقصة فقدموا تجارب مهمة، يجب الحديث أيضا عن المهرجانات ومعارض الكتب التي كان يصر أصدقاؤنا الليبيون على أن يدعونا لحضورها في سنوات الحصار تحديدا. أكتب عن ليبيا الآن بعد سنوات تعود إلى مطلع التسعينات، منذ الزيارة الأولى للمشاركة في مهرجان النهر الصناعي العظيم للشعر في بنغازي (شارك فيه عدد من الشعراء العرب لكن واحدا منهم لم يقرأ مديحا للحاكم)، وانتهاء بآخر معرض دولي للكتاب في طرابلس (حين فاجأنا الحاكم مرة وقصفنا بخطبة امتدت ما يزيد على ثلاث ساعات)؟
أكتب عن مبدعين ومثقفين لم يعرفهم المشهد الثقافي والإبداعي العربي لأسباب تتعلق بطبيعة النظام من جهة، وبسبب المقاطعة التي فرضت على ليبيا لسنوات طويلة، ولأسباب تتعلق بفقر هائل يعاني منه الإعلام الليبي.
سبق وكتبت عن عدد من الشعراء والكتاب الليبيين، منذ عقد التسعينات، التقيت كثيرا منهم في حوارات، وراجعت مجموعات شعرية لبعضهم، حين كنت أزور ليبيا وأقيم في فندق باب البحر في طرابلس، في هذا الفندق كنا نحب الاستضافة من أجل اللقاءات مع الأصدقاء، لكننا كنا نصاب بالضجر والملل لأن المدينة ليست فيها أية صورة من صور الحياة خارج الفندق، أو عندما يحين وقت مغادرتنا فلا نجد الترتيب الملائم، بل نعاني الانتظار والمماطلة في الحجز وعدم الاهتمام من قبل المنظمين، هو نوع من “التنبلة” يعيشها موظفو النظام الحاكم.
وفي طرابلس أندهش بما يضم متحفها من تحف تعود إلى آلاف السنين، لكن مشكلته أنه متحف بلا زوار تقريبا لقلة الرعاية من قبل الهيئات المختصة. وأزور صبراتة بموقعها الأثري الفينيقي العظيم على البحر ولكن المعزول والمهمل بصورة عجيبة، أو أقيم في القرية السياحية وبيت أحد الأصدقاء في بنغازي، أثناء أحد المهرجانات، ثم أتجول مع عدد من الشعراء الليبيين العرب في مدينة “شحات” الأثرية التي تضم مجموعة من المواقع وتماثيل الآلهة اليونانية المهملة أيضا، والتي يمكن أن تشكل فرصة للقطاع السياحي لا تتوفر في أي مكان في العالم ربما.
ليبيا بلاد جميلة وثرية بالآثار، وحتى صحراؤها جميلة وباهرة، ولنتذكر توصيفاتها في روايات إبراهيم الكوني، لكن الإهمال والتهميش هو ما يميز مناطقها ومناظرها، من البيضاء إلى الجبل الأخضر، جبل عمر المختار، وصولا إلى مهزلة النهر الصناعي الذي لم يكن نهرا ولا عظيما، وكان الأصدقاء الليبيون يسخرون من فكرته ومن الأموال الطائلة التي صرفت عليه من دون أن يستفيدوا منه شيئا، وندمنا على المشاركة بالمهرجان الذي أقيم باسم هذا النهر، رغم أنه كان فرصة لتعرفنا على عدد من شعراء العرب. فنحن لم نكن نفهم كيف يمكن لشعب أن يعاني من البؤس رغم الثروة الهائلة لبلاده. لم نكن نفهم كيف توجد في بلد كهذا أحياء لا يوجد مثيل لها في الدول الأفقر.
لن أعود إلى الحضارات التي مرت بليبيا، خصوصا الحضارة البونيقية منها، سأحاول استرجاع صور الأصدقاء من شعراء وكتاب ونقاد، وأبدأ بأصدقاء تحدثت معهم في بداية هذه الانتفاضة الشعبية، وكان الحذر في كلامهم بارزا، ثم أرسل لي بعضهم “مسجات” حذرة أيضا، لكن هواتفهم أغلقت بعد ذلك، وانقطعت أصواتهم. لن أذكر سوى القليل من الأسماء التي تعرفت عليها طوال أكثر من عشر سنوات، فهي كثيرة، خصوصا ما يتعلق بالراحلين منهم ربما.
لن أتحدث عن الشهيرين إبراهيم الكوني والصادق النيهوم وإنجازاتهما، الأول في مجال الرواية تحديدا، والثاني في مجال الفكر، ولكنني أستعيد بدءا اللقاء مع قامة أدبية شامخة لكاتب ومترجم لا يمكن تجاهله، هو محمد خليفة التليسي الذي زرته في مكتبه في طرابلس فأهداني ترجمته للشاعر الهندي طاغور في واحدة من أجمل الترجمات. عدا عن كتاباته التاريخية والنقدية والأدبية عموما.
فهناك تجارب شعرية من جيل الستينات والسبعينات حتى جيل التسعينات، ممن لم يسمع بهم سوى القليل في المشهد الثقافي العربي. في المشهد شعراء من جيل الستينات رحلوا، أستعيد منهم علي الفزاني وعلي صدقي عبد القادر ومحمد الشلطامي وسواهم، هؤلاء الذين كنا نلتقي بهم في المهرجانات، بين طرابلس وبنغازي تحديدا، شعراء أصحاب تجارب على قدر من وعي التحرر والتعبير عن الحرية شعرا وأدبا بصورة عامة، تجارب تطاول التجارب العربية المعروفة، لكن ظروف ليبيا لم تسمح بوصول أصواتهم والتعريف بهم عربيا. أتذكر الفزاني وحضوره القوي وجرأته في المواجهة وتناوله لقضايا الإنسان عموما، وأتذكر من قصائد الفزاني النثرية، وهو كتب النثر والموزون، قوله:
أنا لا أخبئ الشعر المعادي للأفراد
أنا أبحث عن الخلاص للإنسان المقهور
في وطني الكبير
في العالم أجمع
إنني أغضب
وعندما أغضب
أبصق علناً في وجوه المرابين
والوصوليين والخونة
الذين أعرفهم
فرداً فرداً
وعصبةً عصبة
وقبيلةً قبيلة
وماذا يتوقع الأغبياء
من شاعر معاصر لهزائمهم؟
هذا نموذج قصير من شعر جيل الستينات والسبعينات، وهو شعر غاضب وساخط ودفع الشعراء من أجله الكثير من الثمن في السجون والزنانزين.
السجن يحضر في شعر غالبية شعراء ليبيا، فالشاعر محمد الشلطامي يستحضر السجن منذ مجموعته الشعرية الأولى في العهد الملكي، وفي واحدة من أواخر قصائده قبل رحيله في العام الماضي يتساءل الشاعر محزونا، ولكن بنبرة فيها خيط مضيء من الأمل:
رفاقي
أتعشب في الفجر هذي الصخور؟
أتزهر فوق جدار الردى الأمنيات
وهذي البذور؟
هنا منذ شهر مضى
هنا منذ عام مضى
هنا منذ قرن مضى قام سور،
وسجن وجيل من الهالكين
أتشرق شمس الربيع الحزينة
فتوقظ أحلامنا الميتات؟
بعد هذا الجيل، جاء جيل الثمانينات الذي سجنه النظام وعذبه منذ منتصف السبعينات، حين كانت هناك قوى شبابية يسارية وقومية وإسلامية، وكان الكثير من الكتاب ضمن قوى اليسار أو قريبين منها، فاعتقلهم النظام وفتك بهم، فخرج كل منهم بعاهة دائمة، أحدهم بساق صناعية، وآخر بشلل في إحدى ساقيه، وثالث بعاهة في العينين أو غير ذلك.. هذا إلى الحالات النفسية التي كانوا يعانون منها، حالات من التوتر والقلق وحتى الهلوسة والهستيريا، نتاج التعذيب غير الطبيعي الذي تعرضوا له، خصوصا أنهم اعتقلوا في سن مبكرة، وأمضوا سنوات طويلة في السجون، وشاهدوا رفاقا لهم يجري إعدامهم في الساحات العامة في بنغازي (الشاعر الفلسطيني محمد القيسي كان مدرسا هناك وشهد على ذلك كله وكتب قصيدة شهيرة له بعنوان “اليوم أتممت تعاليمي” ضمها ديوانه “اشتعالات عبد الله وأيامه” كانت مرثية لمن سقط من طلبة الجامعات في تلك الأيام، مستحضرا غرناطة وفرانكو، وقد ذكرنا بالقصيدة الصديق الروائي رشاد أبو شاور، واستعاد مقاطع منها في مقاله في “القدس العربي”:
بدأ العام الدراسيّ فما نقرأ؟
اقرأ باسم هذا الجوع
واقرأ ما خلق
خلق الإنسان من فقر وجوع وعرق…
و.. من ليل غرناطة طوّفت إلى الطلاّب في العالم، ناديت:
اخرجي غرناطة الآن إلى جدولك النائم والمجهول،
أمداءً وبيتا واخرجي من هذه العتمة مشكاة وزيتا
فإذا الليل سجى
ما ودّع الطالب ظلّ النخل والرمل، ولا القلب قلى
يا حقول الجوع هاتي الكتبا
أنا ما أغمضت عيني تعبا
ويختتم القيسي النشيد الثاني (النهر يتلو الكتب):
يا بروقي المقبلة
جسدي في سنبلة
وثماري للقطاف
فأعدّي من جديد
لزفاف وزفاف وزفاف
ما نعمان إلاّ طالبا كان يرى المستور خلف الشجرة
ويرى الشمس التي تسطع لا تسطع في هذي الجذوع النخرة
قال ما قال فأردته بواد غير ذي زرع،
عيون السحرة
فأقلّي الحزن يا سيدة الصفصاف والدمع،
أقلّي من أسىً السروة والنبع،
ومن لوع فضاء القبّرة
جيل من المبدعين شعرا وسردا ونقدا وتجارب مسرحية ومحاولات سينمائية وتشكيلية، جيل لا يمكن اختصاره في أي تجربة، ويتطلب وقفات وإضاءات معمقة، لأنهم ابدعوا في مناخات سوداء ودموية شديدة القمع والاضطهاد وكتم الأصوات، فجاءت إبداعاتهم في سياقات الاختناق والهروب من المواجهة المباشرة. أو أن بعضهم اختار المنفى لكنه عاش ثنائية الغربة والاغتراب.
هذا الجيل بقي بعيدا عن الأضواء لأنه كما يقول أحد النقاد والروائيين الليبيين جرى تغييبه وتهميشه، بل إنه يقول بسخرية مريرة “لقد حاصر الكاتب الليبي نفسه؛ رغم أنه يكتب بلغته وأن هذه اللغة العربية لا تحدها الجغرافية السياسية إلا أنه اكتفاء بجهد الكتابة ولم يهتم بالنشر، كأنه ابن الحوش لا ابن الحارة، ضيق على نفسه فضاقت عنه الدنيا حيث تكون لغته العربية؛ هكذا تقريبا لكن من ناحية أخرى تبدو الكتابات الليبية ليست بالعربية ولكن بما قبل الهيلوغريفية أي بلغة كهوف تاسيلي أقدم حضارة بشرية في دهاليز الصحارى الليبية الكبرى أو أن ليبيا تقع في مجرة ليست تحت طائلة العين الطبيعية والاصطناعية، لهذا وغيره ليس لها سبيل في ببيلوغرافيا العرب العاربة المشارقة ولا العرب العاربة في المغرب العربي الكبير. ولا عجب فلن تجد الكتب الليبية في أي ببلوغرافيا فرنسية متعربة أو انجليزية مفرقة أو ايطالية متعجرفة وحتى ببلوغرافيا ليبية في “أوت نت” أو “إنتر نت”؛ “النت” لاهية بالشتم والفضح ومن كل لمزة همزة وليس لها بالكتاب شأن، كذا حال كل “نت نت” مكتوب بالعربية أو بالأفريقية أو حتى الليبية فاللهم أزل عنا كل غشاوة أو غشم، ولعل من دواعي ذلك أن كانت كل منشورات ليبية هي منشورات سرية بحكم الطبيعة وليس من ناتج النعت والمنعوت أو كما جاء في صحيح التليسي النفيس مختصر تاج العروس؛ ولله في خلقه شؤون”.
__________________