المقالة

(كساد) هل هو مصطلح حداثوي؟

الملل هو الحاجة الماسة التي أدت لاختراع لفظة (الكساد) هذه الكلمة التي صارت تُلاك عبر الألسن المختلفة كلما شعر الواحد منها بالملل .

الملل والقلق واللا اهتمام بالأشياء الأساسية، وفقدان الرغبة في الاستمرار، بل في إسباغ الأهمية على الأمور الحيوية المتنوعة، كل هذا جعل منا نتلفظ لا شعورياً بكلمة (كساد) لنهرب من هذا التراكم الواجبي، ولنمني النفس بأننا أنهيناه ومن ثم شعرنا بالملل.. بينما نحن لم نبدأ شيئاً لننهيه، لم نستفتح برزنامة واجبنا اليومي لكي نحس بعده بالفراغ.. لذلك فإن مصطلحات من أمثال (اشغل وقتك) (استغل أوقات فراغك) مثيرة للسخرية عندما نعلم علم اليقين أننا لا نعاني من فراغ زمني بقدر ما نعاني من فراغ حسي يضفي نكهة خاصة على أعمالنا، ويصبغها بالجدية، الجدية في التفكير هي نفسها الجدية في العمل، إن كان العمل أساساً توظيف الأفكار المتوزعة.

كساد، وقت طويل لا يوجد أمر قابل لشغله.. كساد، فراغ غير قابل على الإطلاق للملء بأي حالٍ من الأحوال كون ناطقها يرفض تماماً مجرد التفكير في إمكانية توظيف هذه الساعات المتتالية الطويلة، برغم أنه يحمل مخزوناً هائلاً متراكماً من الأعمال المطلوب منه هو بالذات القيام بها، نمو الحاجيات المؤدية لزيادة الواجبات لسد هذه الحاجيات التي أضحت ضروريات الاستغناء عنه في حكم المستحيل. هذه الإفراطات الحاجية والطلبية المتزايدة، تثقل كاهل العقل البشري وتجعله يختار حلين لا ثالث لهما.. إما أن يتوافق حركياً مع هذه الاحتياجات المادية، ويجهد ذهنه، ويعمل فكره، حتى يصل إلى توازن هو الأصعب من نوعه.. وإما أن يتكوّر حول نفسه، ويقنع عقله قبل الآخرين أنه صار من المؤكد أن لاشيء يستحق إعمال الذهن فيه، وأنه لا تكمن أية أهمية فيما يعمل، فلمَ يعمل؟.. ليس هذا فقط ، بل إنه يقتنع تماماً بعد فترة أن جميع التزاماته قد أنهاها، وأن عملية توازن حاجاته مع السعي إليها قد انتهت، وأنه وصل بعد جهد جهيد إلى مرحلة الراحة.. هذه المرحلة تليها فوراً، وبدون مقدمات مرحلة العصر (الكساد)!.. هذه الدائرة المحكمة الإغلاق ندور جميعنا فيها مع تباين ردود الأفعال، ونؤمن بأننا نعاني من حالة حداثوية صعبة التفسير ولا متناهية إن استثنينا بعض الفترات العملية الصغيرة في حياتنا.. هذه الحالة الشقية والتي تعاود الظهور يومياً، وعلى فترات متقاربة، وتملؤنا بتعاسة مؤقتة تنتهي قليلاً لتبدأ من جديد هل نختار لها اسماً أكثر حداثة من (الكساد) أم أننا يمكن أن نتجاوزها، أم أننا سنكتشف يوماً ما أننا اخترعناها اسماً وأنها ليست سوى وهماً كبيراً خلّدناه ?!!

_________________________________

صحيفة الجماهيرية.. العدد:3774.. 25/08/2002

مقالات ذات علاقة

من مقالات منتصف اللّيل عن فضل رسولنا الكريم

الصديق الطيب البخاري

حبوا الوطن

فاطمة غندور

رَبَد

علي باني

اترك تعليق