الذكرى الـ24 لرحيل الكاتب الليبي بشير الهاشمي
بشير الهاشمي
على امتداد المرات الكثيرة والمتعددة التي أتيحت لي فيها فرصة المشاركة والمساهمة في فحص ومراجعة وتقييم الإنتاج الأدبي المتنوع، لمجموعة من المواهب الشابة والجديدة، والتي تقدم إنتاجها ومحاولاتها الكتابية على الأغلب للمرة الأولى في مناسبات فكرية وثقافية، كان من أبرزها تلك المسابقات التي تقام في سياق النشاط الثقافي المدرسي والتعليمي لمختلف المعاهد والمدارس وغيرها في المناسبات الأخرى التي تطرح فيها مثل هذه المسابقات من فترة إلى أخرى، ولغايات وأغراض متنوعة تندرج في مقدمتها بالضرورة أهداف التشجيع لمثل هذه المواهب وإتاحة الفرصة لها للتعبير عن نفسها.
ومثل هذه المسابقات تحتوي على مواد كتابية متنوعة في الشعر والقصة القصيرة والمقالة، ويشارك فيه مجموعة من المواهب الجديدة، وعلى مختلف وتنوع قدراتها واجتهاداتها واستعدادها الإبداعي في بناء الفكرة ورصدها وتكوين الأسلوب وملكات التعبير.
ومن الطبيعي أن تتكشف مثل هذه المسابقات وتفصح عن عينات ونماذج من المواهب الإبداعية الواعدة والمبشرة بامتلاك حقيقي وأصيل وجاد لإمكانيات أدبية وفنية قادرة على التطور والنمو والاكتمال، وإثبات الحضور مستقبلاً في مجال من مجالات الإبداع الأدبي والفكري، لو وضعت نفسها وموهبتها في دائرة العناية والرعاية والاهتمام الدائم والمتواصل لموهبتها وتعهدها لها وعدم إهمالها.
وفي أحيان كثيرة، وبشكل خاص، حين شد انتباهي ولفت نظري موهبة إبداعية متميزة بذاتها وبما تترصده من إمكانيات متفتحة ومتطلعة، وبأكثر خصوصية في مجال كتابة القصة القصيرة، وحيث أستشف في كتابة قصصية ما من هذه المواهب الجديدة الواعدة والمبشرة والمتشبعة بالقدرة التلقائية والعضوية في الاستعداد لإبراز التكوين القصصي للحدث والسرد والبناء وتجسيد الفكرة في عمومها، كنت أتخذ موقف المتأمل والمتدبر إزاء هذه الموهبة الجديدة، وجملة من الحوارات والتساؤلات يضج بها ويتفاعل معها خاطري وتفكيري، وتتشكل أمامي جملة من الاستفسارات المتداخلة.
كيف السبيل إلى تعهد مثل هذه الموهبة بالعناية والتشجيع، وما هي القنوات والوسائل التي جرى اعتمادها ووضعها لهذا الغرض، وكيف يمكن لمثل هذه الموهبة أن تفهم من ناحية خاصة وضعيتها ودورها في المحافظة على قدراتها والمضي بها في طريق التطور والتقدم، وكيف يمكن أيضاً لمثل هذه الموهبة أن تواصل مسيرتها بلا انقطاع أو توقف؟ .. وكيف يمكن أن توجد مقومات البرمجة والتخطيط – وبالتالي التنفيذ – لصالح هذه المواهب الإبداعية الجديدة؟ .. وأسئلة واستفسارات أخرى كثيرة تدور على هذا المنوال.
وخوف حقيقي يتملكني ويتسلط بظله الرهيب على نفسي وتفكيري، فالمشكلة الأولى والأساسية هنا تبدأ من صاحب الموهبة قبل غيره، ذلك أن الموهبة الإبداعية عادة وفي أكثر الأحيان، تساهم هي في قتل نفسها بنفسها، عن طريق إهمالها لموهبتها وعدم تعهدها لها بالتواصل والتعامل اليومي الإيجابي معها، وافتقارها بالتالي للبذل الحثيث والدؤوب الذي يساعد على إحيائها وتجديدها وتطورها.
وفي حالات معينة كانت تواجهني إجابات صادرة من مثل هذه المواهب الواعدة، والتي أتوجه إليها بالسؤال حول الدوافع والأغراض التي تحفزها وتشجعها على الكتابة وتقديم إنتاجها للناس، فنقول بأنها تكتب لمناسبة هذه المسابقة الأدبية فقط والمشاركة فيها، مع أن من المفترض والمطلوب أن تكون هذه المسابقات مجرد وسيلة وليس غاية في ذاتها، وطريقاً معبداً لاكتشاف مثل هذه المواهب، غير أنها في أكثر الحالات تكتفي وتقف عند غرض المشاركة في المسابقات، وأما غير ذلك فهي لا تجد أية رغبة أو فرصة للكتابة والتعبير على ملكاتها، وإذا ما توجهت إليها بالسؤال عن أسباب عدم استمراريتها وتواصلها، تبادر إلى طرح مثل هذه العينات من الإجابات :
– أبي لا يقتني لي الكتب التي أريدها وتناسب موهبتي.
– ليس لدينا مكتبة في البيت، بعض الكتب المتناثرة.
– ليس لدي وقت، أشتغل بعد الظهر مع والدي في المصنع.
– مشاغل الدراسة تأخذ كل وقتي، بعد إنهاء دراستي سأكتب وأكتب.
– وتقول فتاة: إن مشاغل وشؤون البيت التي ألتزم بها كثيراً ما تبعدني عن الاهتمام بالكتابة والقراءة المتصلة بتنمية موهبتي.
وإجابات أخرى كثيرة، لا يتسع المجال إلى إثباتها هنا .. وكلها تفصح عن الحالات الظرفية لموهبة من المواهب ومن شأنها في عمومها أن تطرح بالتالي قضية أساسية وعلى غاية من الأهمية، وبما لها من رهافة وحساسية دقيقة تجاه هذه الموهبة أو تلك، تلك هي مسألة التوافق والتكيف والتعامل المشترك بين الموهبة ووضعها الظرفي الذي تعيش في ظلاله وتحت تأثيره، وبين رعايتها واهتمامها لموهبتها، وتلك هي المعادلة الصعبة التي تواجهه الموهبة بداية وفي خصوصية محيطها وبيئتها. ومن ناحية أخرى فإنه كثيراً ما تكون الأسرة -وهي مسألة لا مهرب من تأكيد مؤثرها- عاملاً سلبياً في تشجيع هذه الموهبة الناشئة والعناية بهما ودفعها إلى طريق تتقدم نحوه.
وكثيراً ما يصعب على مثل هذه الموهبة -وفي حدود وعيها وتفهمها- أن تكون قادرة على ضبط خطوط التعامل والتجانس مع مسألة التوافق والتكيف، وكثيراً أيضاً ما ينعكس المؤثر العائلي السلبي في انطفاء هذه الموهبة وضمورها وتوقفها وإهمالها لنفسها .. وبأكثر خصوصية حين تكون هذه الموهبة الواعدة غير قادرة على الوعي بمسؤوليتها والتزامها الذاتي تجاه موهبتها واستعدادها، ولأنه مثلما سبق القول كثيراً ما تساهم الموهبة في إحداث الإهمال لنفسها بنفسها.
فإذا خرجنا من خصوصية ذلك المحيط ومؤثراته الأولية على عوامل استمرارية وتواصل الموهبة الناشئة، وما يحدثه عليها من انعكاسات إلى أبعاد الدائرة الاجتماعية الواسعة، فإن التساؤل المباشر الذي يطرح نفسه بقوة وإلحاح، هو عن دور المجتمع في العناية بهذه المواهب وفتح السبل أمامها.
ذلك أنه من المفترض أصلاً ومن الضروري، إيجاد مجموعة من خطط المشاريع والبرامج المعتمدة والمعدة خصيصاً في ميادين ومجالات النشاط الفكري والأدبي والفني والعلمي، والتي تدخل في نطاقها متطلبات تشجيع هذه المواهب والعناية بها وفتح السبل أمامها، حتى تتمكن من ممارسة تجاربها وتواصل إسهاماتها بلا انقطاع أو توقف، وبالكيفية التي تتاح لها فيها تطوير إمكاناتها وصقل خبراتها، والوصول بها إلى المستوى المطلوب الذي تطمح إليه الجودة والكفاءة والإتقان.
إن التساؤل يظل قائماً عن دور الروابط والهيئات والمؤسسات والأجهزة المتصلة بالشؤون الثقافية والأدبية والفنية، وفيما تعده من خطط وما تطرحه من برامج ومشاريع وما تتداوله من مقترحات وأفكار بشأن العناية بمثل هذه المواهب والدفع بها إلى مواصلة مسيرتها في تقدم وتطور دائمين، وبما يتجاوز حدود المسابقات المتصلة عادة بمناسباتها والتي ينتهي دورها عند إعلان النتيجة وحفلة الجوائز. وينتهي الأمر بالموهبة إلى الانزواء والتلاشي بعيداً في زوايا الشواغل والمشاغل.
والمسألة لها جوانبها وأطرافها المتشعبة والطويلة والتي لا يمكن الإيفاء بها في محاولة أولى، بل تحتاج إلى توسع دراسي مطول وتتابع، وتحتاج بالضرورة من ناحية أخرى إلى المشاركة والمساهمة في المداخلات والمعالجات التي من شأنها أن تغني المسألة بالمناقشة والتنوع في إبداء الرأي وطرح الأفكار والتصورات.
الإذاعة: السنة الثالثة، العدد: 18 – 1991 إفرنجي
بشير الهَاشمي (وهج الكلمَات.. في الأدب وَما يُسطرون)، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، سرت، 1424 ميلادية.