من مجموعة “غناء الصراصير” لأحمد يوسف عقيلة
المختار بن علي-تونس
تأْسِركَ قصص (أحمد يوسف عقيلة).. ويجذبكَ سحرُها.. بلغتها الشفَّافة التي ترقَى إلى مدارج الشِّعر في أحيانٍ كثيرة.. مما يجعلها حُبلَى بمعانٍ عديدة.. تزداد كثافتها بكثافة الدلالات اللفظية.. والفائض التصويري فيها.. فضلاً عن الإيقاع الداخلي الذي يتجاوز اللفظة إلى بنية الجملة.. بل إلى مقاطع متعددة في القصة أيضاً.
كل ذلك يجعل دلالات قصص (أحمد يوسف) تهرب وتخوننا كلما حاولنا القبض عليها أو حصرها.. لتُشِعَّ وتُضيء بدلالاتٍ أخرى.. لذلك فمن أي زاوية نظر منها القارئ إلى قصص (أحمد يوسف) توصَّل إلى دلالةٍ ما.
في قصة (العَجِيْن) استطاع القاص أن يُجدِّد إحساسنا البِكر بالأشياء.. ويبعث فينا الدهشة.. ولعلَّ ما يأسِر في هذه القصة.. هو ذلك الخيط الجامع الذي استطاع به القاص أن يربط بين حركة (عزيزة والجُعَل والعنكبوت) في لحظةٍ واحدة.. قد لا تتسع إلى هذا الكَم السردي.. هي لحظة صناعة العجين بُغية الحفاظ على الوجود.. أو لحظة السعي الجادّ والمُتجدِّد يومياً إلى صُنع الغذاء الذي يمنحنا الحياة.
ولعلَّ ما يزيد الدهشة.. ويُساهم في توسيع دائرتها.. هو توسُّل السارد للغةٍ لم تكتفِ بحمل الدهشة ونقلها.. وإنما هي التي خلقتْها أساساً.. وهنا يكمن مظهر من مظاهر الإبداع القصصي عن (أحمد يوسف).. وهو مظهر يقوم على اشتغاله الجادّ والمُضني على محوري الاختيار والتوزيع في اللغة.. وما يخلقه ذلك من انزياح يُولِّد أدبيَّة القَصّ في إبداعه.
وإذا كان ذلك قد جعل شِعرية قصصه تتأتَّى من قُدرته على تحويل الحدث اللغوي إلى ظاهرة فنية.. فإنه منحه أيضاً قُدرة هائلة على تحويل الحادثة البسيطة في الواقع اليومي إلى قصص فنية.. مُشبَعة بدلالات متنوعة ومُكثَّفة.. تستعصي على التحديد والضبط.. وهذا الثراء الدلالي يجعل القراءةَ مستوياتٍ تابعةً لمستوى القُرّاء.. ومن ثَمَّ لا يمكن أن يصل قارئ النص إلى القبض على حقيقته النهائية.. فلهذه الحقيقة مستويات أيضاً.
ينطلق السرد في قصة (العجين) مُجسِّداً لحظةً من لحظات الصباح الباكر.. وجامعاً بين ثلاث شخصيات أساسية ينبني عليها السرد.. يربط بينها فعل العجين.. ويُوحِّدها الإطار المكاني الذي اختاره السارد.. ووضع جُزئياته دون أن يُغرِق في وصفها.. هادفاً إلى نسج مُبرِّرٍ منطقي.. يجعل شخصيات القصة تجتمع في مكانٍ واحد.. وهو اجتماع له دلالته الثقافية والاجتماعية.
يبدو المكان في القصة غائماً.. فالسارِد لم يَسْعَ إلى الْتقاط جميع تفصيلاته الواقعية.. ولكنَّ ذلك لم يَحُل دون أن يكون القارئ قادراً على ملامسة فضائه من خلال الإشارات المُبْتسَرة والدالّة.. وهو ما جعل القصة تخلق من غموض المكان اتساعاً.. يتجسَّد في التعددية المتأتية أساساً من إمكانية الإحساس بأنه قريب منَّا في كل مكان.
إن فعل العجين لا ينحصر في كونه يُشكِّل الخطاب السردي في القصة.. وإنما يُمكن أيضاً أن نقرأ بعضاً من ملامحه في العجين.. الذي سَبَتَه القاص نفسه من خلال خَلْقه لهذه القصة وصناعتها.. وهو عجين تعاقبت في صُنعه حركات سردية.. تمثَّلت في الالتفات المُتتابع والمُتداخِل لفعل شخصيات القصة.. وساهم في بنائه وتكوين نسيجه توزيع دقيق للمقاطع.. جعل القصة في صورتها الخارجية مُميَّزة.
فقد اتَّبع القاص تقسيماً مُعيناً لمقاطع القصة.. ينغرس في الموروث الثقافي.. إذ جعل القصة تتوزَّع إلى ثمانية مقاطع.. الستة الأولى منها تُمثِّل عملية الخَلْق.. والمقطع السابع يوم الاستراحة.. أمّا المقطع الثامن ـ الذي لا ينفصل كثيراً عن سابقه ـ فقد يُجسِّد خَرقاً لهذا الموروث.. والواضح هنا أنَّ غلَبة مقاطع الخَلْق تتضافر في التأكيد على أنَّ العجين.. أو لحظة الخَلْق هي المقصودة.. ومن ثَمَّ فإن العجين يُمثّل الفعل الذي فَتَّق السرد.. ونسج خيوطه.. وجمعها في وحدةٍ واحدة.. مَثَّلها اختيار الكلمة نفسها عنواناً للقصة.