قراءة في قصص الكاتب الليبي أحمد يوسف عقيلة
فاطمة الزياني-تونس
بدءاً:
الصخرة.. الوادي.. الدغل.. الشجر.. النبع.. البِرْكة.. المنحدر.. الكهف.. البومة.. الكلب.. الْجُعل.. الحمار.. الغراب.. العنكبوت.. الصرصار.. القنفذ.. صيد الليل.. المرأة.. الموقد.. الجمر.. الطين.. الدقيق.. الرحى.. النطع.. الشارع.. المنعطف…
هذا العالم القصصيّ للأديب الليبي أحمد يوسف.. هذا اليوميّ الذي نمرّ به سريعاً فتطويه ذاكرتنا وتحوّله إلى عاديّ لا غرابة فيه ولا معنى.. عند هذا اليوميّ يتوقّف المبدع لينقله لنا.. فيهزنا حَدَّ الدهشة.. ويشدّنا إلى ذلك العالم اليوميّ الذي شردته الذاكرة بعيداً. لعلّها الصدفة جمعتني بأعمال هذا المبدع دفعة واحدة فملأتني حدّ الكتابة… أنقل لكم تجربة الكاتب كما قرأتُها.. وسأكتفي بمجموعتين قصصيتين هما (غناء الصراصير) و(عناكب الزوايا العليا).
1- البناء القصصي:
تراوحت قصص المجموعتين بين الأقصوصة والقصّة الومضة.. وقد بدا مجال القصّة عند الكاتب.. اللّحظة المشحونة.. طرفاها الواقعي والتخييلي ومجالها اليومي.. وقد بدت لي قصصه (عملاً نادراً موجَزاً مكثفاً يصوّر الصرخة المكتومة فيحقق البعد الدراميّ)(1).. فالحيّز الواقعي المسرود مشحون بذات المبدع الذي يبدو لنا للوهلة الأولى يسير خلف الخيط السردي.. بينما هو يقود السرد ويصنع برنامجاً سردياً محكماً يطبق على الشخوص والأزمنة والأمكنة فلا فكاك.. نلهث وراء السارد لنصل لحظة الصدمة كما يسميها غوغول.. أو أفق انتظار القارئ الذي يتورط في القراءة بفعل التشويق.. هذا العنصر الذي كادت تغيّبه فكرة انكسار السرد في الرواية الحديثة.. يعيدنا أحمد يوسف إلى متعة التشويق فلا فكاك من إنهاء القصّة والإغراء بأخرى.. فتجد نفسك مسيّراً ترى بعين السارد الواصف (في السفح غابة… في الغابة شجرة بلّوط.. في البلوطة عش.. في العش طائر… تحت الطائر بيض… في البيض عصافير.. في البلوطة أيضاً ثعبان يتسلّق…) (عصافير – غناء الصراصير – ص19).
أحمد يوسف لا يجرّب أشكالاً جديدة.. فهو لم ينفلت عن دائرة تقنيات السرد القصصي التقليدي.. لكنّه اكتسح دوائر بكراً أهملها السرد العربي.. فأنصتَ للنمل والحمار والمسمار واللّوحة والقنفذ والطوفان والجرح (اشتكت اللّوحة من المسمار.. قال: لو تعلمين ما يقع فوق رأسي لعذرتني). (شكوى ـ غناء الصراصير ـ ص117).
الشخصية القصصيّة:
كائنات حيّة وجوامد أنطقها السارد وحشرها في مشهد قصصي ثريّ نابض بالحياة والمعنى.. من وحي الحركة البكر تشكّل النصّ.. وهذه ميزته.. فالمشهد القصصي في المجموعتين جمع شخوصاً عدّة.. شخوصاً بعث فيها الكاتب من روحه وطوّعها لنعيش نشوة القصّ معه.
الشخصيّة- المرأة:
نسوة كُثُر جمعهن الكاتب في نصّه (ونيسة.. محبوبة.. رابحة.. عزيزة.. زينب.. حوّاء…). منهنّ: الممرضة والعرّافة والأم المكافحة والخادمة والعروس في ثيابها البيضاء.. فالمرأة عاملة صنعتها الحضارة الجديدة تترجرج تحت سماء بعيدة تلتهمها أعين الذكور.. أنثى مشتهاة حين تبدو وحين تختفي.. حين تعرَّى وحين تغطَّى.. فلم يعد الجسد وحده مثيراً للرجل.. بل أصبحت الإثارة مرضاً ينبت في دماغه كما ينبت الطحلب بين مفارق مستنقع.. فينبش صورة الجسد القابعة في دماغه سواء رأى أم لم يرَ (الممرضة الممتلئة… تخرج من بيتها عند الضحى.. متجهة نحو المستوصف الواقع في طرف القرية.. تمرّ من أمام المخبز.. يلتفت الخباز.. يمسح جبهته بطرف كمّه.. يشهق.. يمرّر لسانه على شفتيه.. يهرول ناحية محطّة الكهرباء تاركا خبزه للنار.. ليخبرهم بأن الممرضة تترجرج تحت سماء الله عارية الساقين). (الممرضة ـ عناكب الزوايا العليا ـ ص19).
أمّا مع الخادمة (رابحة) فتنتفي تاء التأنيث.. عند لحظة العمل ومطاردة الصراصير.. فتتوحد الضمائر وتصبح ضميراً واحداً هو الذات المستهدفة تحاول ردّ الدخيل بكلّ أشكاله.. بل إن الصراع بين العجوز والصراصير يرقى إلى مستوى الصراع في زمن الإغريق بين الإنسان والآلهة.. لكن أي آلهة هذه التي يقدسها الهندي ويجنّد الصراصير القذرة لحفظ جلالها السريّ.. فيمنع العجوز من فتح البرّاكة التي يسكنها.. حتى سوّلت لها نفسها فعل ذلك.. فبدا المشهد غريباً ومدهشاً فهي تدخل البراكة.. (شهقت.. ضربت بكفيها على خدّيها.. فقد كانت الجدران والسقف مغطّاة بالصراصير السوداء..
ـ قال نكنس فيها مرتين في اليوم!
كزّت على أسنانها.. التقطت المكنسة.. أخذت تطيح بالصراصير.. وتسحقها تحت حذائها..
الآلهة في خطر..
الآلهة بين المكنسة والحذاء..
الآلهة في حاجة إلى عون أرضيّ!
استمرّت تلك المذبحة إلى الضحى…
توفقت العجوز.. تمسح عرقها.. وتلتقط أنفاسها..
ظهر ظلّ في فتحة الباب.. التفتت.
كان الهنديّ واقفاً.. فاغراً فمه.. ينظر بعينين هلعتين.. سقط على ركبتيه.. أخذ يشدّ شعره الطويل.. فاضت دموعه.. بدأ يرتعش.. يصرخ.. يتلوّى على الأرض.. وهو يحسّ بخطيئة العابد الذي تأخر عن نجدة آلهته في الوقت المناسب.. سرت رجفة في جسد العجوز.. فخرجت مسرعة).. (غناء الصراصير ص 38-39).
أما المرأة – الأنثى.. تلك الفتنة الرائجة في الدنيا.. يدعوها الكاتب إلى ولائم الشهوة فيطفئها.. ويحلّ محلّها الفكرة التي تجعل للمرأة قدراً واحداً هو الجمال والبهجة والرائحة الطيّبة والولاء للطبيعة في براءتها قبل أن يلوّثها الإنسان ويشوّه الفطرة.. يقول (قد تتشابه النساء في الظلمة بالنسبة للعين.. أمّـا بالنسبة للأنف فلا.. فبعض النساء مجرد كيس من القاذورات مملوء بالثقوب.. أما بعضهن فكما تفترش الشيحة.. لا تأتيك منها سوى الرائحة الطيبة.. وهناك امرأة تذوب بين يديك.. وامرأة كشاهد القبر.. ناتئة.. لا تتزحزح.. ولا تلين.. تشعرك بجلال الموت.. تصوّر.. جلال الموت وأنت على الفراش!).. (سارق التبن ـ عناكب الزوايا العليا ص54).
إنها محنة الأنثى في واقع رجوليّ ذوت لديه الفكرة حتى انقرضت.. وحلّ محلّها الملموس والمحسوس حتى تضخّم.. فالتهم الجمال وانبرى شاهداً على القبح.. هي محنة الذكر أيضاً.. يبدو فقيراً أمام المعاني.. وبارداً أمام مدارات الحرارة والاشتعال.. وبائساً أمام الزهد العاكف في برزخ أسمى يكنْز كنوزه في السماء غير عابئ بكنوز الأرض التي يأكلها السوس ويبليها الزمن.. هي شخوص الذكورة (يتحلقون حول الموائد العامرة.. يأكلون قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم.. يخلّلون أسنانهم بأعواد النعناع.. ويتجاذبون أطراف الحديث في قضايا الساعة).. (سارق التبن ـ عناكب الزوايا العليا – ص53).
-الشخصية الذكورية:
نوّع الكاتب في خلق شخوص الذكورة: فهم الراعي والملك والوزير والإمام والصيّاد.. فالإمام (ينتظر حتى خروج آخر المصلين بعد العشاء.. فيقفل المسجد.. نسي وهو يصلي بهم العشاء وسلّم من ركعتين.. بل في الجمعة الماضية أمر بإقامة الصلاة بعد الخطبة الأولى).. (الجبة – عناكب الزوايا العليا – ص83).
هي الشخصية الكلاسيكية للإمام المغموس في الواقع.. والمتظاهر بالولاء للقِيَم الدينية.. يرى في الإمامة ميراثاً عائليًّا.. شرّعته العادة ودعمته الجبّة والمسبحة وكثرة الاستغفار.. (يتمشّى في الغابة المجاورة.. يطقطق السّبحة بحكم العادة..
ـ رحم الله أبي.. كان يصّر دائماً على أن أصبح إماماً.. “إذا فاتتنا المشيخة… فلا يجب أن تفوتنا الإمامة”.. هكذا كان يردِّد).. (الجبة – عناكب الزوايا العليا ـ ص83).
ثُمَّ ينْزاح السارد بحركة لا تخلّ بخطيّة السرد.. ولكنها تتفرّد في الرؤية فيستنطق الذئب وينْزع عنه جبّة الخطيئة التي حمّلها له أبناء يعقوب في الزمن الغابر.. ويلبسه جبّة الغواية التي مدّت يديها في كلّ مكان.. (يعوي ذئب.. فتجاوبه باقي الذئاب..
ـ سئمت الحديث عن المحرّمات.. والمكروهات.. وما يجوز وما لا يجوز.. أحتاج هذه الليلة إثما لأتذوّق الإنسان).. (الجبة – عناكب الزوايا العليا ـ ص83).
يربك السارد العاديّ دون الخروج عن المألوف.. فنطق الحيوان لا يأخذ القص إلى مدار الحكاية المثلية كما ساقها ابن المقفع.. ولا يشق بها عصا الطاعة في وجه بؤرة الحكي أو المعنى.. إنه يخلق شخوصه من رائحة محيطه.. ويملؤها بوهج نشوته الضاجّة بالحسّ.. (الحمار مُطْرِق.. يهدّل أذنيه.. يمدّ شفته السفلى..
ـ ما بك ؟ تبدو مهموماً.
ـ وكيف لا أشعر بالهمّ.. وذريتي كلّها حمير؟!). (الحمار– غناء الصراصير– ص120)
ينقضّ السارد على أصنام المجتمع ممثلة في مقدساته التي سوّاها من روث البهائم.. ووضعها في قصر ممرّد بالقوارير.. وحرسها بالخطب والشعارات.. يقرع جدران الكلام المصادر.. ويُرافع من أجل الجمال.. الجمال فحسب! (فككت لك نعجة من بين أنياب الذئب..
ـ عمل تُحْمَد عليه.. أين هي؟
ـ أكلتها.
ـ أنت الذئب الأكبر).. (الذئب الأكبر – غناء الصراصير ـ ص119).
يتجوّل السارد وسط حديقة مليئة بكلّ أصناف الأشجار والأشياء والبشر.. وخلف كلّ كائن سَوءة يعرّيها ليحتجّ على الظلم والقذارة والخديعة.
مجرّدٌ صوته من الشعارات والكلمات المنتفخة والوعظ المشبوه.. فلا ينصّب نفسه إماماً ولا سياسيًّا.. هو كائن حافظ على نظافته الفطرية.. أنجبه الألم من جرح الفجيعة فاختار أن يلد الفرح.
السارد – الشخصيّة:
لا هويّة للسّارد بين شخوصه سوى المبدع فيه.. ذاك الذي تألّم نيابة عن الكائنات.. فأفضى بصورة جماليّة فنية ممتعة.. تعرّي الجروح للشمس كي تطهّرها.. (ارتجّ الغدير.. ناثراً الرذاذ البارد.. ارتجف.. فاض.. تقلّع.. أحدث لقلقة وهو يصعد إلى السماء.. عاد غيمةً بيضاء تسبح في الأفق الرحب.. مخلّفاً وراءه أوحالاً لزجة.. امتزجت بسائل كريه الرائحة).. (الغدير – غناء الصراصير ـ ص106).
أمّا الإنسان فيه فهو ذاك الذي يحسّ بكلّ شيء.. فله آذان يسمع بها النملة والتراب والصخور والمسامير والأحذية والبرك والصمت! وله عين ترى ما وراء الكُتَل.. وله قلب ينبض أضعاف نبض القلوب العادية.. لأنّه يحسّ بدمه وشرايينه ودقات قلبه وأطرافه.. إنّه ينبض بشغف.. لأن المبدع ضمير البشر.. لأنه يحسّ نيابة عن الكائنات والأشياء والفوضى.
الشخصية – الحيوان:
الْجُعل والقنفذ وصيد الليل والسحالي والغراب والصرصار والكلب والبوم والنمل.. أنصت لها الكاتب بأذن سليمان.. ونقل لنا دفائن ما تخفي.. وأيقظ الرمز فيها.. فتحوّل الحوار بين بومتين في إحدى الخرائب إلى مغسلة لديمقراطية الزمن الراهن.. الذي تحولت فيها الدول إلى إقطاعيّات يملكها الحاكم بمن عليها.. فصادر كلّ مظاهر الجمال فيها وغدت مؤهلة ـ رسميًّا ـ لتكون خرائب ينعب فيها الجوعَى والمقهورون والمعذبون بفضل ظلم الحاكم وغبائه.. (أعذروني جلالتكم.. فأنا أترجم حرفيًّا.. لقد ضحكت البومة ـ أعني أُمّ العريس ـ وقالت هذا شرط سهل.. إذا دام عهد جلالة الملك ـ أطال الله بقاءه ـ فسأمنحك.. ليس قرية واحدة فقط.. بل عشرات القرى الخربة! انظروا جلالتكم.. البوم ليس جحوداً كالبشر.. فهو يدعو لكم بطول البقاء)..(المهرـغناء الصراصيرـ ص63).
بألَم فائض نقل لنا السارد حوار الحاكم ووزيره.. فاستغل الحكاية الشعبية التي كانت تمعن في إنطاق الحيوان وتحميله ما تريد قوله.. كأن الكشف فعل لم يعد يليق بالإنسان.. كائنات أنطقها السارد ليعلن الفضيحة.. فقط ليعلنها!
السارد نبت من واقع مشحون بكل أشكال الهزائم والخبائث واللعنات.. لم يلجأ للغرائبيّ والعجائبيّ لأنه وجد في الواقع ما يفوق الخيال غرابة.
إنّ الأدب الحقيقيّ أن تصف غرفة مألوفة لديك فتجعلها مألوفة لدى أي قارئ.. حتى ليظن أنه قادر على كتابة ما كتبت.. فالكاتب سبر تفاصيل الحياة اليومية في قريته.. فأدهشنا بسهولة ما روى وامتناع ما قصد.
الكلمات والأشياء في النص:
الجدار والباب والعتبة والعصا والجراب والنطع والنعل والخرابة والحجارة والبرّاكة والسّور والشوال والتنور والغربال والمسمار.. نطقت جميعاً بما أراد لها الكاتب أن تقول.. (اشتكت اللوحة من المسمار.. قال:لو تعلمين ما يقع فوق رأسي لعذرتني).. (شكوى – غناء الصراصيرـ ص117).
المعنى في النصّ:
المبدع هو السياسي الوحيد الذي لا يعرفه الآخرون.. ولكنّه السياسيّ الوحيد الذي يدافع عن القِيَم النبيلة.. أحمد يوسف في نصّه القصصي ثائر هادئ.. يحمله لنا النصّ موتوراً.. مليئاً بالاحتجاج على الظلم والقهر والموت غير المعلن والكذب والخديعة.. وضع أمامنا سلسلة من المشاهد اليوميّة المألوفة وشحنها بآرائه التي تنحاز للإنسان.. حتى لا يُهْدَر معنى الإنسان فيه.. إنه يقول بنصّه الأدبي: كفى قبحاً! (بدر) هو الصدق.. تحاصر شبحه قوى الظلم مجسَّدة في الشرطة.. تلحق به إلى المقبرة.. تطارد الشبح في الظلام.. لأن أنبياء الحرية الذين يحاصرهم الاستبداد لا يموتون.. وحتى الشرطة تعرف أنهم لا يموتون.. تظلّ كلماتهم أشباحاً تطارد القتلة وتخرّب أمنهم.. (يقترب الخيال.. يقعقع السلاح.. يتوقّف.. يأتي صوته متردّدا:
ـ أنا.. أنا (بدر).. صدّقوني.. دفنتموني هذا المساء.. ألا تذكرون؟ دفنتموني حيًّا.. لَم أرَ ولم أسمع شيئاً في القبر.. حتى الله لم يستقبلني.. لا منكر ولا نكير.. لسبب بسيط.. فالوقت لم يحن بعد.. لقد منحني الله فرصة أخرى.. لعلّني أنجز سطراً أو سطرين على رخامة القبر!).. (الشبح – عناكب الزوايا العليا ـ ص73).
بدر هو الشاهد والشهيد.. يبعثه الكاتب من ركام الزوايا المجهولة.. التي حوّلتها السلطات المتعددة إلى قمامات رسميّة.
معاني متناقضة حشرها السارد في ذات شخص هو (حمد المنجل).. الذي يمثل نموذج الإنسان بلا مروءة.. قادر على (أكل الداعي والمدّعي) و(يدرك أنّ البقرة السوداء تدرّ حليباً أبيض).. هو الذي (تحوّل بأعجوبة من “ديك أجرب” إلى “ديك يبيض ذهباً”.. وهو الذي ـ من هول ما تمتع به من قدرات ـ (يمشي باطمئنان فوق الزّبَد.. دون أن تبتلّ قدماه).. (المنجل – غناء الصراصير ـ ص99).
صورة الخبائث نجدها (مناجل) تقامر بالأخلاق وتهدر قيمة الإنسان في الوجود.
ثُمَّ يستغل الكاتب فرصة الحكي ليذكِّرنا بألَم يعادل ما نعانيه بسببه.. هو ثروة.. هو سلاح ذو حدين استخدم أهل الصحراء حدّه القاتل وتاهوا عن منافعه..
(ـ لقد كثر الكلام هذه الأيام عن شيء جديد ظهر في صحرائنا.
ـ ماذا يمكن أن يظهر في صحرائنا غير الرمل والسراب؟
ـ دعني أتذكّر الكلمة.. نعم.. يقولون إن ذلك الشيء اسمه البترول.
ـ وما هو البترول؟ اسمه يشبه أسماء المردة والعفاريت.
ـ لا عفريت ولا غول.. يقولون بأنه زيت أسود.
ـ زيت أسود؟! يا ساتر.. وما حاجتنا إلى الزيت الأسود.؟
ـ يقولون أيضاً بأن الأجانب هم الذين عثروا على هذا الزيت.
ـ ملاعين هؤلاء الأجانب.. يجدون دائماً أشياء لا نجدها).. (الزيت الأسود – غناء الصراصير ـ ص88).
احتفى الكاتب بالأشياء الصغيرة.. وحشرها في مسار سردي واحد.. يوضّح الرؤيا ويزيح الغربال عن عين الشمس.. فتتلألأ الحقيقة لنا.. (مات حمار الملك.. أعلن الحداد في أرجاء المملكة (…) مات الملك.. لم يحضر أحد).. (حكاية الحكايات – غناء الصراصيرـ ص115).. هو النفاق في أدقّ صوره.. لا يحتمل وسائل أكثر لإيضاحه.. جعل منه السارد حكاية الحكايات.. المعادل لبيت القصيد.
لعلّها الخاتمة!
أحمد يوسف عقيلة لم يتعامل مع الكائنات والأشياء بقفازات.. وإنما جسّ بيده مواقع النبض.. واقترب فرأى ما لم يره العابرون على مراكبهم بأصنافها.. لقد تشرّب بتفاصيل اليومي حتى امتلأ.. ففاض إبداعاً آسراً.
أحمد يوسف يحفر.. لا ليدمي الأشياء.. بل ليدمي أصابعه.. فتنضح خصوبة إبداعية.. تؤمن بالإنسان وتنتصر له.. إنه يحوّل أكل الخبز إلى فعل فني.. فيؤسس أدباً حقيقيًّا.. فغناء الصراصير وبيوت العناكب بوابتان للصوت وللبصر.. فالأولى نقلت لنا أصواتاً ما كنّا لنسمعها لولا سارد أحمد يوسف.. والثانية نسجت القصّ وفق شبكة عنكبوتية تهتزّ بأمر الكاتب.. وتهدأ بأمره.. وتهزنا دون أمر.
تجربة أحمد يوسف عقيلة أصيلة وثرية ومتينة.. تضيف للمشهد الثقافي في ليبيا وفي العالم.. ولعلّ نقل مجموعته (الخيول البيض) إلى اللغة الفرنسية دليل على انفلات التجربة القصصية عنده من حدود المحليّ والقومي وانضمامها للإنسانيّ.
صفاقس – شتاء 2005
___________________________________
فاطمة الزيّاني: قاصة وروائية تونسية.. حاصلة على الأستاذية في اللغة العربية
.. من مجموعاتها القصصية: حدث دون موعد.. الوطن لا يطير.. وعدة روايات.. ترجم بعضها إلى الفرنسية.. نالت المركز الأول في مسابقة دار سعاد الصباح لسنة2000 حصلت على جائزة الامتياز لسنة2000 لمنظّمة “نساء البحر الأبيض المتوسط”.