محمد الزروق
في إيقاع متسارع كتب صديقي عبد الرسول رحمه الله روايته.. كان يريد أن يحقق رقما قياسيا عالميا: أن ينجز خمس روايات في أقل من شهرين، وكان له ذلك. لكن السؤال هو: هل كان محقا؟!
كنت وزدت يقينا بعد إكمالي للرواية في سويعات متقطعة أنه من الخطأ التسرع والتهور في كتابة الرواية، خاصة تلك ذات الأبعاد التاريخية والتي تؤرشف لأحداث حدثت على عقود. تغازل هذه الرواية المجتمع البنغازي ذا النسيج الاجتماعي المتماسك، مثلما تنصف أبناء البادية القريبة على تخوم بنغازي، وكيف أنهم نبذوا عادات أدركوا بانفتاحهم وتعلمهم أنها جاهلية أخرى ولم يتخلوا عن خصالهم النبيلة التي توارثوها في مجتمعات الخيام.
ربما كان العريبي هو أول كاتب ليبي يتناول تحول البدوي من حياة الترحال والخيام والحلاليق إلى الاستقرار والبيع والشراء وخاصة تجارة القمح والشعير والصوف والأغنام، وكيف أصبح آمرا ناهيا في سوقها البنغازية. لهذا الأمر كنت أتمنى أن يتريث أكثر وأن يتناول أبواب الرواية العشرين بالتكبير (إثراء كل فصل بالتفاصيل المهمة المناسبة)، والوصف وتحليل الشخوص وتوظيف الحوار والعرض بدلا من الإخبار. إن العريبي رحمه الله رحل تاركا لنا درسا دون قصد منه: الرواية هي الشيء الوحيد الذي علينا ألا نخشى إكمالها قبل أن نموت. فلتذهب متعة الوصول إلى النهاية أمام لذة السرد والتشويق ونصب الفخاخ طوال رحلة الرواية وحل حبكاتها وألغازها.
بالتأكيد، طرقت الرواية جديدا من ناحية الموضوع. جسدت أبعادا إنسانية عبر حكاية المولودة الرضيعة فائزة التي تركتها أمها قرب بئر في ليلة شتوية باردة بعدما أنهكها الترحال والجوع والرعب من القذائف والصواريخ التي كانت تسقط خبط عشواء، علها تحظى بعناية لدى أهل هذا النجع الذي ينعم بنعمة القرب من بنغازي المستريحة نسبيا رغم عناء الحرب العالمية. يستخدم العريبي كعادته حكما دأب على نسجها بقدرته الفائقة على (قول الأجواد) بلغة فصيحة.
المفارقة في الرواية أن البنت فائزة تكبر بين من تظنهم إخوتها ولدى بلوغها الرابعة عشر يقرر أبواها المربيان تزويجها من أحد أبنائهما الذين عاشت ظانة أنهم أشقاؤها. هنا تحدث نقلة أخرى وصدمة وعقدة تحتاج إلى حل، فالزوجان الأخوان رفضا هذا الأمر السلطوي (يتمتع الأب والأم على حد سواء بسلطة الأمر والنهي في المجتمعات البدوية). غير أنهما امتثلا في نهاية المطاف. نام الشقيقان ليلة زفافهما يداريان سوءتيهما، وبعدها نام الصديقان وهما يحتضنان بعضهما دون مساس، غير أن العجوز المربية صبت عليهما جام غضبها إن هما أصرا ألا يكون لها من خبر الفرح إلا الخسارة. أنجزا المهمة بنجاح كأنها واجب مدرسي، وهي حقيقة يعرفها كل من تزوج بامرأة اختارها له ذووه. النقلة الأكثر دراماتيكية هي رمي الزوج اليمين على زوجته ثلاثا، ليهرب إلى المدينة دون أن يعلم أنه قد تسبب في حملها. هروبه إلى المدينة يدخل في سياق التأريخ والحصر للأسباب التي دفعت بأبناء البادية للالتجاء إلى المدينة، غير العمل والتجارة والثأر، فرفض العادات البدوية القاسية أحد هذه الأسباب.
يكبر منصور ابن فائزة بين جده وجدته المربية، أما فائزة فتعود إلى والديها البيولوجيين الذين يزوجانها من ابن عم لها فاقت غيرته الوصف، ووصل به الأمر إلى الفرار بها ليحول بينها وبين ابنها منصور.
يلجأ العريبي في كثير من الأحداث إلى المصادفة البحتة، وهذا عيب تأتي به كل رواية مستعجلة، وجربته أن شخصيا في أولى رواياتي (ماء بين الأصابع)، فالمصادفة تقود منصور من جديد إلى فائزة أمه لتموت بين أحضانه في مستشفى بردوشمي.
طالع: روائي ليبي يحطم الرقم القياسي العالمي بكتابة 5 روايات دفعة واحدة
الخاتمة جاءت جميلة وخدمت ثيم الرواية، فمنصور الذي قرر الزواج من فتاة اختارها قلبه، يجد أن أقرانه في النجع ورفاقه في السوق يتشاجران حد إسالة الدم من أجل الاقتران بفتاة اختارها كلاهما. تحجج الضارب بأنها ابنة عمه وأنه أولى بها، أما المضروب فأكد أنها تريده مثلما يريدها. يحل الإشكال في مركز الشرطة ويقرر الشابان أن يمتثلا لأمر العقال ويستشيرون الفتاة وأهلها. إن هذا الأمر يؤكد أن عبد الرسول رغم انتصاره لكثير من عادات أهله النبيلة يرفض العادات السيئة ويتمنى زوالها.
فهل أحس رحمه الله بدنو أجله وقرر أن ينجز هذه الرواية مع أربع أخريات في أسرع وقت ممكن، وأنها اختمرت في ذهنه لسنوات ولم يستطع كتابتها إلا في ظروف الحرب والتقاعد؟ أم أنها جاءت كلها وليدة الظروف وولدت في وقتها؟ هذه الأسئلة توفي من يستطيع الإجابة عنها.. رحمه الله وغفر له ووسع عليه في قبره مد بصره..