النقد دراسات

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (10) .. جدلية التعاقب والتراتب في أزمنة القصيدة

بقلم: فضة الشارف

1- مدخل:

يُعد الزمن عنصراً مهماً تتشكل من خلاله القصيدة لتدل على حدث معين، فالشعر هو الخلق الفني للواقع، وهو تفاعل الشعور الإيجابي مع مواطن الجمال، وإذا تفاعل مع الحقائق العملية فإنه يتعامل معها من حيث الأبعاد الجمالية لا من حيث البرهنة عليها، فتكون حينئذ التجربة الشعرية تجربة ذاتية لا تقتصر على الحدود المعبر عنها بل هي إنسانية بطبيعتها: إذ إن جهد الشاعر منصرف إلى التعبير عن مشاعره بعد أن يتمثلها حيث يجعل من ذاته موضوعاً ومن موضوعه ذاتاً([1]). وبين هاته وتلك تكون تجربته الشعرية تجربة نفسية ذات أبعاد إنسانية يتجلى فيها الزمن الإنساني سواء أكان هذا الزمن زمناً فيزيائياً أم زمناً وجودياً، فبين هذا وذاك تنولد القصيدة محملة بالتنهدات النفسية وبالأحاسيس الكونية الآتية من أعماق الذات الكاتبة.

بالنظر في نصوص عبدالمنعم المحجوب نلحظ أنها تنبني على الزمن الذي يعتبر ((المادة المعنوية المجردة التي يتشكل منها إطار كل حياة وحيز كل فعل وكل حركة))([2]) يسندها الشاعر إلى نفسه فهي تمثل حركة الخارج (الآخر) الذي يسهم في بناء النص والوشائج السرّية والنفسية بتفاعلاتها الناجزة بين الشاعر والآخر، و((ما يحمله من رموز ودلالات، وبقدر ما تكتسي من حالات وجدانية عاطفية، وبقدر ما تجلبه من نفع أو تدفعه من ضرر))([3]) تتجسد منه حالة السكون سكون الشاعر الذي يخيم على نصه الغموض اللامتناهي الباني لقلق المكان الذي يظل منبثقاً من لحظة الكتابة الشعرية المنبعثة من زمن تعيش فيه الذات الكاتبة لذة تأمل استدعاء أطياف زمنية قادمة من وراء عناصره الفيزيائية والوجودية، فنرى أن العلاقة بينهما وثيقة، بحيث لا يتصور حضور إحداها من دون الأخرى، وهذا ما ستتيح خطوات هذا الفصل الوقوف عليه.

2-الزمن الفيزيائي:

يرتبط الإنسان ارتباطاً بيولوجياً بالزمن بقدر ارتباطه بكل الماديات التي ترافق صيرورته منذ تخلقه نطفة حتى يزول، وبذلك يرتبط الإنسان بالزمن ارتباط تحول لعل أبرز مظاهره تتمثل في الفكر الإنساني، فإذا كان الزمن متحولاً، فإن الفكر متحول هو الآخر، و هذا ناتج عن وعي إنساني حادٍ بالزمن، فالأشياء تنوجد دائماً في ثنايا استراتيجيات هذه التحولات.

لعل أبرز مظهر للتحولات الفعالة في حياة الإنسان وفكره وتصوراته ونتاجاته هو الزمن الفيزيائي المتمظهر في أقرب تقدير في حركة تعاقب الليل والنهار، فإذا كان النهار ينتحر على عتبة الليل تاركاً آثاره على شفق الغروب، فإن هذا من باب الجميل حيث ولد النهار بمخاض الليل الذي مات مذبوحاً على خيوط الفجر ليولد النهار، فبين الشفقين تنوجد الكلمات بحرارتها الناجزة لفعل قصيدة تتسامى فيها معالم الزمن الفيزيائي، إن لم يكن عبر الفصول فسيكون بعناق الشمس والقمر ضوء ونور يأتلقان على تخوم التحولات الفيزيائية التي لا تبرح فضاء القصيدة التي يكتبها الشاعر بدمه الممهور على بياض الورق بدلاً من حمرة السماء.

1.2- جدلية التعاقب:

يكثف الشاعر إحساسه بتفنن كبير في الزمن الفيزيائي وسرعة دوران عجلته الذي من الممكن أن يخلق حواراً داخلياً وإسهاماً للمتلقي في إنتاج فاعلية البناء الزمني للنص. فيحاول الشاعر بذلك أن ينسج خيوط العتمة لتبوح بما يجول في نفسه، وهذا ما نقرؤه في قول المحجوب:

البارحة

دارت الصحراءُ في رأْسِ الجملْ

دارت

لقد دارتْ

فأَرغى

وراحَ يمزِّقُ حجابَ الليلِ

حتى الصَّباح.([4])

يستحضر الشاعر لذة التأمل في زمن كان ظاهرة طبيعية من ظواهر الوجود، فحركة النص ناتجة عن ليل ونهار واستمرارهما، فشكل الزمن متسم بالتعاقب والدوام ليل فنهار ونهار فليل، فهو لم ينزلق على الواقع بل أن الرمز (الجمل) ينصهر في صلب الواقع في وعاء زمني هو الليل والنهار، وهو مأخوذ من دائرة الشاعر. فالزمن يعبر عن ميقات فهو فيزيائي استحضر من خلاله عالم الطبيعة، منوجد في بنياته التعبيرية التي تحمل الألفة والامتزاج مع (الآخر) في مساحة الحاضر. الذي يتشكل عبر موسيقى تكرارية استهلالية تتجه مباشرة إلى محاصرة الذات التي لا تكتفي بأن تعيش أحزانها داخلياً، بل تدفع بها إلى عالمها، ذلك أن (التمزيق في حجاب الليل) كان تجربتها الأثيرة، حتى إن (الجمل) قد أصبح مفردة تشكل المنافرة لطبيعته الفيزيائية، من حيث يأتي دورانها السريع أو البطيء، فنلحظ تفريغ الزمن من ظواهر الائتناس الدافئ الملازم لمساحة الحاضر والماضي الذي استدعى الحقيقة الأزلية (الصباح) المشرق؛ ليمنحه وجوداً انتشارياً منفلتاً من خلال توحد الليل بالنهار (الصباح) حيث نقرأ هذه الحركة في قوله:

يطوفُ سرابُ جنودٍ يشربون أوراقَ السّدْر

يخيّمون مع الليلِ

الليلُ الأثيرُ لدى التائهين

نُزهتُهُم التي بلا كلمات

في كلّ فجرٍ

إذ تنقبضُُ عروق الشّبّ

يُسمعُ عزيفُهُمْ

ولا يُعثرُ سوى على خوذاتهم.([5])

يشي النص في هذا البناء الشعري (يخيمون مع الليل / الليلُ الأثير في كل فجر) بتجسد علاقة زمانية مكانية بين الليل والفجر اللذين يشيران بشكل مباشر إلى حركات الصراع في الواقع، فالحدث الشعري يسري في مسرح لا ينزلق معه عن الواقع؛ بل يصهره في صلبه، فالليل والفجر في طريقتهما الإسنادية في هذا النص يبدوان معبرين عن مواقيت، لذا كان الزمن من هنا ميقاتياً فيزيائياً أيضاً والفجر هو ((الخط الدقيق الغامض الفاصل بين الليل والنهار، ولا هو من الليل ولا هو من النهار، وإنما هو أول البدء بعد الظلام))([6]). فعلاقة الليل بالفجر علاقة تحولية تجسد التقاء الليل بالنهار الذي يأتي بعد الفجر، هذه الحركة الزمانية خارجة عن سلطة المكان، فهي تخلق وجودها الذي يتشكل مع انتهاء حركتها، فنقرأ:

يكونُ قمرٌ

بهالةِ زاجٍ يضيءُ

يظنُّ التقتِ الأسبابْ

يتبعُ سبباً

حتى إذا بلغ مطلعَ الشمسِ

عاد إلى نفسهِ

إليَّ،

إنّ الشمسَ حجاب.([7])

إن استدعاء القمر هنا ومطلع الشمس الذي هو زمن فيه إيحاء قرآني وتناص مع قوله ((حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع في عين حمئة))([8]) يوحي أيضاً بالواقع الذي يخلع شفافية الحلم، فالزمن هنا (عاد إلى نفسه) منبثقاً عن نبوءة ذات منشأ قرآني، متخذاً مطلع الشمس زمناً له، لكنه زمن مألوف، يصهر الواقع في صلبه الذي ((أصبح فاصلاً من جملة الفواصل المنظمة لوتيرة الزمن الكوني))([9]) الذي يعيش الإنسان تفاصيل تناقضاته التي تسهم في بناء حياته، بينما يسهم هو في بناء صيرورتها التي يظل الليل والنهار وما فيهما دليلاً على صعوبة هذه الحياة.

2.2- جدلية التراتب:

يظل الزمن حاضراً في بنية النص الإبداعي، ولعل وعي المبدع المعاصر بالزمن يعد من أهم العناصر التي تسهم في بناء النص وإنتاج دلالته، كونه جزءاً رئيساً وقوة فاعلة من بين العناصر التي يوظفها الشاعر في كتابة قصيدته، نظراً لتعقيدات الحياة الآنية، وتفاعل تمفصلاتها التي تنغلّ عميقاً في وجدان الشاعر / الإنسان الذي يرقب ذاته والآخر؛ فيتجسدان في عبارات شعرية بها تنمو القصيدة وتنوجد، هكذا ينولد الزمن بتراتبية يمكن قراءتها في النص الآتي:

البارحة،

روى ابنُ عربي،

قدتُ النجومَ إلى مهجعي

أَوقدتني النجومُ

وكان باهٌ عظيمٌ

في الليلةِ القادمة

أعطى الحروفُ

ويَشْخَصُ الباءُ لي.([10])

تقودنا معاينة الزمن في هذا النص إلى معانقة جدلية التراتب التي بها يتشكل النص زمانياً، فنأنس في الآن ذاته إلى فاعلية هذا الزمن في إنجاز سمة الإبداع في هذا النص، حيث يقدم الشاعر خبراً مستوحى من حلم يعانق فيه الشاعرَ الشاعرُ، وهو يروي تفاصيل رؤيا مركبة نسجت أطياف حلم الشاعر الأول الذي هو ابن عربي، والذي يقدم رؤياه وفق تصوراته الصوفية التي ظل وفياً لها، محاولاً تجسيد نظرية الاتحاد التي تجمعه هذه المرة مع النجوم المنقادة لإرادته، لكنها سرعان ما تتحول إلى فاعل بعد أن كانت بيده مفعولاً، فإذا كان بيد ابن عربي مقود النجوم في البدء، فها هي الآن توقد في داخله ذروة الرجولة التي بها يكون فاعلاً، ربما ليس على الصعيد الجنسي كما توحي بذلك كلمة (باه)، وإنما على الصعيد الشعري؛ لأنه في الليلة القادمة سيعطى الحروف التي سينجز بها (كتاب الباء)، فيُنتقل هنا من حالة المفعول (المعْطَى) حيث أُعطي الحروف، إلى حالة الفاعل، إذ أنجز بهذه الحروف كتابه، وبذلك يضعنا الشاعر أمام تراتبية أفعال تشكل جدلية زمن نافذ في أعماق النص، حيث يقود الليل هذه المهمة عبر تراتبية فاعلة أنجزت في ليلتين متتابعتين، لا يمكن إلا أن يكون فيهما الزمن متجسداً عبر جدلية تراتبية تسري في ليل القصيدة الذي تضيؤه نجوم الإبداع، وما البياض الذي تركه الشاعر وسط نصه إلا دليلُ على زمن الانتقال من فعل إلى آخر أو من حالة إلى أخرى، وكأنه النهار الذي يفصل بين ليلتين، وما هو بذلك بل هو زمن لالتقاط الأنفاس للتحول من حالة المفعول إلى حالة الفاعل حيث ينولد النص الشعري.

بين زمن ابن عربي وزمن عبدالمنعم المحجوب شقوق زمنية ترتقها كلمات الإبداع، وكأن الشاعرين يسيران في اتجاه واحد، وهما يخطان وجهة السفر خارطةً لكتابة قصيدة يظل الزمن فيها متواصلاً متصلاً يفعّل إنجازه عبر طقوس القراءة التي نعيش زمنها الآن.

لا يستمد الزمن قيمته في هذا النص من كونه مدى أفقياً تسير الأحداث فيه وفق تصورات اعتادها الإنسان في أفعاله اليومية، وإنما هو فعل يأخذ خطاً رأسياً يتجلى فيه إنجاز الأفعال في زمن يشكل جدلية تراتبية، ينتقل فيه الشاعر من حالٍ إلى حال؛ لينتج عن كل هذا فعل إبداعي يسمى القصيدة التي تم بناؤها بفاعلية عناصر الإبداع، والتي تظل عتبة أولى منذورة لقراءات تفك رموزها المغلقة.

______________________________________________

[1]– انظر: محمد غنيمي هلال. النقد الأدبي الحديث، ص-ص: 383. 394.

[2]– عبدالصمد زايد. مفهوم الزمن ودلالته، ص: 7.

[3]– أحمد السطاتي. مفهوم الزمن في الفكر العربي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، ص: 19.

[4]– عبدالمنعم المحجوب. كتاب الوهم، ص: 19.

[5]– عبدالمنعم المحجوب. عزيف، ص: 5.

[6]– عبدالصمد زايد. مفهوم الزمن ودلالته، ص: 136.

[7]– عبدالمنعم المحجوب. كتاب الوهم، ص: 10.

[8]– سورة الكهف. الآية: 5.

[9]– عبدالصمد زايد. مفهوم الزمن ودلالته، ص: 129.

[10]– عبدالمنعم المحجوب. كتاب الوهم، ص: 11.

 

مقالات ذات علاقة

قراءة في الرواية الليبية.. من كتاب أكسفورد «تقاليد الرواية العربية» (4/7)

المشرف العام

رأي وانطبـاع حول المجموعة القصصية (آخــر التيـــه)*

صلاح عجينة

(أثوابُ الحُزن) للشاعرة هدى السراري

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق