أختتاما لنشاطها المبرمج لسنة 2017 أشرفت الجمعية الليبية للآداب والفنون مساء الثلاثاء الماضي بدار حسن الفقيه حسن بطرابلس على محاضرة فكرية ألقاها الدكتور نجيب الحصادي .
المحاضرة التي حملت عنوان ” مقاربة لمفهوم الهوية الوطنية ” تحدث فيها الباحث والفيلسوف عن مفهوم الهوية من وجهة نظر فلسفية خالصة.
البداية كالعادة كانت مع كلمة تقديمية ترحيبية وتوطئة لموضوع المحاضرة تكفل بإلقاءها الأستاذ عضو الجمعية رضا بن موسى تعرض فيها لأهم محطات الأستاذ المُحاضر العلمية والأكاديمية والأدبية ونوهَ ببعض اسهاماته في مجال الفلسفة تأليفاً وترجمة وتدريساً على مدى سنوات طويلة في جامعات ليبيا والإمارات العربية المتحدة وأشاد بدوره التنويري في المجتمع مستعينا بنتف من شهادات كان قد وضعها كل من الشاعر سالم العوكلي والكاتب أحمد الفيتوري والراحل محمد صالح الفقيه في حق الباحث , من حيث كونه فيلسوفا وإنسانا , ومن حيث اتباعه لمنهجية علمية في بحوثه ودراساته وتوخيه للدقة وحرصه على الصياغة اللغوية الأدبية كحرصه على الدقة العلمية .
” الهوية بصمة الروح وقبس من سناء , وفاقد هويته أشبه بجرم أتزاح عن مساره ” بهذه الكلمات التي فيها من الشعر الشيء الكثير افتتح الباحث محاضرته القيمة التي طاف بنا من خلالها في براحات الفلسفة والفكر
كيف يسهم الوعي في تشكيل الهوية ؟ وكيف تسهم الهوية في تشكيل الوعي ؟ وغيرها الكثير من الأسئلة حول هذا الموضوع الجوهري طرحها الباحث الذي بيًّنَ بأن محاضرته تطمح للإجابة على النزر اليسير من هذه الأسئلة .
ومع أن الموضوع مطروح على الدوام للنقاش والأخذ والرد على مواقع التواصل وفي وسائل الإعلام , ومع الأعتقاد بأنه مسألة سهلة يمكن التعاطي معها ببساطة إلا أن تناولها بهذا العمق والتوسع من قِبل الدكتور نجيب الحصادي نسفَ اعتقادنا وأعادنا إلى نقطة البدء فيما يخصها , فالمسألة ليست كما نعتقد ونتصور ونرتاح إلى تهيؤاتنا , المسألة من الأهمية والخطورة بمكان ويجب النظر إليها بعمق , إذ ما انفك الباحث يؤكد على أنه يجب استشعار المفهوم والإحساس به خارج السياق الوطني أيضا .
مصطلحات علمية عديدة تستعصى على إدراك المتلقي العادي وأقوال بعض المفكرين والفلاسفة كان لا بد من استحضارها لمقاربة الفكرة ولتأكيد بعض الأحكام التي خلص إليها الباحث ولتعزيز أرائه فيما يخص مسألة الهوية .
ولم يمنع انقطاع التيار الكهربائي ولا الصالة المعتمة ولا عدم وجود مكبر للصوت من إقامة وتواصل المحاضرة التي وعلى غير المعتاد ونظرا للطقس البارد شهدت حضوراً مكثفاً واستثنائيا أنصت بأهتمام لتفاصيل المحاضرة حتى نهايتها , إذ هذا ما أثبتته المداخلات والأسئلة التي طرِحت بعد انتهاءها من قِبل الحاضرين , والصمت أثناءها حرصا على التقاط كلمات الباحث الذي اجتهد بدوره في إيصال صوته لكل المستمعين .
وكان واضحا ان الموضوع نخبوي يتعذر استيعابه من المتلقي العادي وغير المتخصص إلا أن الأستفادة في كل الأحوال ستتحقق, ذلك أن مداركه ستتسع ووعيه سيصبح حاداً ومرهفا حالما يضيف إلى معارفه معارف جديدة .
تحدث المُحاضر أيضا عن مفهوم التعايش في نطاق مسألة الهوية وتناوله بعمق وعرَّجَ على مفهومه وأنواعه كالتعايش الإستعلائي الذي توسع في شرحه وتبسيط معناه واستعان بأمثلة حية لتوضيح مظاهره بما في ذلك تطرقه إلى إحصائية تُظهر ممارسة شريحة من الليبيين لهذا المفهوم من خلال عدم تقبلهم لجيرانهم المختلفين عنهم لغوياً , فوفقاً لهذا المفهوم فإن التعايش يعني عدم اللجوء للعنف لحل وحسم الخلافات ما بين المُختلِفين ووفقا للتعايش الإستعلائي يمكن للأنا قبول الآخر ولكنها تنكر عليه معتقده وأسلوبه في الحياة .
واستمر الدكتور في قراءة ورقته العلمية وسط أجواء أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها علمية ورصينة أعادتنا لوهلة إلى مقاعد الدرس فالأمر هنا وبرفقة الفلسفة لا يقبل أنصاف الحلول ولا بالتخمينات حيث واحد زائد واحد لا يمكن أن يكون إلا إثنان , وقليلا ما غادر الدكتور الورقة ليشرح نقطة معينة وللتوسع في تناولها أو لاستحضار قول معين أو للإحالة إلى نظرية فكرية أو فيلسوف محدد , ف كونديرا وديكارت وفولتير وأدونيس وغيرهم من الفلاسفة والمنظرين كانوا حاضرين بشكل أو بآخر من خلال أقوالهم التي استعان بها الباحث واستحضرها لأنها توافق المقام .
وقبل أن يختتم الدكتور محاضرته نبّهَ إلى دور الفلسفة المهم في معالجة كل القضايا التي تهم الإنسانية والمجتمعات وقدرتها على إيجاد الحلول الناجعة لكل ما يعترض الحياة من مشاكل , وعلى العكس مما يعتقد البعض من أنها لا تتماس مع الحياة والواقع اليومي , ووفقا لشرح الدكتور من خلال مقاربته الناجحة يتبين لنا بأن الفلسفة يمكن أن تلعب دورا محوريا في كل ما يتصل بالحياة .
الختام الذي أعقبه تصفيق الجمهور تعبيرا عن الأمتنان والشكر أعقبه أيضا فتح باب النقاش حيث أدلى بعض الحاضرين بتعليقاتهم وملاحظاتهم وطرح أسئلتهم التي دارت حول موضوع المحاضرة والفلسفة بشكل عام , وقد جاءت هذه الإضافات من كل من الأساتذة أمين مازن ومنصور ابو شناف و رضوان ابوشويشة وأستاذة الفلسفة كريمة بشيوة وغيرهم من المتداخلين وقد تركزت هذه المداخلات حول ضرورة ملامسة الفلسفة لقضايانا وهمومنا التي نعاني منها اليوم وعن الأنسلاخ عن الهوية الوطنية والتماهي في الهويات الأخرى الأقوى وحول ضرورة إقرار مادة الفلسفة في مناهج التعليم بمراحله المختلفة وهو الأمر الذي يعد قصورا واضح من وجهة نظر المعقب وحول تقريب الفلسفة من الناس ورفع التهم عنها من أنها تقترن بالكفر والإلحاد وحول الأنتماء للإنسانية قبل الأنتماء للمجتمع الذي نعيش فيه أو تعود أصولنا له , كما أشاد البعض بالدور الخطير الذي يلعبه الدكتور نجيب الحصادي في هذا الوقت الحساس للتأصيل للفلسفة ومحاولاته الحثيثة لجعلها طريقة ناجعة من طرق حل المشاكل والخلافات الجوهرية في المجتمع وترسيخا لدورها في التعامل مع القضايا الملحة , وهذا ما تؤكده محاضراته المتتابعة في مدن هون وطرابلس وبنغازي .
أستمع الدكتور بأهتمام زائد لكل هذه المداخلات والملاحظات التي تفاوتت في أهميتها وأجاب بتوسع على البعض منها فيما اعتذر عن الإجابة على البعض الآخر لأسباب تخصه ولتطرقها إلى السياسة التي أوضح الباحث بأنه ينأى بنفسه عن الخوض فيها , قبل أن يدركنا الوقت ويتم الإعلان عن انتهاء المحاضرة