النقد

هشام مطر يزيد سخونة صيف لندن برواية في بلاد الرجال

سرد حسي يستثير الصراعات ويوقظ المغفرة والحب

 

كرم نعمة – لندن

كان عليّ أن أحقق رغبته في إحباط الدوافع التي بدأت سائدة عند النقاد من أن روايته وكأنها كتبت بدافع انتقام سياسي أو ما يشبه ذلك عن اختطاف والده من قبل السلطات الليبية بتواطؤ وضيع من السلطات المصرية، كذلك سألته عما إذا كان مازال يحلم باللغة العربية،وهل يفكر بالعربي عندما يكتب باللغة الانجليزية عن واقع عربي أصلا؟

قال هشام مطر مفاجأة صيف لندن الساخن هذا العام بروايته (في بلاد الرجال) التي صدرت الأسبوع الماضي عن أشهر دار نشر بريطانية (بنغوين):

-كلا أخر حلم لي بالعربي عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري، وبلا شك إني أفكر بالانجليزي واستذكر أحداثاً عربية، أنا انجليزي مثلما أنا أمريكي (ولد هشام في نيويورك ويعيش حالياً في لندن) كما أنا ليبي.

حتى أن السيدة الليبية والدة هشام التي شاركتنا الأمسية الاحتفائية التي أقامها مقهى الشعر

 (The Poetry Place) في لندن الأسبوع الماضي عبرت عن أملها أن تقرأ الرواية كما هي كنص أدبي ليس إلا.

قد يجيب هذا الشاب الانجليزي- العربي في روايته (In the Country of Men) عن الأسئلة المتراكمة التي تنطلق من صدور الكتاب العرب عن حقوق مؤلفاتهم وعلاقتهم بدور النشر وهو يوقع عقدا مع شركة (فايكنج) أحد فروع مؤسسة بينجوين العالمية للنشر، لإنتاج روايتين كانت (في بلاد الرجال) أولاهما.

ثم شراء حقوق نشر الرواية في أربعة عشر بلداً آخر منهم ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، أسبانيا، البرتغال، اليابان، هولندا وغيرها. وستصدر الطبعة الأمريكية في شهر كانون الأول (يناير) من العام 2007 عن دار نشر رواندوم هاوس العالمية.

يجيب هشام مطر بابتسامة عميقة ومؤثرة في تاريخه الشخصي عندما أصطحب وكيله الأدبي كيفن سكوت إلى مبنى (بنغوين) لتوقيع العقد، وهو يراقب على الجدران صور الكتّاب الكبار الذين مروا على بنغوين: غراهام غرين هيرمان هيسه وتوماس مان وغارسيا ماركيز….، وها هو يشاركهم الدار نفسها، كم سيدر عليه هذا الكتاب؟ نصف مليون دولار…، ربما أكثر بقليل.! العقد الذي وقعه يتكون من رقم إلى جواره ستة أصفار.

خيال انجليزي يتأمل المكان العربي

تسرد الرواية بلغة انجليزية مفعمة بالشعرية تاركة مساحة الخيال الانجليزي تتأمل المكان والحس العربيين،على مساحة 256 صفحة عوالم السارد (سليمان) ذي السنوات التسع وهو ينشأ في بيئة مذهلة حين يختفي والد أعز أصدقائه، وهناك رجل يجلس خارج البيت طوال النهار، ملقياً أسئلة غريبة، ولكن لا يمر الكثير من الوقت قبل أن تصبح الهمسات مسموعة لأذن سليمان، حتى أنه في محاولة لإنقاذ أسرته، قد ينتهي الأمر به بخيانة أصدقائه ووالديه وفي النهاية نفسه.

تظهر شخوص الرواية رجالا متحجّرين صارمين مروّعين، أو بتعبير الروائية ساره برودهورست: (أنها مقلقه، مؤثرة، بل إنها تأسرك، إنها من ذلك النوع من الكتب الذي لا يتخلي عنك… مدهشة وقويه).

وبالنسبة لسليمان،فأن الرجال المتحجرين مضطرون،ولكنّهم ذوو حضور فعّال: ((يداه تمتدّان في الفراغات الضبابيّة التي فُرض عليه أن يستسلم لها، بيد أن سليمان شبّ في ليبيا عام 1970 وليس لأيّام سليمان شكل أو هيئة،المدرسة معدومة،وهو يقضي وقته في اللعب على سقف منزل والديه أو في شوارع الضاحية المكتظّة.

والد سليمان، يختفي في رحلات تجاريّة وأمه تعد نفسها لعودة أبيه،ولكنها تقع في نوبة تعاسة كلّما غاب: تقهقه بصوت عال، تدخن بلا انقطاع وتحتسي الكحول كلما رغبت بذلك…

عندما كانت الأم في سنّ الرابعة عشر،كانت تتجسّس خلسة وتتسكّع مع الأولاد في مقهى إيطالي في طرابلس، فحجزت من قبل عائلتها في حجرة مغلقة لشهر كامل، وأُجبرت على الزواج.. أصبح سليمان وثيق الارتباط بالمعصية والرغبة العارمة المنبثقين من هذا الواقع. لقد كان الأب (الرجل العِقاب لها) وسليمان (الولد الذي ختم على مصيرها).))

ينأى هشام مطر بالسؤال عن أن رواية (في بلاد الرجال) أشبه بالسيرة الذاتية لحياتية، من دون أن يقلل من أهميته، فبالرّغم من تصويرها لانفصال سليمان ذي التاسعة عن والديه، ليست تماما عن اختفاء والده، فالكتاب عن هذا الاختفاء سوف يتمّ تدوينه، ويعلم أنه في يوم ما سيقوم بكتابته، كما يقول لستيفن موسّ المحرّر الأدبي لصحيفة (الجارديان) البريطانيّة.

أفتتن هشام بالطريقة التي يهرب بها الناس من (القصّ العظيم) لأنه يقولبهم– البلاد، الدين، الأسرة، الموروث، لقد أُرسل الصبي سليمان ذو التاسعة من العمر إلى مصر من قبل والديه، حتى يتفادى الخدمة العسكريّة اللاّحقة، كما أن مؤلّف الكتاب غادر ليبيا عندما كان في التاسعة، حين ظهر اسم والده في قائمة الذين قرّرت الحكومة استجوابهم، هربت الأسرة، وكان على رجال الأمن الانتظار إحدى عشرة سنة لكي يقوموا بالاستجواب، كيف كانت الروابط بين الشخوص والمؤلّف؟

وُلدوا جميعا عام 1970، لقد تعيّن عليهم أن يجعلوا حياتهم كمنفيين- وهذا واضح، لكن هشام مصرّ على أن الكتاب أكثر من أن يكون سيرة حياة (فسليمان وأنا مختلفان في جوانب كثيرة) يقول هشام (فكونه الابن الوحيد مهمّ جدّا، فهذا المونولوج الداخلي استمرّ معه طول الوقت، بينما كان لي أخ اتخذته كأنموذج لي ورافقته معظم الوقت، فقد كان بطل سباحة، محاطا دائما بالأصدقاء والكثير من أبناء العمومة، وإذن فلم تكن هناك عزلة، يضاف إلى ذلك أن سليمان كان رهيفا عاطفيّا وأمّه متقلّبة المواقف لعبت دورا كبيرا في حياته، حيثما كانت أمّي وأبي كلاهما مستقيم يُعتمد عليه، وما استعملته كان من خلال منظور الولد، والمناظر الطبيعيّة كانت مألوفة لي، كما الزمن في السبعينات، حيث كنت آنذاك حاذقا، لقد استشعرت أن ثمّة أشياء لا يمكنك البوح بها، كأن تجلس حول مائدة الأكل، وينبري أحد الأعمام بالحديث فيغرق الجميع في الصّمت، حيث تذكّروا فجأة أن معهم ولدا ربّما نقل معه الكلمات إلى مكان آخر، ومن ثم قد يُعتقل أحد… والفرق الجوهري الآخر أن والد سليمان كان ناشطا في الحياة السياسيّة السريّة بليبيا، بينما لم يكن جاب الله مطر كذلك، لقد كان دبلوماسيّا سابقا( وُلد هشام بنيويورك عندما كان والده في البعثة الليبيّة بالأمم المتحدة).

الارتعاب من الكتمان

هكذا صار هذا العالم الملغّز موسوما بأكثر حدّة. كانت هناك لقاءات غريبة مفعمة بكلمات الانشقاق السياسي بين الرّشد والهمس.. يرى سليمان والده وهو يعبر الشارع، بينما يفترض أنه خارج البلاد. يتلفّع الأب بالأطياف، وسليمان يرتعب في الكتمان.. يتحوّل مزيد من الرجال إلى توجيه الأسئلة العدائيّة وهم يتدفقون على المنزل ويفتّشونه، يعتقل الأستاذ راشد،صديق والد سليمان، ثم يختفي الأب أيضا، وبعد اختفاء والده، يشاهد سليمان الأستاذ راشد وهو تحت التحقيق على شاشة التليفزيون،وفي آخر المطاف يظهر راشد في الشاشة وهو يصعد مسرعا سلّما وضع في ملعب كرة السلّة ليتدحرج منه مشنوقا.. وما أن يتحوّل المشهد إلى الفظاعة المرعبة، حتى تمتلئ الشاشة بمناظر الورود، ويُعزف النشيد الوطني… لقد شاع أن الزعيم يتحكّم في هذه الفقرات من البرامج من خلال مفتاح يملكه في غرفته.

يصر ستيفن موس على تساؤله:لمَ لا يكون هشام مطر في أقصى حالات الغضب؟

في عام 1990، عندما كان طالبا في لندن، خُطف والده الذي كان معارضا ليبيّا يعيش في القاهرة، وقد أُخذ إلى طرابلس وسُجن، وبعدما كانت السلطات المصرية تؤكد لعائلته المقيمة في القاهرة أنه بحوزتها، هرّب الأب المختطف عام 1993 عدّة رسائل من داخل سجن أبو سليم في طرابلس تكشف ما تعرّض له من معاملة، كما تكشف أكاذيب السلطات المصرية التي تواطأت في عملية اختطافه مقابل ثمن وكالعادة! ولكن انعدمت أخباره منذ عام 1995. ولابدّ أن يكون انعدام الأخبار هذا مريعا.. فكيف يقاس هذا مع الشّاب الوسيم الملتزم الصبور؟

من الطبيعي أن يحدث الغضب نتيجة النحس كذلك يقول هشام، لقد استعاد الفراغ في منعرجات حياته: (إنك لا تعرف مصير هذا الشخص الذي يمثّل مركز حياتك، ويستمرّ أفقك في الانسدال… في البدء تنشد العدالة، ثمّ ترغب في رؤيته، والحديث إليه، وأخيرا لا تريد حتى هذا- وكلّ ما تريد معرفته هل هو حيّ أم ميّت..)

كتب هشام مطر عام 2003 مقطوعة  حسية مؤثّرة للجنة العفو الدوليّة عن آثار اختفاء والده في نفسه ونفس والدته وأخيه الأكبر، الذين ما يزال يعيشان في القاهرة، وفي بداية تموز (يوليو) 2006  ظهر بجانب الكاتب (هارولد بينتر) الحائز على جائزة نوبل للعام الحالي والمتعاطف جداً مع محنتي العراق وفلسطين و(توم ستوبّارد) في مناسبة ذات مستوى عال أحيتها (مراقبة حقوق الإنسان) في رويال كورت بلندن، مع كل ذلك إنه لا يستاء من التفاعلات السياسيّة لقصّته وفق ستيفن موس المحرر الادبي لصحيفة الجارديان، غير أنه أيضا لا يقبل أن يعرّف بها.

يبدو رُعب السبعينات في ليبيا في الرواية وراء الكواليس وليس لُبّها الصميمي، وبدلا من ذلك ففي متن الرواية ثمّة صبيّ يكابد لكي يفهم- وفي نهاية المطاف يفرّ من المجتمع المغتمّ برهاب الاحتجاز (الخوف النفسي من الاختناق) والذي وُلد فيه.

يقول هشام عن ذلك (لقد وددت أن أكتب كتابا لا يتعلّق بالسياسة.. فأنا كما أظنّ من طلاّب الشهوة والذّائقة الجماليّة، وليس لي في الحقيقة اهتمام بالسياسة، غير أن السياسة كانت جزءا من النسيج، عليّ أن أقول شيئا عنها، وإلاّ كانت كل القوى التي شكّلت هذه الشخوص تجريدا محضا).

ربما من أجل ذلك وصفتها الروائية آن مايكلز:(إنها توضح لنا، أن الحب على الرغم من الخيانة، الحزن، الريبة، الغضب، الإرهاب السياسي يبقى هو الحب)

إنها باختصار رواية شديدة التأثير،واستثارة ناعمة للصراعات البشريّة الكونيّة، إنها تتعلّق بالهويّة، المغفرة، الحبّ واللغة، وبغضّ النظر عن حجمها المتوسّط، فقد استغرقت كتابتها خمس سنوات، إنها تستحقّ أكثر من انتظارها… وهشام سعيد بذلك فلا قيمة للوقت إزاء الإخلاص لروح النص، أو بتعبير هشام مطر إن المحررين الذين يعملون في مكتب وكيله الأدبي كيفن سكوت جعلوا مخطوطة الرواية تتنفس: (كان النص قبل الإضافات يتكون من 58 ألف كلمة، لكنه وصل إلى 75 ألف بعد إكمال مراجعته له).

التعصّب الوطني دقيق كالخيط الرّفيع

(ما أذهلني هو التحرّر من الشعور تجاه ليبيا) هذا ما يقوله بطل الرواية حينما بلغ طقس مسيرته الختام، ويضيف (التعصّب الوطني دقيق كالخيط الرّفيع- ربّما لهذا السبب يحاط بمنتهى القلق).

وهذا قد يفسر إلى حد ما إجابة هشام لسؤالي في المستهل انه بريطاني أمريكي ليبي، والظاهر أن المبدع بداخله لديه الشعور نفسه، إنه في غمرة معارك في  عدّة أمكنة ممّا أشعره بعدم الانفصال، فهو في الوطن بلندن، مدينة السعداء الرّاغبين في اللّذة.

يقول هشام:(مهارتي تتبدّى في أنني ما أن تحطّ بي الطائرة في مدينة لم أزرها من قبل، حتى أتخيّل أنني وُلدت هناك والموت فيها سيكون أمرا شاذ.. وتقريبا أوّل ما يتبادر إلى ذهني إحساسي الشديد بانعدام جذوري)

فهشام هذا الشاب المصفوع بملامح السماحة والهدوء الرصين مثل سليمان يهرب من سره الكبير، وامتلك انتقامه في التدليل على أن الشرّ لا يكسف الشمس، الأمر الذي يغفر لنا تكرار وصف رواية (في بلاد الرجال) إنها رواية شديدة التأثير، واستثارة ناعمة للصراعات البشريّة الكونيّة، إنها تتعلّق بالهويّة، المغفرة، الحبّ.

مقالات ذات علاقة

رحلة الزاهي: من صقيع دبلن.. إلى نار فزان (2-2)

عبدالسلام الفقهي

البحث عن إصغاء لشهرزاد

المشرف العام

قراءة في ديوان تهاني دربي هكذا أنا

محمد الأصفر

اترك تعليق