لا شك أن كل كاتب لا بد وأن يعبر عن هواجسه ومخاوفه سواء أراد ذلك أم لا.. إذ أن الكتابة في حد ذاتها هي فعل يغلب عليه اللا وعي.. وهي في ذات الوقت محاولة واعية للتخلص من بعض الهواجس.. أو على الأقل التخفيف من حدتها.
لكن معرفة هذه الهواجس التي تتموضع في مكان ما من اللاشعور لدى أي كاتب هو أمر في غاية الصعوبة بحيث يحتاج إلى تحليل عميق ودراسة دقيقة للإمساك بتلابيبها وانتزاعها من بين ثنايا السطور وتجاويف الحروف عندما ينفث الكاتب هذه السطور والحروف في شكل من أشكال الأدب.
أما عند الصِّدِّيق بودوارة وبالتحديد في مجموعته (يُحكى أن) فالأمر يختلف تمام الاختلاف.. إذ ليس عسيراً أن تُدرك أن هذه المجموعة يسيطر عليها هاجس الموت من أول كلمة فيها إلى آخر كلمة.
يكفي أن أقول لك بأنني أحصيت كلمة الموت ومشتقاتها في هذه المجموعة فوجدتها سبعاً وتسعين كلمة.. ناهيك عن المفردات الأخرى مثل القتل ، الانتحار ، الوفاة ، طلوع الروح ، العمر القصير، الردى ، النهاية ، الوأد ، الدفن.. وناهيك أيضاً عن الإشارات الرمزية للموت والتي لا تُحصى.
ليس هذا فحسب بل إن الصِّدِّيق لم يترك شاردة ولا واردة إلا وصبغها بلون الموت الأصفر الذي اختاره كلون لغلاف مجموعته.. إضافة إلى الصورة التي اختارها لتزين صدر مجموعته وهي عبارة عن قافلة راحلة في الأفق اللامتناه تاركة ورائها أطلالها التي تبدو كشواهد قبور منسية.
أما العنوان وهو (يُحكى أن) فلا أظن أنه بحاجة للتدليل على أنه إشارة واضحة للموت.. خاصة وأنها جاءت بصيغة المبني للمجهول.. أي أن الحاكي والمحكي عنه قد ماتا بالفعل.. ومنذ أمد بعيد.
ولنبدأ من أول قصة:
أول هذه القصص هي قصة قصيرة جداً بعنوان الدائرة ونصها : “” أيها الجمل.. صحراءٌ بعرض الكون وذرات رملٍ تُضمر لك الشر ومفازةٌ تنوي لك العطش وعطشٌ يتوعدك بالموت وموتٌ يتآمر عليك مع صحراء بعرض الكون.. أيها الجمل.. ها قد اكتملت الدائرة.. فإلى أين ؟!””
فالموت في هذه القصة هو نهاية الدائرة رغم أن القصة بدأت بفسحة بعرض الكون.
أما القصة الثانية وهي بعنوان (مصير) فالمكتوب – كما يقال باين من عنوانه – وفي القصة يخاطب الصِّدِّيق السمكة الملونة الصغيرة بأنها مرهونة بين ثلاث خيارات وهي فك مفترس أو شبكة صياد أو حوض من زجاج مزين بفقاقيع مزيفة.. ثم يختم قصته بقوله “” أيتها السمكة الملونة.. ما الفائدة ؟!””
وفي قصة (لا تكافؤ) ثمة صراع بين الطائر الذي يخترق الفضاء.. والفضاء الذي يخترقه الطائر.. لكن الشمس اختارت أن تموت لتحسم المعركة لصالح الفضاء.. وهو انتصار للسكون على الحركة.
ولو عرفنا الفارق بين الموت والقيامة لعرفنا أن هاجس الموت قد وصل إلى ذروته في قصة (القيامة).. فالموت قد يعني موت كائن واحد أو مجموعة كائنات.. لكن القيامة تعني موت جميع الكائنات بلا استثناء.. تحكي هذه القصة الحوار الأزلي بين الليل والنهار.. وعندما يتوقف الحوار تنتهي الدنيا.
أما قصة (اختلاف) فهي مقارنة بين ميلاد الحب وموته.. فميلاد الحب يأتي على دفعات..أما موته فيأتي فجأة وبلا مقدمات.
وفي قصة (عبث) لا يوجد إلا شيئين لا ثالث لهما ؛ إما قحط وجفاف.. وإما سيول تُغرق البشر.. أو بتعبير أوضح : إما موتٌ وإما موتٌ.
وتبدأ قصة (زمن المتاحف) برسالة يكتبها عاشق إلى معشوقته يصف فيها مدى حبه لها.. وتنتهي القصة بقول القاص : ” مرت مائة سنة أصبح العاشق الصغير هيكلاً عظمياً تحترمه المتاحف فيما تحولت المعشوقة المراهقة إلى مقبرة سيئة السمعة.. أما الأرض فلم تصبح جنةً حتى الآن “”.
ويبدو أن القاص أراد أن يُخرج القارئ من هذا الجو الكئيب فكتب قصة (هرطقة).. وفي هذه الهرطقة تُخاطب اللبوة الأسد قائلة : “”أنا اللبوة.. أمارس الصيد.. أفترس.. أطعم أشبالك الجائعين.. أشعرك بالأمان والمتعة.. وأنت.. لا تفعل شيئاً سوى التسكع بلا فائدة لك الصيتُ ولي الشقاء…..”.
ولو تأملنا صفات اللبوة وهي : الحركة.. العمل.. إطعام الجائعين.. الإشعار بالأمان والمتعة.. أليست هذه صفات الحياة ؟!
أما الأسد فلا يفعل شيئاً سوى أن يلتهم ما تأتيه به اللبوة.. أليست هذه صفة الموت ؟!
إذن فقد فشل القاص في الخروج من هاجسه.
ويلي الهرطقة قصة بعنوان (اليقين الصامت).. واليقين والصمت صفتان من صفات الموت.
أما قصة (ملل) فلا تحتاج إلى تحليل.. إذ يقول القاص : ” تُشرق الشمس.. تفعل هذا كل يوم.. يُقبل الليل فيطفئ النور..
( أين نحن ؟ )
جوابها سهل.. بينهما تنطفئ أعمارنا..
أيها البشر.. هل من خلاص ؟!”
أما (السيرة) وهي من أقصر القصص فتقول :” زجاج يتهشم في الصدر.. غصة في الحلق.. دموع تتجمع في المآقي.. تلك هي السيرة الذاتية للهزيمة “”.
وفي قصة (بديهيات) يتحول كل شيء إلى جماد.
وفي قصة (لو أنه) يتحسر الكاتب على الخلود في الجنة الذي فقده البشر بسبب خطيئة أبيهم.. حيث يقول القاص : ” – ( يا الله.. خذ تفاحتك وأبقني في الجنة )..
كان بوسع آدم أن يُنهي المأساة عند هذا الحد.. كان بوسعه.. أليس كذلك ؟! “
ويضع القاص عنواناً لإحدى القصص وهو (موت بائس) ليطمئن نفسه بأن ثمة موتٌ سعيد !!
ثم ينتقل الصِّدِّيق إلى مجموعة من النصوص القصيرة جداً.. يختار لها عنواناً واحداً وهو (أيها الموت) كل هذه النصوص البالغ عددها خمسة عشر نصاً – وبلا استثناء- تتحدث عن الموت.. فتارة يلوم الموت وتارة يتحسر على قِصر العمر وتارة يحاول أن يُهادن الموت.
ونجده أحياناً يصف الموت بأوصاف كالسكون ، والسكينة ، والعمى ، والتسلل ، ومرارة الطعم.. ويقول بأن للموت صفات أخرى رائعة.
ولكن ما هي هذه الصفات الرائعة ؟؟.. يخبرنا الصِّدِّيق عن هذه الصفات الرائعة بقوله : “… لا تغضبوا.. له أيضاً بعض الصفات الرائعة لكننا نسيناها تماماً فمنذ مائة سنة لم يمت نذل واحد في بلدتنا ! “
فأي روعة في ترك الأنذال وقتل الطيبين.. إلا أن كلام الصِّدِّيق هذا عن الموت ليس له ألا وجهان.. فهو إما إنه يسخر من الموت أو أنه يتملقه.. أما السخرية فلا تتناسب مع هذه المجموعة الطافحة بهاجس الموت.. إذن فلم يبق إلا التملُّق.. وهو قمين به.
وفي قصة أخرى يرى الصِّدِّيق الموت في كلِّ شيء ؛ في غدر الصديق وفي هجر الحبيب وفراق الأهل وفي الحقد والكُره.. ليثبت لنا أن المعركة مع الموت غير مُتكافئة فهو أكثر جُنداً.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد.. بل إن الصِّدِّيق يرى أن كل ما حوله قد مات.. حيث يقول : ” انتظرتكِ طويلاً.. ماتت نهاراتٌ عدة.. مات ألف ليل وماتت قُطعان من الأمل.. الآن لم أعد أنتظر فقد مات الانتظار.”
ويتمثل الصِّدِّيق ببيتٍ للمتنبي :
وقفتَ وما بالموت شكٌ لواقفٍ.. كأنك في جفن الردى وهو نائمُ
ثم يصف المتنبي بصاحب البصيرة !!.
مجموعة أخرى من القصص يختار لها عنواناً واحداً وهو (أساطير الزمن الرديء).. أول هذه الأساطير هي (أسطورة الميلاد) حيث تبدأ هذه الأسطورة بصرخة.. وتنتهي ببكاء حتى مطلع الروح.
أما (أسطورة الكنز) فهي تتحدث عن موت الضمير وموت الشرف لدى الإنسان.. هذا الموت الذي يؤدي بدوره إلى موت الأرض أي موت الوطن.
وفي (أسطورة الروح السابعة) يحلم الصِّدِّيق بودوارة بسبعة أرواح إلا أن الموت لم يمهله فقد خرجت أرواحه السبعة كلها الواحدة تلو الأخرى.. وفي يومٍ واحد !!
وفي هذه الأسطورة يُسمي نفسه (مستور) والستر في اللهجة الليبية كناية عن الدفن.. وكأني بالصِّدِّيق يتمثل قول الشاعر :
وإذا المنية أنشبت أظفارها.. ألفيت كل تميمة لا تنفعُ
وفي قصة مُقايضة يستبدُ العطشُ بالجمل لكنه وخوفاً على سمعته يطلب من الصحراء أن تحوله إلى جواد كي لا يقال : مات الجمل عطشاً !!
فالموت واحد وأسبابه كثيرة.. لكن بعض الأسباب قد لا تليق ولا تروق للبعض.
وربما أراد القاص أن يستخف بالموت في قصته (أسطورة الموت).. فمن معاني الأساطير في اللغة هي الأباطيل والأكاذيب والأحاديث التي لا نظام لها.. فهل الموت أكذوبة يا بودوارة؟؟!!
تبدأ أسطورة الموت بغناوة علم : ” خرَّابة الغلا ساعة أطلوع الروح.. يا ويلهم !! “
ورغم الجهد الذي بذله العاشق في شرح هذه الغناوة لمعشوقته إلا أنها لم تفهم معنى اطلوع الروح.. فيقرر العاشق الشرح بطريقة عملية فتخرج روحه وتخاطب المعشوقة قائلة : هل فهمتِ الآن؟.
وفي قصة (القاتل) تُجري المُذيعة الجميلة لقاءً مع القاتل المأجور وتدعو له بالتوفيق.. ثم يطلب القاتل من المشاهدين الدعاء له بالتوفيق.. فيموتون جميعاً.
وفي (أسطورة الوطن المُفدى) يقتل التلاميذ معلمهم.
وفي (أسطورة المطر) يقتل الأشرار الطيبين بسبب إضراب السُحب عن إنزال المطر.
وفي (أسطورة الحكيم) يموت ألف إنسان وإنسان مع ميلاد ألف ليلة وليلة.. وفي نهاية المطاف يموت الحكيم ويموت معه ألف جواب وجواب.
وفي (أسطورة الجبل الأسود) يموت الجبل.
وفي (أسطورة العام الجديد) يولد العام الجديد في السماء ويموت في الأرض.. لكن الأسوأ في موته أنه يموت جزء منه في كل يوم.
أما (أسطورة العاهرة) فتنتهي بانتحار العاهرة.
وفي (أسطورة الأساطير) يموت البشر جميعاً وفي ليلة واحدة.
وفي قصة (الموت مرتين) يثبت الصِّدِّيق أن الميت يموت مرتين.
وتنتهي قصة (إجداب) بموت البئر.
وفي قصة (موت جمل) يموت الجمل رغم كبريائه وأنفته.. ورغم ماضي أجداده مع الصحراء.
وتبدأ قصة (الدائرة المغلقة) بكلمة ” صباح الخير” ولكن ليس بعد صباح الخير من خير.. إذ يقول الصِّدِّيق في دائرته المغلقة وعلى لسان الحزن الذي صبَّحه بالخير : “أنا الحزن.. سأقتلك هذا اليوم ستموتُ حزناً.. وسيقتل الفضول طبيبك الشرعي دون أن يعرف سبب وفاتك.”
وفي النهاية يرى الصِّدِّيق في منامه أن الحزن قد مات وأن طبيبه الشرعي لم يقتله الفضول لمعرفة سبب وفاته..!!
وفي (ذاكرة الصفيح) يبدأ الصِّدِّيق قصته بهذه الكلمات : ” لا نساء..
المرأة الأخيرة أُحرقت منذ أسبوع.. وأطباء التوليد المخلصون يوافون السلطات بآخر الأنباء المتعلقة بولادات الإناث لذلك فالوأد (بحمد الله) يسير سيراً حسناً “”.
ثم يتحول الإنسان بسبب فناء النساء إلى (روبوت) مجتهد يحمل قلباً من الصفيح المصقول.. ويستنشق غبار الإسمنت العالي الجودة.. ويتنفس هواء المصانع الذي وصفه بالمنعش ويمتطي الآلات الخرساء.
وفي (السحابة العاشرة) يصف الصِّدِّيق الصمت بأنه أكبر البطولات.. ثم يُفسر الصمت بالموت.. ثم يقول : ” هكذا صرتُ بطلاً.. لكنني متُّ.. توفاني الله.. قتلني الحنين إلى الكلام”.
وفي (حبة الإسبرين) يُشَبِّه بطل القصة نكبته بنكبة البرامكة الذين قتلهم الرشيد.
وباعتبار أن الصِّدِّيق ليس هو بطل القصة.. أي أنه لم يستخدم صيغة المتكلم في سرده.. إلا أن الصِّدِّيق وكعادته لم ينس أن يدس رأسه في فم الموت.. فعاد من جديد ليسمي نفسه (مستور).. هكذا كان يناديه بطل القصة.
ولم يخل (كتاب الندم) من حضور الموت البارز في عبارات صريحة من أمثال :
– “”حدث هذا منذ زمن.. قبل أن أموت ندماً.””
– “”يتذكر حديثها وهو يضع وردة على قبر ذلك الندم الذي مات ندماً.””
– “”أكلني الندم.””
– “”كم قتلني الندم.””
أما في (النسيان والتذكر) فيكتب الصِّدِّيق متسائلاً : ” من قال إن النسيان يعنى الموت.. من يكتب هذا الكلام إذن ؟ “
لكن السؤال المهم هنا أين يجد الصِّدِّيق نفسه.. في طائفة النسيان.. أم في حزب الموت ؟؟
ولنعرض القضية بوجهيها وبشكل تحليلي ليختار القارئ الأصوب.
– الوجه الأول : طالما أن الصِّدِّيق يكتب والكتابة من فعل الأحياء.. وبما أن الموت يتناقض مع النسيان عند فعل الكتابة.. فهذا يعني أن الصِّدِّيق حي.
– الوجه الثاني : طالما أن الصِّدِّيق يكتب والكتابة تذكُر وبما أن الموت يتناقض مع النسيان عند فعل الكتابة.. فهذا يعني أن الصِّدِّيق ميت.
فأي الوجهين أراد ياترى ؟؟!!
لا شك عندي أن الصِّدِّيق أراد الوجه الثاني وذلك لأن :
– أولاً : إن هاجس الموت المسيطر على كل قصة من قصص المجموعة لم يكن ليسمح الصِّدِّيق بأن يختار الوجه الأول.
– ثانياً : لا يوجد في كامل المجموعة ما يشفع له لدى القارئ لو ادعى الصِّدِّيق خلاف ما أثبتناه.
ثالثاً : إن الكتابة من حيث هي عمل إنساني فهي فعل مقاوم أو مضاد للنسيان وليس مضاداً للموت.. بمعنى أن المكتوب محفوظ ضد النسيان.. لكن الكاتب غير محفوظ من الموت.
ولا يُشكل على ذلك استخدامه للفعل المضارع (يكتب) فهو وارد في كلام العرب وفي القرآن بالتحديد.
لكن استخدام القاص للفعل المضارع يفسر الرغبة الجامحة لدى القاص في إثبات وجوده على الدوام..!!
إن ما أهملته من الأدلة على تمكن هذا الهاجس من هذه المجموعة لهو أكثر بكثير مما ذكرته.. وفيما ذكرته الكفاية.
لكن ورغم أن هذه المجموعة هي أكثر كتابات الكاتب التصاقاً بالموت.. إلا أنني أكاد أجزم بأن المجموعة القصصية ( يُحكى أن) ليست المصدر الأساسي لرائحة الموت المنبعثة منها.. بل المصدر الأساسي هو ذلك الحبر النازف من قلم الصِّدِّيق بودوَّارة..وأنا وإن كنت قد حصرت قراءتي هذه على المجموعة المذكورة.. إلا أنه لا بأس أن أرجع لبعض كتابات الكاتب لأثبت دعواي عليه.. ولنلتقط هذا المشهد من روايته (منساد) : “”… أسبوع كامل مضى قبل أن تُقبل الكارثة.. مات أولاً شداد.. وجدناه ميتاً في فراشه وقد غادر الدنيا بهدوء يُحسد عليه.. وعندما انتشر الخبر كانت بنات “سيدنا” الثلاثة قد فارقن الحياة.. وقبل أن ينتصف النهار كان عامل المعصرة الفقير يُسلم الروح بينما ابتلع بئر منساد راعي أغنام حسن الصوت وعندما أرسل “سيدنا ” في طلب خلدون ليتدبر أمر هذه المذبحة الجماعية كان العدد قد تضاعف بموت أربعة من شيوخ منساد…”
أما عن مجموعته التي أسماها (ميم).. فيبدو أن الصِّدِّيق يكره هذا الحرف ويناصبه العداء حتى صارت كل الكلمات التي يدخل فيها هذا الحرف هي كلمات قبيحة لا تنبئ بخير.. ربما لأنه الحرف الأول لكلمة (موت).. فماذا قال الصِّدِّيق في القصة التي تحمل نفس الاسم :
“ميم
موصدة الأبواب من أمامها..
محكمة الإغلاق في آخرها..
متاهة من الرفض..
حرف ميم مدور الوجه يتصدر وجهها
ودائرة من التجهم تنتظر هناك..
عندما تنتهي بك الطريق في آخر الكلام.”
وختاماً..
فقد تُفيد هذه القراءة في فهم شخصية الكاتب ومن ثم التوصل إلى قراءات أعمق لمقاربة نصوصه الإبداعية.
لكنني وإن كنت لا أدعي بأنني سبرت أغوار نفس الكاتب وعرفت أين وكيف يصب حبره على أوراقه.. إلا أنني أزعم وبكل ثقة أنني سلطت الضوء على جانب مهم من حياة الكاتب يصلح لأن يكون موضوعاً لدراسة أوسع خاصة وأن ثمة نقاط مهمة في حياة الكاتب تؤكد بشكل أو بآخر ما وجدته في هذه المجموعة من قلقه من الموت.. ومن ذلك اختياره لمهنة الصحافة.
ولكن ما علاقة الصحافة بالموت ؟؟!!
أنا شخصياً لم أكن أعلم أن ثمة رابط بين مهنة الصحافة والموت.. لكن الصِّدِّيق نفسه والذي عمل في هذه المهنة وفي أكثر من صحيفة يؤكد ذلك بقوله : “العمل الصحفي ممتع ومتخم بالحركة والتجدد.. لكن مشكلته أنه محدود العمر.. إنه لا يعيش إلا ليتهيأ للموت”. *
ليس هذا فحسب بل إن الصِّدِّيق بودوارة كان قد تحصل على بكالوريوس من كلية الزراعة.. وكلنا نعلم أن الزراعة هي الحياة والنماء.. حيث تتحول البذرة الميتة إلى نبتة حية تبعث الحياة فيمن حولها.
إلا أن الصِّدِّيق لم يرق له ذلك.. ولم يستطع مقاومة هاجسه فيضطر إلى تغيير مساره ليتحول في نهاية المطاف إلى أستاذ في التاريخ القديم بجامعة درنة.. نعم أستاذ في التاريخ القديم حيث القبور والأطلال والحضارات البائدة والنقوش الباهتة والهياكل العظمية والمومياوات.
إضافة إلى أن الصِّدِّيق وكلما سمع بخبر وفاة شخصٍ ما يردد عبارته المعتادة (الموت لا يأخذ إلا الطيبين)
ليس لأن الشخص الذي سمع بوفاته هو طيب بالفعل بل هي محاولة من الصِّدِّيق للإساءة إلى سمعة الموت السيئة أصلاً.
وليس الصِّدِّيق وحده المسكون بهذا الهاجس بل الإنسان ومنذ بدء الخليقة لم يتوقف سعيه المحموم لقهر الموت والوصول إلى الخلود.. وإلا فما الذي أخرج الإنسان الأول من الجنة سوى طمعه في الخلود (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) [الأعراف :20].. ثم ذلك النبي الذي لم تكفه ألف عام عاشها ليصنع الفلك هرباً من الموت.. إلى ملحمة جلجامش ورحلته الشاقة في البحث عن الخلود.. إلى الصِّدِّيق بودوارة ومجموعته القصصية التي كتبها بمداد الموت وعمَّدها بسكونه ونسجها من أكفان الطيبين.. وبين كل هؤلاء لم ينقطع سعي الإنسان للخلاص من الموت حتى ولو كان ثلثيه إله.
ورغم كل المحاولات التي بُذلت للنيل من الموت.. أو التصالح معه.. إلا أنه لا يزال واقفاً في شموخ وكبرياء وصمت.. غير آبه بما يقال عنه أو ما يُحاك ضده.. غير مكترث بلعنات البشر أو تملقهم له.. لا يثنيه شيء عن مهمته الأزلية.. لا يفرق بين كبير وصغير أو بين ذكر وأنثى.. أو بين حاكم ومحكوم.
فليس غريباً أن يخرج الصِّدِّيق في نهاية المطاف مهزوماً أمام حضرة الموت.. فاشلاً في استمالته
.أو كبح جماحه.. عاجزاً عن إيجاد مهرب منه.. ليعود في نهاية المطاف ليجد نفسه قد أنتج أدباً رائعاً يخلده بعد وفاته.. تماماً مثل جلجامش الذي عاد من رحلة البحث عن الخلود خائباً ليرى السور العظيم الذي بناه فيعرف أنه خالد بذلك.
سبها 23/12/2009