المقالة

غياب الخيارات .. بين الصفر واللا نهاية!

محمد العجمي

يتداول الكثير من المهتمين بالرياضيات معلومة تاريخية وهي أن الثقافة العربية في عهد ازدهارها ثبتت المصطلح العلمي للعدد صفر، وهذا العدد قد يبدو نقاشه أمرا عاديا في يومنا هذا، لكن بالعودة إلى زمن كان فيه اكتشاف حل المعادلة من الدرجة الثانية أمرا مذهلا وهي ذات المعادلة التي يحلها اليوم طلاب الصف التاسع، يجعل تثبيت مصطلح كهذا أمرا موغلا في الإبهار.

بالطبع يجدر الملاحظة إلى استخدام كلمة (الثقافة العربية) التي استخدمت في الفقرة الأولى والتي أضحى من الضروري في الوقت الحالي مناقشة صحة استعمالها في سياق وصف حضارة تصدرها حكام عرب (في عصورها الأولى) لكن صنعتها شعوب مختلفة من مشرق الأرض إلى مغربها.

مرحلة شرح مصطلح الصفر ذاتها، مرحلة تاريخية يصعب نقاشها اليوم، فسيتداخل النقاش بين الدين والسياسة، بين العرق والتاريخ، وتختلف الزاوية حسب الرائي ووفق ما يرنو إليه طارح النقاش، وهي الفترة التي ناقش فيها المصطلح ابن خوارزم في شوارع بغداد بدعم سياسي من الخليفة المأمون.

وأهمية العدد تكمن في فكرة العدم، والتي يصعب على الإنسان تخيلها واقعيا، ففي العدم لا يوجد شيء، ولا يمكن معرفة شيء، وبالتالي يواجه خيال الإنسان العادي عقبته الكبرى في تخيل ما لن يشهده ولن يحسه، وهي المسألة التي ناقشها الفلاسفة، في كيفية قياس ما لا نحسه، وكيفية إدراكه بالتالي.

يقابل هذا المصطلح فكرة اللانهاية، وهي الضفة المقابلة للصفر في الرياضيات، والتي تشكل عموداً مهما في حساب التفاضل والتكامل، العلم الذي يعود له كثير من الفضل في تطور التكنولوجيا الحديثة وحركة المركبات والآليات، والذي على عكس الصفر ترعرع في عاصمة الضباب وبرز اسم العالم إسحاق نيوتن كأحد أهم رائديه، وهو صاحب اكتشاف قوانين الجاذبية الشهير.

وكوني ابن الشرق الأوسط، وابن جيل التسعينات، أفهم ببساطة أكثر مصطلح اللانهاية، فمدارسنا كان يخط عليها بالأخضر العريض (الفاتح أبدا)، وعرفنا فيها شعار (الأسد للأبد)، فضلا عن كل ما تعلمناه في مدارس أنظمة الأيدولوجيات القومية الستينية التي وصلتنا منهكة إبان الألفية الثالثة جعل فهم المصطلح أسهل.

لكن هذه المصطلحات حول الأبدية سرعان ما رأيناها – ونحن لا نكاد نستوعب – تُمزق في بغداد بعد عام 2003 بعد أكثر من ألف وثلاثمائة عام على تجول الخوارزمي فيها، حتى فاجئنا عام 2011، برؤية الشعارات ذاتها مصابة بالقذائف، أو محروقة في وسط الميادين، آو مخفية بكثير من الحذر والحملات الإعلامية والأموال.

هذا الاختفاء دفع الكثير من أبناء جيلي للاستحضار السريع لمصطلح الصفر، تجرهم إليه جرا هذه المرحلة التاريخية المعقدة المليئة بالأسئلة بدلاً عن الإجابات، وهم الخارجون من مدارس التلقين المحترف، لتملأ عقولنا الحيرة حول الواجب فعله، وهو ما جعل الكثيرين يفاضلون ما بين الصفر واللا نهاية.

هذا الصراع الداخلي الذي لن يجيبه إلا جيل يمتلك النفس الطويل للبحث عن الحل في الأعداد ما بين الصفر واللا نهاية رويداً رويداً، يقود اليوم جيلاً بأكمله في عقده الثالث إلى حتفه وليس وحيداً، بل الآلاف ممن لن يسعفهم حظهم في أن يوافقوا صفر الفرد القابض على بندقيته أو ميكروفونه أو حزامه الناسف، أو على الأقل أن يؤمنوا بلا نهائيته.

______________

نشر بموقع 218.

مقالات ذات علاقة

وما زال يسرق

محمد قصيبات

تلك آثارنا تدل علينا .. فانظروا بعدنا إلى الآثار

المشرف العام

لمن أسكب التهاني، وقد فاض كأس العام

المشرف العام

اترك تعليق