المقالة

لمن أسكب التهاني، وقد فاض كأس العام

إلى صديقي جيلاني طريبشان ذكريات حرجة في وداعك الأخير

حسين المزداوي

الشاعر الراحل “جيلاني طريبشان”

يضيء برق الفكرة ليذكرني بآخر ظهور وآخر مشاركة لجيلاني طريبشان، قبل أن يفقد مشط الأصحاب السن الكبيرة التي تحمي تساقطها.

كنا في مسرح جامعة درنة، تقاطرنا نستذكر قامة شاعر من شعراء الوطن، إبراهيم الأسطى عمر، الذي غرق في حب وطنه بأشعاره ومواقفه، كما غرق فيه فيما بعد بجسده وأسراره.

حضور كلاهما، ينسجنا كقصيدة بأبياتها جاءت من كل صوب وصوب.

لذلك عندما شذا الدكتور نجيب الحصادي باسم الجيلاني تسبقه جلالة حضوره الشعري والوطني، قام الجيلاني وحيداً لا شيء له أن يقدمه سوى أن ينحر ناقة قصيدته أمامنا بحاتمية مؤصلة، فهذا كل ما يملك الجيلاني، وهو كثير يا حاتم.

خرج من مكانه المنزوي في القاعة باتجاه ركح المسرح، مطأطئ الرأس كسنبلة مهمومة بحَبها، ترسم صورة المنشغل بالوطن والقصيدة والحياة.

في يده لفافة ورق يكابد ما فيها من معانٍ وأفكار .. شدتني حركة يديه وهو يؤرجحهما بحرية ظاهرة، كما يؤرجح تلميذ مدرسة المساء حقيبته بلا مبالاة .. فقد كانت آخر الدلالات، لما تبقى لجسمه أن يقدمه من سيمياءات الانعتاق ودلالات الحرية، وإن لا شيء في الجبة إلا الشعر.

كنت أتابعه من مكاني باهتمام بليغ، رغم إنه صديق قريب من القلب والروح والمكان، وقد نسجت الأيام بيننا ذكريات مشتركة أينما ذهبنا:

في رابطة الأدباء

في بيتي الصغير

في ما تبقى في طرابلس من مقاهٍ

وفي الملتقيات والأمسيات الثقافية،

تتبعت خطواته وهي تنغرز بثبات تاريخي في تربة درنة، وكأنه يقول استوصيكم بدرنة خيراً.

لا أدري إن كان الآخرون قد لاحظوا ذلك؛ فرغم جسمه الضئيل الضامر ومسحة الهدوء العميق المعروفة عنه، إلا أن حجمه الإنساني وهو يلقي قصيدته كان بحجم فضاء المسرح على اتساعه .. ومن شاهده وهو يخطو بعظمته الشعرية التي تقارع حضوره العظيم تحت أقواس مقهى الاورورا السامقة، يبحث عن كرسي صغير وسط ذاك الهشيم الذي حوله، ليهدهد القصيدة التي تريد أن تنام معه تلك الليلة على الورق.

كان صوته الهادئ يزلزل أركان الفراغ الذي كان بشكل ما ينكِّد على اللحظة الزمنية، واللحظة السياسية عسلها المتخثر بالبترول.

أنهى الجيلاني قصيدته، ورجع بهدوء كما جاء بجلال، مؤرجحاً بيديه كعسكري مؤدب، فضجت القاعة بالتصفيق كأنها تصفق لسقراط وقد خرج إليها من قرون حكمته، ثم مضى إلى قبره المندرس .

بقي الدكتور الحصادي يستحضر المشهد العميق، وهو يلملم أفكاره بهدوء صامت، ويربت على مشاعره الحرون، بين شاعر ذاهب، وشاعر آت، لم يدرِ كما لم ندر أن الجيلاني كان قد أزمع من درنة على الرحيل المر ، يلوّح بقصيدته تلك كمنديل أخير لوداع الوطن.

كما لم نكن نعلم بما تخفيه الأيام ونحن نعود أدراجنا براً من درنة إلى طرابلس، نغني ونلهج نحن والجيلاني والأصحاب بمقطع من قصيدة منسية له بأن سر تواجدنا العبقري يشبه الملحمة.

مقالات ذات علاقة

أكبادنا تمشي على البحر

صالح قادربوه

جميعا عند الجدار الأخير

عمر الكدي

الطِّيْنُ والنَّار

يوسف القويري

اترك تعليق