محمد الطياري
من لي بالأديب حسن الكرمي رحمه الله، وبرنامجه (قول على قول) الذي ظل يقدمه في إذاعة (هنا لندن) على مدى 30 عاماً حتى استقالته عام 1968، لأبعث له بهذا البيت وأسأله “من القائل وفي أية مناسبة”.
لقد أضعت وقتا طويلا أبحث عن قائل هذا البيت دون جدوى، رغم أنه بيت ذائع الشهرة، واسع الانتشار، كثيرا ما يتمثل به الكتاب في مواطن الإكبار والإجلال للرجال والدول والأمم الذين تركوا تراثا معماريا أو ثقافيا يدل على ما بلغوه من شأو وعظمة ورفعة. ولكن يا للخيبة، أقصى ما استطعت الوصول إليه تاريخيا هو أن نوح بن نصر أمير فرغانة بأوزبكستان المتوفى سنة 343هـ، بنى بماله الحلال رباطا كتب فيه:-
تلك آثارنا تدل علينا :: فانظروا بعدنا إلى الآثار
أجل، أنا أعتبر عدم توفيقي في الوصول لقائل هذا البيت خيبة، ولكن الخيبة الحقيقية هي خيبة أمتنا التي ولت ظهرها منذ زمن بعيد لتراثها العلمي والثقافي في شتى المجالات، ثم أمعنت في هجره حتى أصبحت كُتبه توصف بالصفراء سخرية واستهزاء، وحتى أصبح تناولها يدعى تأخرا والإعراض عنها يدعى تقدما، وأصبح لهذا التقدم الزائف دعاة لا يخجلون من المجاهرة به والدعوة إليه، بل ويزدادون شهرة، ويزداد المعجبون بهم من العوام والمتعالمين كثرة والتفافا حولهم، كلما زادوا تفننا في الحط من قدر هذا التراث، ونجحوا في النيل منه.
ولكنني لا أعلم أأُسرُّ أم أحزن وأنا أتصفح مجلد (النسخة الإنجليزية) لديواني الشاعرين الجاهليين عامر بن الطفيل العامري، وعبيد بن الأبرص الأسدي، والأخير هو صاحب المعلقة التي صدر مطلعها (أَقفَرَ مِن أَهلِهِ مَلحوبُ)، فهذان الديوانان اللذان تم تحقيقهما لأول مرة سنة 1913عن مخطوطتين محفوظتين في المتحف البريطاني، بلغا من الأهمية والجاذبية لدى المستشرقين أن قام بترجمتهما في ذلك الحين للغة الإنجليزية سير تشارلز ليال Sir Charles Lyall، وأن أعيد طبع مجلدهما في مطابع جامعة كامبردج سنة 1980.
ومجلد هذين الديوانين صادر عن مؤسسة جيب التذكارية الخيرية E. W. J Gibb Memorial Committee التي أسستها سنة 1902والدة المأسوف عليه المستشرق الإسكتلندي الياس جون ولكنسون جيب Elias John Wilkinson Gibb الذي وافته المنية عن عمر لم يتجاوز 45 عامًا.
ذلك أن الفقيد جيب، كان قد كرس حياته للبحث في تاريخ وأدب وفلسفة ودين الأتراك والفرس والعرب، وأن أمه المحزونة عليه أنشأت تلك المؤسسة الخيرية تخليدا لذكراه، وأوقفت عليها مبلغا طائلا من المال، وأوصت بأن ينفق ريع ذلك المبلغ على نشر البحوث التي تتناول تلك النواحي من ثقافات تلك الشعوب التي كان ابنها كلفا بها، والتي يتعذر على كتابها إيجاد ناشر يتكفل بطباعتها لكساد سوقها.
وهكذا تألفت لأجل الإيفاء بهذا الغرض لجنة تحكيم علمية من أعلام المستشرقين، تشرف على إنفاق ريع ذلك المال على مؤلفات اللغات الشرقية التي تختارها للتحقيق والنشر، وقد اشتهرت تلك اللجنة بدقتها وأمانتها في اختيار تلك المؤلفات.
وكان من حظ التراث العربي في هذه اللجنة نشر بضعة عشر كتاباً من أمهات المصادر، منها: الأنساب للسمعاني، ومعجم الأدباء لياقوت الحموي، وتجارب الأمم لابن مسكويه، والولاة والقضاة للكندي، وفتوح مصر والمغرب والأندلس لابن عبد الحكم، واللمع لأبي نصر السراج، والبديع لابن المعتز، ودواوين شعرية كثيرة منها الديوانان اللذان ذكرتهما، وغيرها من أمهات الكتب التراثية.
والمثير في هذا كله، أن تلك اللجنة رأت أن تستفتح كل كتب الثرات العربي التي تصدرها بهذا البيت:
تلك آثارنا تدل علينا
فانظروا بعدنا إلى الآثار
وبترجمته الإنجليزية:
These are our works
These works our souls display.
Behold our works
When we have passed away.
فمتى ينظر أحفاد أولئك الأجداد إلى آثارهم التي تدل على عظمتهم وبعد شأوهم في شتى المجالات، ويحيوا ما فيها من علم وأدب وفن وثقافة دينية ودنيوية حرص الأجانب على نشرها وترجمة بعضها إلى لغتهم، ويكفوا عن التهكم عليها، والتندر بما فيها من بعض المعارف والاجتهادات التي لا تتفق مع معارف عصرنا وظروفه، ولكنها كانت ملائمة لعصرهم وبيئتهم وظروفهم. أم ترى الأجنبي الغريب عن الثقافة التي أنتجت هذه الكنوز وعن اللغة التي كتبت بها أولى بها منا وأجدر؟
أقول هذا متحسرا وسائلا الله قبل الناس لهذه الأمة الهداية، متمثلا بهذا البيت من معلقة عبيد بن الأبرص المنوه بديوانه آنفا:
مَن يَسَلِ الناسَ يَحرِموهُ
وَسائِلُ اللَهِ لا يَخيبُ
وعبيد بن الأبرص هذا من جيل جاهلي لم يدرك الإسلام، عاصر امرؤ القيس وله معه مناظرات ومناقضات، ومع ذلك فبيته هذا ينضح بالإيمان، حتى أنك إذا لم تعرف قائله لتظنن أنه من نظم أحد الزهاد.
وبالمناسبة، فإن هذا الشاعر الفحل، صاحب تلك المعلقة التي اجتزئ منها هذا البيت الجميل الذي يقطر ورعا، مات مقتولا، قتله المنذر بن ماء السماء حينما وفد عليه في أحد أيام بؤسه الشهيرة، فتعسا للبؤس وللجهل، وتعسا لناشريهما وللمتمسكين بهما.