مـدخل:
لم تعرف الحياة الأدبية في بلادنا ظاهرة تكوين الجماعات أو الجمعيات الشعرية والأدبية، التي يبتغي كل منها إنجاز أهداف معينة، وبلورة نزعة أو رؤية أو حساسية شعرية جديدة وترسيخها في الواقع الثقافي، كما لم تألف ظاهرة البيانات الشعرية والنقدية التي يعتمد الشعراء والنقاد، جماعات وفرادى إلى إصدارها لهز الحياة الثقافية والأدبية وتحريكها كلما ران عليها الجمود والاستنامة إلى ما تم إنجازه (1).. ولا ريب أن غياب مثل هذه الظواهر في حياتنا الأدبية يعبر عن ضعف الوعي بأهمية المبادرة الفردية والجماعية التي تستهدف الارتقاء بالشأن الإبداعي كما يعبر من جهة أخرى عن ضعف البنية الثـقافية الليبية وهامشها الضيق المحدود في إطار تركيبة اقتصادية اجتماعية ذات طابع ريعي واستهلاكي مهيمن.
ومع ذلك لم يخل خطابنا الثقافي وخاصة فيما يتعلق بالتجديد الشعري من مبادرات فردية جريئة جاءت في صورة مقالات أدبية نشرت بالصحافة المحلية في تواريخ متباعدة استهدفت رج سكون الخطاب الشعري وسكينته بهواجس الذات والهوية والتجريب، فشكلت بذلك لحظات متوترة متوفزة في هذا الخطاب مما يجعلها أقرب إلى البيانات الشعرية بجسارتها وطموحاتها ورسالتها.. وتطمح هذه المقاربة إلى إبراز تلك اللحظات المتوترة النابضة واستنطاقها وتسليطك بعض الأضواء التحليلية عليها وتتمثل –فيما أرى- في أربع لحظات هي:
1- التجديد تقليداً، أو حداثة التقليد.
2- انبثاق الذات، أو بيانات الحداثة الرومانسية.
3- أزمة الهوية، أو هاجس الأصالة الإبداعية.
4- مغامرة التجريب، أو وعي المغايرة في الحداثة الشعرية.
وقبل الشروع في تناول هذه اللحظات المتوترة بالعرض والتحليل النقدي في ضوء منظور سوسيولوجي تاريخي، أود التنبيه إلى أن هذه الورقة تتعلق تحديداً بخطاب التجديد الشعري وليس النص الشعري، وأن هذه اللحظات لا تمثل كل خطاب التجديد الشعري والأدبي في ليبيا، ولكنها تمثل أعلى إيقاعات الصدام والاستقرار والمواجهة في روحية ذلك الخطاب.
أولاً: التجديد تقليداً، أو حداثة التقليد
لا يمثل خطاب رفيق المهدوي حول التجديد الشعري نفس الأهمية التي يمثلها شعره في ديوان الشعر الليبي، وفي التأسيس للثقافة الليبية الحديثة، فهو خطاب محدود القيمة، نظرياً ومنهجياً، ولا يعدو أن يكون صدىً باهتاً لبعض ما طرح في إطار المدرسة التقليدية الحديثة –في المشرق العربي- من دعوات تجديدية متهاودة استهدفت ترميم القصيدة العربية لا تغييرها جذرياً، ومع ذلك لا يسع أي رصد لخطاب التجديد الشعري في ليبيا أن يتجاهل البدايات الأولى للتعامل مع فكرة التجديد ذاتها في الشعر الليبي تلك البدايات التي ينعقد لواء ريادتها لرفيق دون منازع، فما هي ملامح خطابه التجديدي؟، وما علاقته بالسياق التاريخي للثقافة الليبية الحديثة؟.
نشأ رفيق ومارس الكتابة الشعرية في سياق تقاطع رؤيتين للتجديد في الشعر العربي الحديث، رؤية التقليديين، ورؤية المجددين في مدرسة الديوان والمدرسة المهجرية ثم مدرسة أبوللو، فيما بعد وقد حسم رفيق الموقف لصالح التجديد داخل دائرة التقليد، كما تعبر ن ذلك بوضوح مقالاتاه المعروفتان اللتان نشرهما عامي 1936-1937 بمجلة (ليبيا المصورة)، وتتعلق أولهما وعنوانها (الوزن والقافية) بالدعوة إلى استحداث أوزان جديدة وتنويع القافية في القصيدة تفادياً للملل والرتابة، وسعياً وراء شيء من الحرية، فيما تتعلق الثانية وعنوانها (المتجبرنون)، بموقفه من تجديد جبران خليل جبران وأسلوبه الذي يصفه بأنه (من الفرنجية أقرب منه إلى العربية)، كما يصف أكثر استعاراته بأنها (نافرة لا تلائم الذوق العربي بسبب تشبعه بالأفكار الغربية) وفي هذه المقالة الهامة يحمل رفيق حملة شديدة على من يسميهم (مقلدي جبران) في ليبيا داعياً إلى صرف الأنظار عن أسلوب جبران الذي يمثل ما يسميه (الأسلوب السوري) حاثاً على تبني (الأسلوب المصري) والاقتداء به.
تسجل هذه المقالة-البيان قلق الحساسية الجمالية التقليدي في الشعر الليبي من بداية شيوع الحساسية الرومانسية لدى قطاع حديث من مثقفي الحواضر الرئيسية الليبية في عقد الثلاثينات، كما تشير إلى بداية المواجهة مع طلائع الحداثة الرومانسية في ليبيا، ممثلين بمن يصفهم رفيق بـ(مقلدي جبران)، تلك المواجهة التي ستصل في ذروتها في عقد الخمسينات مع اشتداد عود الطلائع الرومانسية من بين ما سمي بجيل ما بعد الحرب وأحلامه الكبيرة والنبيلة في البناء الوطني.
كما تنطوي هذه المقالة على منظور ماضوي للذات بماهيتها بتقليد الفصاحة العربية في مواجهة الآخر (الإفرنجي) المختلف، أي مواجهة التماهي بين المختلف والآخر، وهو ما يعني أن أي خروج على أسس الأسلوب العربي وتقاليده الراسخة القديمة يعد مساساً بالذات أو بالهوية وسقوطاً في شباك الآخر الإفرنجي.
من جهة أخرى لا يستشعر رفيق في هذه المقالة-البيان أي تناقض أو تعارض بين جوهر ما يستنكره وينتقده وهو (تقليد) جبران، وبين جوهر ما يدعو إليه وهو (تقليد) المدرسة المصرية في الأسلوب، وكأن المسألة عنده ليست في مبدأ (التقليد) ذاته، بل في ما ينبغي تقليده.. وهنا لابد من التساؤل عن دواعي انحياز رفيق إلى مبدأ التجديد داخل دائرة التقليد بالرغم من معاصرته للدعوات التجديدية العربية الأخرى الأكثر جذرية واطلاعه عليها وعلى نتاجها الشعري؟ هل يتعلق الأمر بطبيعة المرجعيات الثقافية التقليدية التي استند إليها رفيق؟ أي بطبيعة المؤثرات الثقافية والسياسية-محلياً وعربياً- التي تعرض لها إبان مرحلة التكوين، وهي في مجملها مؤثرات تقليدية؟
لا مناص من التسليم بدور هذه المؤثرات والمرجعيات في تشكيل موقف رفيق، غير التي –مع ذلك- أميل أكثر إلى إرجاع موقف خطابه التجديدي –كما هو محدد أعلاه- إلى أسباب أعمق تتصل بمقتضيات الاستجابة لشرط تاريخي قوامه التأسيس لثقافة تعرضت للنفي والاقتلاع بعد تدمير أسسها الاقتصادية والاجتماعية تدميراً كالاً على يدي استعمار استيطاني وفاشي في آن معاً، هو الاستعمار الإيطالي وهو شرط استدعى التأسيس لثقافة الذات الوطنية من خلال التقليد، حفاظاً على هويتها الثقافية والحضارية في مواجهة رياح الطمس والنفي والاقتلاع، ولم يكن ذلك الشرط يسمح -تبعاً لذلك- بأكثر من حدود التجديد في لإطار التقليد، بخلاف مجتمعات عربية مجاورة (تونس ومصر مثلاً) تعرضت هي الأخرى للاستعمار، لكنه كان استعماراً من نوع آخر أقل شراسة وتدميرية، حيث أخضعها لسيطرته من خلال إنشاء بنية كولونيالية فيها دون أن يعمد إلى تدمير بنيتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمحلية، بل تركها وشأنها، وإن حاول تكييفها لمقتضيات نظامه الكولونيالي وقد هيأ هذا الشرط المختلف لتلك البنية المحلية أن تتطور وتتجدد –ولو بصورة جزئية وبطيئة- ووفر بالتالي لدعوات التجدد فيها المهاد التاريخي والاجتماعي، كما منحها قابلية الوجود أو التواجد وبالتالي مصداقية الفعل التاريخي وجدواه.
هكذا اختار رفيق –إذن- أن يثبت في النص الشعري والنظري التجديدي وفي الذاكرة الثقافية ما جهد الاستعمار الاستيطاني الإيطالي الفاشي لمحوه قسراً على أرض الواقع التاريخي، وأعني بذلك ماضي الجماعة وروحها كما تختزنهما لغتنا وجماليتها المستقرة المتداولة، ولموقف رفيق هذا –دون ريب- مسوغاته الثقافية في سياق شرطه التاريخي، حتى وإن أدى به –فيما أرى- إلى الانضمام بروح فردية رومانسية طالعة، بدأن منذ ذلك الوقت في التطلع إلى أفق ثقافي وشعري مغاير..
ثانياً: انبثاق الذات، أو بيان الحداثة الرومانسية.
لم ينقض عقد ونصف من السنوات على تعريض رفيق بمن دعاهم بالمتجبرتين حتى تفاجأ الساحة الشعرية والأدبية في بلادنا عام 1952ف بمقالة صاعقة للأستاذ خليفة التليسي تحت عنوان “هل لدينا شعراء” شن فيها حملة شعواء على الشعر الليبي بأكمله في تلك الفترة، نافياً عنه كل سمات الشعرية الحية الفاعلة.
ولما كان لواء الصدارة في الشعر الليبي معقوداً -آنذاك- لأعلام المدرسة التقليدية الحديثة، وفي طليعتهم رفيق، فقد بدأ واضحاً أن حملة التليسي تستهدف أساسا فلّ أسلحة هذه المدرسة، وهزّ صورتها في الذائقة الشعرية، تمهيداً لإزاحتها عن موقع الصدارة، مع أن شرر التليسي طال في هذه المقالة الأصوات الشعرية الشابة التي بدأت حينذاك في ترجيع أصداء الرومانسية العربية.
تبدأ المقالة بهذه العبارة الصادمة القاسية: “الذي أريده من هذه الكلمة العابرة هو تمزيق الستار الشفاف الخداع الذي أحاط بالشعر والشعراء في هذا البلد ثم يردفها بعد عدة اسطر بعبارة أقسى “ما ذنبي إذا كان القارئ لما ينتجه (أكثر) شعرائنا كالداخل إلى مقبرة لا يمكن أن يعثر فيها على شيء حي”، وينعى التليسي في هذه المقالة –البيان- افتقاد الشعر في ليبيا للأفق الرحب والتأمل الفلسفي والطابع الشخصي والاندماج في الطبيعة، ويحاول في تضاعيف هذه المقالة أن يقدم بعض التفسيرات لما يراه من تمرد وجمود وموات، فيرجع ذلك مرة إلى ظاهرة “التشاعر” أي تدافع “بعض الناس إلى التطفل والتسلل إلى هذا الميدان الواسع”، ويفسره مرة أخرى باقتفاء شعرائنا إلى الإحساس بالحياة “بل يذهب إلى حد وصم بعض شعرائنا” بالجهل الفاضح بلغتهم وتراثهم الثقافي الغني وبروح عصرهم”.
تكتظ المقالة بروح انفعالية سجالية حادة. وترتكز على ذاتية فردانية واثقة. وتعج بالمفاهيم والتعبيرات والتصورات التي تنتمي إلى القاموس الرومانسي، وخاصة فيما يتصل بتصور الشعر والشاعر، فالشعر “اندماج في الطبيعة” واكتشاف للآفاق “المجهولة الساحرة التي تطفئ ما نحسه من عطش روحي إلى الحقيقة الخالدة وهو غوص إلى الأسرار البعيدة الكامنة في أعماق الحياة”، أما الشاعر فهو “إنسان ممتاز نفذ إلى حقائق الحياة وعاش فيها”، وهو الذي يصلنا “بالكون في كل لمحة من لمحات ذهنه، وفي كل ومضة من ومضات فكره، وفي كل دفقة من دفقات وجدانه” وهو “الذي يفد على الكون كالشعاع السنيّ فيطلعه على صور لم يرها من قبل إنسان”. ولئن كانت مقالة رفيق التي تعرضنا لها آنفاً محاولة لتطويق بوادر الحساسية الرومانسية في ثقافتنا إبان الثلاثينات، فإن مقالة التليسي هذه جاءت بمثابة بيان تأسيسي للحداثة الرومانسية في شعرنا الليبي، بدأ من خلاله جيل مل بعد الحرب في تصفية الحسابات مع الحساسية التقليدية السائدة في الشعر والثقافة عموماً، وفي التعبير عن تطلعاته وطموحاته في تجديد ثقافة مجتمعنا وبناء دولة عصرية في بلادنا بعد تخلصها من نير الاحتلال.
ومن هنا يشكل نص التليسي هذا لحظة متوترة مهمة في خطاب التجديد الشعري في ليبيا، ويؤشر إلى تحول جديد في سياق تطوره وفعله الثقافي والإبداعي، فإذا كان منتهى طموح رفيق –الذي يمثل الحلقة الأرقى في الحساسية الشعرية التقليدية الحديثة الليبية- في خطابه التجديدي هو تقليد أسلوب المدرسة المصرية، أي اقتفاء أثر المدرسة التقليدية الحديثة المشرقية، والاقتداء بها،والنسج على منوالها فإننا سنواجه في مقالة –بيان التليسي انعطافاً حاسماً، يتمثل في هذا الطموح الوثاب إلى خلق شعر موازٍ في القوة والأصالة الإبداعية والتأثير لشعر مراكز المشرق العربي، لا مجرد الاكتفاء بتقليده.
وهكذا يدشن التليسي مسعى الشعر الأدب في ليبيا للتحول من خانة الاقتداء والتقليد، إلى خانة الاجتهاد من أجل استحقاق الندية الإبداعية مع شعر المشرق العربي، وقد استمر هذا الهاجس شاغلاً أساسيا للشعر والأدب في ليبيا إلى يومنا هذا، مشكلاً بذلك أحد أهم قوانين تطورنا الإبداعي الحديث.
من جهة أخرى تنمّ لغة المقالة ولهجتها الدافقة الواثقة على يقين فلسفي جمالي مشبع بمطلق شعري يستند إلى نموذج –مثال من مدرستي المهجر وأبول لو وليس ثمة شك في أن انشدادها إلى ذلك النموذج حد التسحاق تحت سطوته إنما يعبر عن استمرار اتكاء خطاب التجديد الشعري في ليبيا على معلمية الشرق ومرجعيته.
ومع ذلك فإن هذا النص التجديدي المثير، بقدر ما كان ممروراً من حالة الموات التي كان يستشعرها في الشعر الليبي، كان مشحوناً –في نفس الآن- بهاجس الإبداع الخلاق الذي ينطلق من المحور ليلتحم بالكون والطبيعة، إنه نص الهدم المشحون بالرغبة في البناء، ولذلك استحق بجدارة أن نطلق عليه: بيان الحداثة الرومانسية في ثقافتنا وإبداعنا الشعريين.
ثالثاً: أزمة الهوية الإبداعية، أو هاجس الأصالة الإبداعية.
في الثلث الأول من عقد السبعينيات، وبالتحديد في بدايات عام 1973، وبعد مرور حوالي عقدين من السنين على مقالة التليسي المذكورة آنفاً، شهدت خلالها حركتنا الشعرية والأدبية تحولات وتطورات متسارعة، تحل اللحظة المتوترة الثالثة في خطاب التجديد الشعري في ليبيا بمقالة حادة نشرها بجريدة الأسبوع الثقافي الشاعر والكاتب المرحوم (سعيد المحروق)، تحت عنوان (ظاهرة الاستلاب في ثقافتنا المحلية)، يرصد فيها ما أسماها بظاهرة الاستلاب الثقافي التي يعاني منها شعرنا وأدبنا الليبي الحديث في عمومه تجاه الشعر والأدب في المشرق العربي، ضمن حالة يراها أقرب إلى التقمص والتماهي منها إلى التأثر والاقتداء.
يشير المحروق في هذه المقالة-البيان إلى قانون التفاوت في النمو بين مراكز الوطن العربي وبين أطرافه فيقول: (هناك جغرافيا ثقافية تسود المنطقة العربية، أسوة بجغرافيتها الطبيعية، هناك المشرق الأستاذ، وهناك المغرب التلميذ).حتى إن الأخوان في المغرب الأقصى كانوا أول من تحدث عن عملية الاستلاب هذه وسموها هناك بظاهرة الاستلاب، ثم يقول: مازلنا مريدين أزليين للشرق الرائد، لازلنا نشعر جميعاً بان أقصى ما نطمح إليه هو أن نحتذي نموذجاً في مشرقنا الأستاذ ونقلده تقليداً جيداً.. وينتقل بعد ذلك القول “لابد أن اقرر بأن حركتنا الثقافية الحالية لم تكن سوى رجع صدى..إذ في قصتنا ما لو حذفنا منها أسماء الأماكن والأشخاص التي توحي بمحليتها لما أصبحت بعد ذلك سوى نسخة محرفة لنموذج مصري أصيل! أما القصيدة عندنا فليست بأحسن حالاً من القصة.. ماذا أقول؟ بل أن حال قصيدتنا أكثر مدعاة للرثاء ” ويضيف “ليس من السهل على كل من مغامر أن يترك بصماته على ما يظنه شعراً؟؟ قد (يسطو) على القاموس الشعري لأحد الشعراء النماذج، ويستطيع أيضاً أن يسطو على الإيقاع والتكنيك الشعريين لأحد هؤلاء النماذج، ولكنه لا يستطيع أن يفعل غير ذلك.. بلى لم نفعل شيئاً غير أن قمنا بتقمص البياتي وعبد الصبور وغيرهما.. لم يفعل شعراؤنا غير أن قاموا باستبدال لفظ بلفظ آخر موزون عليه حتى لا يتهموا بضبطهم متلبسين بتهمة السطو العلني، وإن كانوا في الحقيقة متلبسين بالسطو على الجوهر والذات، على الطابع الأساسي الذي يتسم به الشعر “ثم يعمد المحروق إلى التنظير لدلالات هذه الظاهرة فيقول: “تبدو عملية الاستلاب تجاوزاً للواقع، مما يعني اعتداء على الواقع، ولا يمكن أن يكون النتاج في نهاية الشوط سوى ترفاً إن لم يكن ثرثرة. والكاتب قد لا يكون نهباً للاستلاب بمجرد تجاوزه للواقع، بل سيكون مستلباً حتى وهو ينظر فيه، حتى لو خُيّل إليه أنه واقعي “ويخلص من كل ذلك إلى تحديد الاستلاب بأنه “نتاج لانعدام القاسم المشترك بين الذات الفردية (الكاتب) وبين الذات الجماعية (المجتمع).. وهو عجز عن الانطلاق من الواقع، عن التوفيق بين ذات الكاتب والذات الجماعية” ويبدو من خلال بعض التلميحات الدالة التي تضمنها هذه المقالة –البيان وخاصة الإشارة إلى البياتي وعبد الصبور كنماذج يتقمصها الشعراء الليبيون، ثم الإشارة إلى “من يخيل إليه أنه واقعي”، أن المقصود أساساً بالخطاب إنما هو ما عرف بالشعر الملتزم في إطار الرؤية الواقعية، أو ما عرف – في مصطلح آخر- بجيل الستينات في بلادنا.. وهو ما يجعلنا نخلص إلى اعتبار هذه المقالة – البيان بمثابة مساءلة نقدية ونظرية صارمة لجيل الستينات في بلادنا بشعرائه وقصاصيه ونقاده، رغم أن بعض أحكامها وطروحاتها تسري على ما سبقه من أجيال شعرية وأدبية.
وهي بذلك تعد شكلاً من أشكال تصفية الحساب مع جيل الستينات، من جهة ومؤشراً لبداية تحول جديد في الرؤية والتطلع إلى تحقق إبداعي من جهة أخرى، على أيدي جيل جديد هو جيل السبعينات.
وعلى الرغم مما يبدو على بعض أفكار هذه المقالة وأسلوبها من تفكك واضطراب وما يبدو على بعض مفاهيمها من تشوش وابتسار، فضلاً عما شاب اتهام المحروق للنتاج الشعري والأدبي الليبي من حدّه انفعالية ونزعة إطلاقية منعت ذائقته من تلمس ما في ذلك النتاج من عطاء ينطوي على مستويات متفاوتة من الأصالة الإبداعية بين مبدعينا أنفسهم –أو على الأقل بعضهم- وفي إطار تجربة كل منهم على حدة، أقول: على الرغم من كل ذلك فإن جوهر طرحه النظري التقويمي في هذه المقالة –البيان لم يخل من صدق مقالة التليسي آنفة الذكر وطموحها في الهدم والبناء. وكان يمكن لطرح المحروق أن يؤتي أكلاً أنفع وفائدة أبقى لو أنه اتجه إلى رفده بالتحليل النصي المقارن الذي يتقصى مواطن التقمص والاستلاب المدعاة في الشخصية الشعرية الليبية لمثيلتها المشرقية. غير أن المحروق لم يكن يجتاز على صبر التليسي ومثابرته وجديته كما بدت في دراسته المتأنية لرفيق، إذ لم يتجاوز المحروق حد الطرح المبدئي، وحتى حين عاد لاستئناف معالجة هذه المسألة الهامة والحساسة في أواسط عام 1976 طرحها بانفعالية أشد، مس خلالها مساً شخصياً موجعاً تجربة الأديب المرحوم “عبد الله القويري” كدور ومكانة، مما آثار بعض الشكوك لدى كثير من المثقفين حول نزاهة طرح المحروق في هذا الشأن، وانعكس بالتالي سلباً على طبيعة استجابتهم له وتفاعلهم معه.
ومع ذلك تقتضينا أهمية طرح المحروق وحساسيته أن نتساءل: ما هي المشاغل والهواجس الأساسية التي انطوت عليها مقالته؟ وهل مست عصباً موجعاً في الثقافة الليبية؟ وما هو دورها أو تأثيرها في تطور خطاب التجديد الشعري في بلادنا؟ أعتقد – وأنا أحد شهود تلك المرحلة، بل وأحد أطرافها المعنيين بالتجديد الشعري –أن أهمية طرح المحروق تكمن أساساً في كونه يكاد يختنق بأسئلة الهوية الإبداعية الذاتية في تعامله مع النتاج الشعري والأدبي الليبي، صحيح أن ظاهرة التتلمذ على نتاج أدباء المشرق وشعرائه بدأ يشكل مصدراً للاستهجان النقدي لدى بعض الكتاب والنقاد وفي مقدمتهم الأستاذ خليفة التليسي، منذ بداية الخمسينات، إلا أن الأمر في طرح هذه المسألة لم يكن بالحدة والصرامة والتوتر التي بدأ بها في خطاب المحروق. ولئن كان المحروق يشترك مع التليسي في الامتلاء بالطموح الحاث على إبداع شعر ونثر ليبي يكون نداً لشعر المشرق ونثره، لا مجرد صدى لهما، إلا أنه يختلف عن التليسي في طبيعة المرجعية التي يستند إليها كل منهما.
فلخطاب التليسي –كما ذكرت سابقاً- مرجعيته ونموذجه الإبداعي الأمثل الذي يقارن به ويقيس عليه، وأعني بذلك مدرسة الديوان على المستوى النظري، ومدرستي المهجر وأبوللو على صعيد النص الشعري، أما خطاب المحروق فلا يلتفت أو يشير إلى أي نموذج جاهز، بل ينطق خطابه النظري بالخصومة الحادة لفكرة النموذج –المثال ذاتها، التي يصم بها الحياة الشعرية والأدبية الليبية في عمومها، لكونها تشكل تخارجاً عن الذات، ووقوعاً في أسر الاقتداء والتقليد. وما من مرجعية في خطاب المحروق –استناداً إلى مقالته المذكورة أعلاه –سوى مرجعية الذات الإبداعية، التي لا تتعين في الذات الفردية وحدها، ولا في الذات الجماعية، بل في نقطة التماس أو التقاطع بينهما، وكأني بلحظة الذات الإبداعية في منظور المحروق تشكل مركباً جدلياً لكل من لحظة “الذات” الجماعية لدى رفيق، ولحظة “الذات” الفردانية لدى التليسي.
هكذا يحقن المحروق خطاب التجديد الشعري والثقافي عموماً في ليبيا بوعي الهوية الإبداعية، مضيفاً إلى أبعاد ذلك الخطاب الجمالية والنقدية بعداً إشكاليا فلسفيا يعمقه ويثريه ويحفزه على ولوج منعطف جديد.
ويبدو لي إن انشغال المحروق اللافت ـ منذ بداية السبعينات ـ بهذا الهاجس , يعبر عن مستوى من مستويات وعي الجيل الطالع ـ آنذاك ـ وهو ما أصبح يعرف ـ فيما بعد ـ بجيل السبعينات ، في أعقاب هزيمة يونيو الفاجعة التي شرخت لديه صورة الواقع والماضي وهزت ما تستند إليه تلك الصورة من ثوابت ومطلقات ، بما في ذلك اهتزاز سطوة المراكز في الثقافة العربية المعاصرة ، حيث دخلت هذه الثقافة برمتها ـ وفي طليعتها الشعر ـ في أزمة خانقة تظافر على تكريسها وتعميقها تراجع حركة التحرر الوطني العربية وتعثر مشروعها ـ إن لم نقل فشله ـ في التحرر والتنمية والديمقراطية أمام ثقافة الاستهلاك والاستبداد والتبعية.
ومن هنا فان طرح المحروق في هذه المقالة يشكل محاولة لإعادة بناء الوعي الإبداعي أو إعادة تأسيسه انطلاقا من سؤال الذات أو الهوية الإبداعية بحسبانها الحصن الأخير واليقين الأدنى في مواجهة التراجعات والانهيارات .
وتتكامل مع هذا الأساس الأولى لخطاب الهوية الإبداعية محاولات في التنظير الجمالي والشعري لعدد من مبدعي جيل السبعينات استهدف تخليص النص الإبداعي من هيمنة الأيديولوجي ـ دون إزاحته أو إسقاطه كليا ـ كما استهدفت شحذ لغة الكتابة ، والتعويل أساسا على التجويد الفني والأصالة الإبداعية في التجويد والتقويم الشعريين.
رابعاً: مغامرة التجريب، أو وعي المغايرة في الحداثة الشعرية.
اللحظة المتوترة الرابعة في خطاب التجديد الشعري في ليبيا تمثلها مقالة لأحد ابرز ممثلي جيل الثمانينات ، وهو الشاعر مفتاح العماري تحت عنوان ” فعل الإبداع والحداثة ـ تجليات تجربة الشعر العربي في ليبيا ” وهي مدرجة في كتاب صدر له مؤخرا بعنوان “فعل القراءة والتأويل”.
تعد هذه المقالة بمثابة بيان يستهدف الإعلان عن الحساسية الشعرية الجديدة المغايرة لدي جيل الثمانينات في ليبيا ، وارتيادها مغامرة التجريب، وانشغالها باليومي والهاشمي، وامتياحها من العابر والبديهي والجسدي ، فضلا عما اتسمت به الأصوات الشعرية المعبرة عنها من تنوع ثري، وتمايز ظاهر فيما بينها .وإذ يحرص العماري في هذه المقالة على نفي أية صلة أو علاقة بين وعي جيله الشعري وبين تجربة الجيل الذي سبقه في الساحة الشعرية الليبية ، فانه لا يشير إلى أية مرجعيه في رسم ملامح ذلك الوعي وتكوينه ، وكأني بالعماري وبعض زملائه الليبيين يتحرجون من التعرض لهذه المسألة حرصا على عدم المساس بأصالتهم الإبداعية ، أو على الأقل ظاهر منها، تماما كما لا تمنع ظاهرة التناص توفر مساحة ـ في النص الجديد ـ للإضافة والتميز وحتى المغايرة .
يتفادى العماري أذن الخوض ـ غافلا أو عامدا ـ في مسألة مرجعية تكوين جيل الثمانينات الشعري في ليبيا، الأمر الذي يمنحنا شرعية طرح التساؤل عن مصدر تلك المرجعية وأصولها بعد أن نفي عنها أساسها المحلي . فهل هي تتمثل في التحولات الجذرية التي انتابت القصيدة العربية المعاصرة منذ بدء الثمانينات كاستجابة لفاجعة السقوط المربع الذي انتهت إليه تجربة الحداثة السياسية والاقتصادية والعلمية العربية كما عبرت عنها وجسدتها ما سمى بأنظمة التحرر الوطني العربية مما أفضى ـ على المستوى الشعري ـ إلي مزيد من المصداقية والاستحقاق لطروحات واستراتيجيات التيار الحداثي الذي أرسته مجلة شعر اللبنانية إبان سني الستينات، ثم جدت ظروف السقوط المشار إليها لتمكن هذا التيار من اكتساح الساحة الشعرية العربية بأكملها، ولتضع الحداثة الشعرية العربية بمختلف تياراها ومشاربها أمام سؤال حاسم: أما المضي في مغامرة الحداثة إلي ابعد مدى، وأما التراجع عنها أساساً في عملية أشبه بديناميات النكوص ؟ وهل يمكن قراءة تجربة جيل الثمانينات الشعري في ليبيا بمعزل عن هذه التحولات العربية الشاملة في الواقع والنص ؟ .
نترك هذه التساؤلات وما يتفرع عنها من قضايا ومسائل ليس هنا مجال في تفاصيلها ، ونعود ألي المقالة التي يعلن فيها العماري عن ملامح تجربة جيل الثمانينات الشعرية على خلفية استعراض تقويمي نقدي للتجارب الشعرية المعاصرة في ليبيا، حيث يمر مروراً سريعاً بتجربة القصيدة التقليدية الحديثة وإمداداتها، ثم يتوقف وقفه متأنية نسبياً أمام تجربة جيل الستينات ، راصداً بدقة وهدوء ملامح هذه التجربة ومحدودية ما أسهمت به من تحديد ، وتأثرها بشعر المشرق ” من جراء الكتابة تحت ظلال بعض الشعراء المشارقة ، مثل السياب والبياني ونزار قباني وصلاح عبد الصبور ” مشيرا إلي ما اقترنت به مفاهيم وطنية وقومية وسياسية نضالية ، وفقا لمفهوم الالتزام ” مما قلص مسألة الاهتمام بتجديد انساقها الفنية ، وبصورة خاصة ، تشكلاتها اللغوية فبدت وكأنها تأنس إلي أنظمة شكلية جاهزة ” فضلا عن خضوعها لترسبات سلفية تجعلها مشدودة إلي ذاكرتها الشعرية ” الأمر الذي أعاق هذه التجربة ولم يجعلها تمارس حداثتها بوعي راسخ وحقيقي “.
ويقدم العماري ، في سياق تناوله هذا الجيل ، استثناء واحدا ، هو الشاعر “علي صدقي عبد القادر” الذي يعتبره يمثل ظاهرة محيرة ، ولا سيما بعد تحوله في العقدين الآخرين إلي تقديم نمط شعري لا مرجعية له إلا وهو ……. متجها بالقصيدة إلى أقصي حدود السريالية والغرائبية ، مما يدفع العماري إلي القول: “بان معرفة الحداثة الشعرية في ليبيا ينبغي إن تبدأ أولا بقراءة علي صدقي عبد القادر”.
وإذا كانت تجربة جيل الستينات قد حظيت ـ من العماري ـ بتحديد دقيق ومتسق، فان تجربة جيل السبعينات لم تحظ بنسق الدقة والاتساق . ويرجع ذلك ـ فيما يبدو لي إلى انه يعتبرها مجرد امتداد كمي لتجربة الستينات، فهي في نظره ” قصيدة الحس القومي والنضالي ..قصيدة المنشور السياسي الخاضعة لتواترات مقولات الالتزام والمقترنة ” بأدوات وأشكال جاهزة مما جعلها تظهر كتكرار لصدى تجارب شعرية لامعة مثل محمود درويش ومظفر النواب، إضافة إلى بعض أسماء شعراء الجنوب اللبناني ” منتهيا إلى إنها ” اقتصرت علي المحاكاة والتقليد من دون إن تقترح إضافة شعرية إلى تجربتها، لأنها اعتمدت علي أشكال شعرية جاهزة، وتنغيمات إيقاعية مبتذلة.
نلاحظ هنا ـ أولا ـ إن العماري لا يرى حدوث أي تغير في الوعي والحساسية والإنجاز في تجربة جيل السبعينات مقارنة بجيل الستينات .بل إن توصيفه المذكور في الفقرة أعلاه وهو ينطبق حرفيا علي معظم شعر جيل الستينات ينسف أصلا إطلاق مصطلح الجيل الشعري علي الأصوات الشعرية التي ظهرت في السبعينات طالما لم تأت بأي جديد يذكر!؟.
ونلاحظ ـ ثانيا ـ إن مسالة الصدى لشعر المشرق لا تزال تشكل شاغلا وهاجسا في خطاب التجديد الشعري في ليبيا إلى درجة الانجراح والإدمان .وهو الشاغل الذي رأيناه يبدأ استمراء وتطامنا عند رفيق ، ثم يتحول إلى استنكار عند التليسي ، ثم لم يلبث أن اصبح جرحا غائرا في خطاب المحروق .ولا ندري كيف سيكون موقف الجيل الطالع إزاء جيل الثمانينات ونصه وإزاء هذه المسالة برمتها .
وعلي الرغم من إن العماري يشير ـ أثناء تعرضه لتجربة جيل السبعينات إلى ثلاثة استثناءات يحددها في : الجيلاني طر يبشان ، والسنوسي حبيب، ومحمد الفقيه صالح، منوها بعطائهم الشعري وما يتميز به من سمات وخصائص فانه ـفيما يبدوـ يعتبر هذه الاستثناءات تجارب فردية لا تشكل متن جيل السبعينات، بل هامشه .والحل أن هذه الأصوات الشعرية الثلاثة المذكورة ( وأنا اعتقد إن هناك أصواتاً أخرى يأتي في مقدمتها : سعيد المحروق وعلي الرحيبي ونصر الدين القاضي وإدريس الطيب) إذا كانت تمثل ـ في مجموعها بإسهامات متفاوتةـ خروجا علي ما عرف بقصيدة الستينات، بات من الإنصاف حسبانها تجربة جيل شعري جديد لها إضافاتها واجتهاداتها في الانفكاك من استقطابية القصيدة المشرقية بدرجة اكبر مما حققه جيل الستينات (أو جيل 57 كما يسميه الناقد احمد الفيتو ري) وفي هذه الحالة يتعين الإقرار بمساحة تتسع وتضيق بطبيعة الحال من الإنجاز والأصالة الإبداعية للأصوات المذكورة أعلاه كجيل شعري له تكوينه وإنجازه وإسهامه . تلك المساحة من الأصالة الإبداعية التي لا يمكن تجاهلها في النص السبعيني أو خلطها بالمزيف والمغشوش في زحمة الفوضى الشعرية التي لا تخلو منها أية مرحلة أو جيل . إذ درج الأمر في بلادنا ـ بل وفي معظم أو كل البلاد العربية ـ علي إن يسري في الجسد الإبداعي ويسود كميا الوسطى الجاهز المبتذل، لكن العين المدربة علي الرؤية الحادة الدقيقة لا تعدم أن تتحسس نبض التحول وإيقاعه وملامحه في قلب هذا السائد النمطي.
خـلاصة..
هذه –فيما أرى- هي اللحظات المتوترة الأربعة في خطاب التجديد الشعري في ليبيا التي تمثل خروجاً جريئاَ عن السياق الشعري والثقافي السائد، ومن هنا فإن قيمتها لا تكمن في تفاصيل منطوقها النظري والمفاهيمي بقدر ما تبدو فيما زرعته –وتزرعه- في الساحة الشعرية والأدبية من قلق وتوتر وأسئلة.
ويظهر من خلال تأمل تواريخ هذه اللحظات –النصوص أن هناك ملامح دورة زمانية شبه منظمة تفصل بين ذلك لحظة ولاحقتها في مدى زمني متوسط قدره حوالي عقدين من السنين، وهي أعوام 1936-1937-> 1952-> 1973-> 1995، الأمر الذي يعزز أحد افتراضات هذه المقاربة وهو أن هذه اللحظات-النصوص لا تعبر عن رؤى وتطلعات إبداعية لكتابها فحسب، بل تمثل كذلك رؤى وتطلعات أجيال إبداعية متعاقبة، حيث شكل كل منها مؤشراً واضحاً لتحول حاسم في الحساسية الشعرية والرؤية الإبداعية.
وعلى الرغم من الروح السجالية التي تتصف بها هذه اللحظات-النصوص في خروجها على السياق الشعري والثقافي السائد، وتركيز كل لحظة منها على شاغل أساسي يقلقها ويحركها، إلا أن هناك هاجساً أساسياً عاماً ينظمها جميعاً ويشكل المجرى العميق فيها، وأعني به الموقف الإشكالي من مرجعية النص الشعري المشرقي ونموذجيته، سعياً وراء تعزيز الهوية الإبداعية المحلية المتميزة في إطار الإبداع الشعري العربي الحديث.
غير أن ما يلفت النظر في مجمل هذه اللحظات التجديدية هو نزعتها التعميمية الطاغية ورفضها القطعي الذي يشارف تخوم العدمية للسائد الشعري الليبي وكأن كلاً منها (والثلاثة الأخير على وجه التحديد) يسعى إلي إنبات الرؤية الشعرية والإبداعية الجديدة بعد تحويل السائد-بكل ما ينطوي عليه من تباينات ومستويات إبداعية- إلى حطام وأنقاض، في وضعية تذكرنا بآليات قتل الأب –رمزياً- كوسيلة لحضور الذات وتأكيدها، فباستثناء لحظة التأسيس التي يمثلها رفيق، اندفعت اللحظات على السائد الشعري ورفضه إلى حد القطيعة بحيث استهدف كل منها إعادة تأسيس جذري للإبداع الشعري الليبي دون الإقرار بأي تأسيس إبداعي فعلي سابق أو الاستناد إليه.
ولئن أدت هذه اللحظات التجديدية المتوترة وهي كما ذكرنا لحظات قطيعة بالأساس- دوراً ثقافياً تاريخياً ملموساً في إيجاد مهاد نظري لبروز كل جيل شعري إلا أن غلبة ذلك الطابع التعميمي والنزوع العدمي على تلك اللحظات في التعامل مع السائد الشعري قد حرمها من إمكانية استنطاق اللمعات الإبداعية الشعرية الأصيلة، في كل مرحلة، أو لدى كل جيل، وتخليصها من هيمنة ركام المفتعل والمزيف والمغشوش، لا سيما أن كل تلك اللحظات (النصوص) المقالات تشير في كل مرة غلى وجود “قليل أصيل” في الإبداع الشعري الليبي، دون أن تكلف نفسها مؤونة الوقوف أمام ذلك “القليل” وتأمله والتأسيس عليه، وبذا حرمت النص الشعري الليبي –والإبداعي عموماً- من إمكانية المراكمة وبلورة ملامح خاصة له في إطار الخريطة الشعرية العربية الحديثة، بل أن هذه العدمية طالت حتى إمكانية التفاعل الخلاق بين خطابات لحظات التجديد ذاتها، فلم يشر أي منها إلى ما سبقه، ولم يؤسس –بالتالي- على أي حوار أو قاسم مشترك معه.
________________________
مجلة الفصول الأربعة/ تصدر عن رابطة الأدباء والكتاب الليبيين/ السنة: 21/العدد: 87/التاريخ: 4/1999/ تصدر كل ثلاثة أشهر