حلقة اللا متناهي في البعد الواقعي !!
انتابني شعور بازدواجية التفكير عند قراءتي لأولي قصص أحمد يوسف عقيلة في مجموعته (الخيول البيض) انطلاقاً من التطابق الواقعي المجسم في قصصه كتلك الرؤي المكثفة المنبعثة في مرابع صِبايا في المدينة القديمة بطرابلس، والمتعانقة مع الأجواء التي عشت فيها قرابة السنة وبعض السنة في (البيضاء). هذا التطابق والتمازج الحسّي بين الواقعين أدخلني في إشكالية الفصل بينهما من حيث التأثير علي نفسي كقارئ لنصوص أحمد يوسف عقيلة، والذي أتوقف عند قصته (الرُّؤْيا) عندما يقول (في قريتنا ينظرون إلي كل شيء بارتياب، الرعد، البرق، نواح الريح، عواء الكلاب كل شيء من الممكن أن يكون نذيراً للعنة القادمة) هكذا يجسم القاص ذلك الخوف المبثوث في أعماق القرية مع كل ما هو غير انسيابي وخارج عن الهدوء الذي تتمتع به القرية عادة، هذا الشعور الذي يجسمه الفعل في أقصي بقعة من الأرض الليبية، وفي القرية بالذات، وما نراه يعتمل بالمقابل في زقاق المدينة القديمة بطرابلس بكل المقاسات كعاملٍ للخوف من المجهول المشارك في الحسّ والتفكير والمندرج تحت فعل الطبيعة، والحيوان، ثم الإنسان، الخوف الأبدي المسيطر علي النفسيات في حلقات متسلسلة لا تنفصم، هكذا ينقل لنا القاص الخوف بدرجاته المتفاوتة والمتعددة لدي النخبة والعامة في أطراف مجتمعنا.
ومن خلال هذه اللوحة التي اكتملت في نصه، أوقدت في ذهني تلك الخطوط القائمة لشبح امرأة عارية تجوب زقاق سيدي سالم بالمدينة القديمة بطرابلس في كل ليلة ظلماء، لتتطابق مع مضمون النص الذي أتي به القاص في نصه (صفحة 8) بعضهم أكد أنه شبح امرأة.. وبعضهم كان أكثر حزماً بأن الشبح كان لامرأة عارية تجري في الظلمة وسط الأدغال، حتى أن الكلاب لاذت بالرعاة تتمسح بها خوفاً. هذا التطابق في رسم خطوط الحدث الإبداعي، لم يأتِ من فراغ بل هو عملية شحذ لذاكرة المبدع وتنقلها من مكان إلي آخر لتجسم ذلك التطابق للمحكيات عبر الوطن الواعد وحتى الوطن الكبير! وليحقق بذلك البعد المتكامل لقدرة الإنسان علي مواجهة أية انفعالات تخرج عن نطاق القدرة علي مقاومة الشر.
إن الذي يؤرقك عند قراءة نصوص القاص أحمد عقيلة ذلك الاستخفاف بالزمن الذي يتداخل في تركيبات متعددة الاتجاهات ليفرد فيه قدميه متأملاً ذاتيته من خلال حسّه الإنساني ليغدو موجات منتظمة متواصلة في حلقة لا منتهية في بعدها الواقعي، حتي تجهد نفسك للبحث عن الاستدارات وفساحة الدوائر في معمارها. لذا لا أجد غضاضة في القول بأن مساحة النص أوجدت البناء القائم علي قاعدة يراد منها أن تكون صلبة لتأكيد الذات في المستقبل بلغة معبرة وجمل قصيرة دالة، ومضمون باعث علي التشكيل والتوضيب للمستقبل الإبداعي للقاص علي الرغم من جنوحه المتميز في بعض من قصصه إلي التورية التي أصبحت الشغل الشاغل لكل مبدعي النص القصصي في الوطن العربي، وهو مالا نلاحظه في بلاد الغرب حيث أن الثوابت الإبداعية ومكوناتها لديهم تنطلق من منطلقات احترام الرأي الآخر، واحترام الذات في الوقت نفسه، هذه التورية والغموض في نصوصه القصيرة علي الرغم من ضروريتها في الوقت الراهن لأنها تخدم صلب المضمون، ولا يدخل ذلك ضمن التعتيم للنص كما يصنف بعض النقاد هذا المنحي الإبداعي. كما أنني أري هذا التفسير (إذا جاز التعبير) عنصراً جمالياً، لا يذهب بجماليات العمل الإبداعي، بل يؤكد بكثير من حرية التعبير رفض مبدأ القاعدة التي يتشبث بها النقاد بأن الغموض، والرمز، والتورية، تذهب بهذا الجمال، مستنداً في قولي هذا علي رأي الروائي جبرا إبراهيم جبرا بما ورد في كتابه (الحرية والطوفان) لتأكيد حرية الكاتب ورفض القواعد، لأن الالتزام بها يجرد الحدث من تفاصيله التي تكثف اللحظة الإبداعية، وهو غالباً ما يرتكز بالدرجة الأولي علي نواصي اللغة، وليس قوالبها، هذا الوعاء الذي يضم كل الأساسيات المتراكمة من مراجعة النفس، والاستبصار، وتحديد الأولويات ضمن واقعية منطلقة من ذاكرة المبدع.
ويعتمد القاص في الغالبية العظمي من مجموعته علي أسلوب الحوار بضمير المتكلم تارة، والغائب تارة أخري، كما يعتمد التدخل أما للتوضيح، أو تغيير مسار الحدث وتعديله بالقدر الذي يخدم النص الإبداعي. ويحاول القاص بالجهد المتواصل أن يوصلنا إلي قناعة بأن أفعال العباد تخالف ما يضمرونه في أعماقهم، فهم في صورتين نري واحدة، وتتواري الأخرى بكثير من الذكاء والخبث في آن واحد، وقد يصل بنا الحال لتقديس هذا النفر انطلاقاً من الحكم البين لأنظارنا!!
لقد أشعرني في قصته (الرٌّؤْيا) بأن الإنسان هو الإنسان مقاسه وحجمه واحد لا يتغير مهما زُين بمسحة الورع والتقاء فالإنسان يبقي ناقصاً باحثاً عن ذات نفسه ليكيّـفها بالذي يعتقد أنه الحق، لقد وصل في مقارنة جد مؤكدة بأنه لا فرق بين ذلك الذي شُق قبره وبين الشيخ، فالفعل واحد لايفصلهما إلا الزمن البعيد!.
(مسح الشيخ علي لحيته، أخذ يبلع ريقه، وهو يتأمل الصدر الصاعد الهابط، تململ شيء كامن في الأعماق، صرخ، عوى، انطلقت قوة هائلة، اشتد الوجيب، تدفق الدم في العروق، ارتعش، تعالت أنفاسه، شعر بأن لحيته تسوّد).
وكأنه بهذا يريد أن يقول لنا أن الإنسان في حد ذاته كائن تحكمه نوازع متباينة لا نستطيع رؤيتها بالعين المجردة، ولكنها هناك كامنة ستهب في أية لحظة سانحة، (إذن خلاصة القول، فالإنسان هو الإنسان ذاتٍ معذبه بين كثير من الشر والقليل من الخير فلا تندهش).
أقول إن القصة أداة وصل منمقة لعواطف ظاهرية مادية وهي انعكاس لإشباع المصالح الذاتية البحتة للإنسان الذي خلقه الله عز وجل في أحسن تقويم ، ثم ردّه أسفل سافلين ، وهذا أما أراد أن يقوله المبدع أحمد يوسف عقيلة باقتضاب!!.
وقد لا يغرك هذا المنهج في التفكير القاص، فهو شديد الارتباط بقضايا أكثر عمقا بالوطن، كما هو بالمواطن، وأكثر بحثا عن ذاك القبس من الحرية والانطلاق الذي يتمناه، وعادة ما يأتينا ذلك في صيغة تهكمية استفزازية، لتلك المقدرات التي يلبس جلبابها أولئك الطامحون والمتشبثون بالخيول البيض (يقولون إنها خيول كثيرة، يسوقها سائس بلباس أبيض، وبيده سوط طويل نسمع له فرقعه)، (ويقولون أيضاً أن من يري الخيول البيض يحقق كل أمانيه).. (ويتزوج بمن يشاء).
ــ كم أتمني أن يتزوجني أحد الرعاة!!
ــ إذا تزوجك الراعي فلن تكوني في حاجة إلي رؤية الخيول البيض!).
لا أدري لماذا مرَّ بخاطري وأنا اقرأ هذه القصة المعنون بها المجموعة، قصة أخري قرأتها من خارج المجموعة أكثر سخرية قساوة علي الواقع، هذه القصة المعنونة بـ(الساعة) قد تلتقي مع هذه في الهدف والمضمون وتختلف معها في الأسلوب الذي كتبت به!!.
نقول إن البناء القصصي عند أحمد يوسف عقيلة يعتمد علي الحد الأقصى من الصرامة عند التعامل مع النص، كما يقودنا ذلك إلي تفحص الشرائح الصغيرة وتفاصيلها الجزئية التي تكمن وراء الحدث الجمالي والإجمالي، ونلاحظ وبكثير من الأريحية المنبثقة من داخل المبدع تلك البساطة التي يقع في دائرتها والتي تغوص عمقاً في عالم من الرؤية المجازية المتداخلة. إن ما يشد انتباهك هو ذلك التمحور المتحلي ضمن الخصوصيات المتعانقة مع الواقع المعاش مطلا بمزاجه من دون أن يتخلي عن حيثيات أحلامه المتشعبة وعبر هذا المسلك المؤدي إلي الاتجاه الصحيح للتأثيرات الإيقاعية التي تخاطب الشعور الخارجي من قبل تخاطب الوعي. ومن أهم الادوات التي يرسخ استعمالها المبدع عقيلة، هو ذلك التأكيد الجازم لجزئيات الحياة لإثبات قدرته العملية علي استخدام عنصر المزاجية المحضة للحصول علي إدراك روحي عالي القدرة علي تشخيص الفعل الإبداعي للحدث وهذا ما يقدمه في قصته المعنونة (الهدهد)، كل ذلك ينبع من حاجته الملحة إلي رؤية خاصة يحاول فيها أن ينفصل عن القطيع بالذاتية التي تحفظ له هويته الجماعية، ولكنها تمنحه نكهة التميز عن الآخرين!.
ومجمل القول أن القاص علي الرغم من محاولاته المتعددة لخلق كيان ذاتي متمحور حول نفسه إلا أنه لا يحاول مطلقاً الخروج علي وشم القبيلة، من حيث التعلق بتلك الثوابت التقليدية لذلك المنحي الأسطوري الذي يتمازج مع ذلك الكم الهائل من المسلمات في كيان الموروث الشعبي، الذي ينطلق من الرقعة المرسومة بعناية وبجهد ضمن فسيفساء البناء والشكل لذلك التراكم التاريخي في مجموعته المبني علي الذاكرة المتوارثة والمكيفة بعنصر الزمن المتتالي.
وأخيراً اقرُّ للقاص أحمد يوسف عقيلة بقدرته الفائقة في وضع التواريخ لقصصه، فأنا أنوء بنفسي علي أن يطاوعني قلمي لكتابة التاريخ لأي نص قصصي أو خلافه، لاقتناعي بأن عصر الفجاجة، والتعهر، والابتذال، سوف لا يخطئ فيه حتي الكفيف، لأن لا رائحة له ولا مذاقاً مميزاً، حتى الحجارة الصماء البكماء إذ سألها سائل سترشده عن بدايته، وليس نهايته، لأن النهاية من الصعب تحديدها مادامت الرموز قائمة.
_________________________
صحيفة الجماهيرية/ الملحق الثقافي/ العدد:3742 / التاريخ:19-20/07/2002