في العام السادس والسبعين من القرن العشرين، كانت بنغازي تقود صراعا حادا ضد السلطة، كانت قد تحولت إلى حاضنة للرفض كما كانت عبر تاريخ ليبيا الحديث، كانت أغنيتها الجديدة “شهر يناير هل جديد” قد أخذت تتردد بين الطلاب، مذكرة بيناير الستينيات، بعد أحداث يناير 1976، وكانت أشعار الشلطامي قد أخذت تظهر من جديد وتكتب على الجدران، كان ثمة من يحاول جسر هوة أخذت تتسع بين عقدين هامين من التاريخ الوطني في ليبيا هما عقد الستينات وعقد السبعينات.
كان المناخ البنغازي قد تحول إلى مناخ لقول الذات والتعبيرعن الآمال والأحلام وحتى الإحباطات، ربما لم يكن ذلك التعبير شديد الصراحة، كان يتم على خجل أو بالأحرى على خوف.
أن تقول المرأة ذاتها وأن ترفع صوتها، خاصة بالغناء، كان أمرا لايزال إذ ذاك صعبا ومخيفا بالنسبة لها، لذا كان ذاك الصوت صوتا مسربا، كان صوت بنت الثانوية الذي أخذ يتناهى إلى أسماع بنغازي ويثير شجن شبابها وفتاياتها وربما ضيق وحنق آخرين سريا ومسربا كبيان من تحت الارض.
“يا نجومن في الليل عوالي” كانت تلك هي الأغنية التي تسربت من مدرسة بنات ثانوية في بنغازي في العام السادس والسبعين من القرن العشرين، كان يصاحب صوت مغنيتها بيانو وكان صوتها طليقا عاليا ومتفاخرا بالقول “هو ريدي هو زهوة بالي”.
كان الخطاب للنجوم كي تسمعه الأرض، وكان مد حرف “الألف” في “عوالي” سر ذاك البوح الأخاذ. لم تكن “عوالي” من الكلمات التي تتردد من قاموس الشعر واللهجة البنغازية كثيرا قبل بيان تلك البنت، كانت البنت قد عثرت على الكلمة الممتدة كسهل فسيح والمرتفعة كجبل يناطح السماء لتعلن بها بيانها وترفع عبرها صوتها الواثق.
من عثر على تلك الكلمة؟. لا أحد يعرف، من لحن تلك الأغنية المسربة في “كاسيت” من مدرسة بنات ثانوية والأهم من كانت تلك البنت؟. أسئلة لا أعرف إجابة عنها.
“عوالي أعاد كتابتها الشاعر” فرج المذبل “وغتاها “إبراهيم فهمي ” وانتشرت الأغنية عربيا دون أن يعرف أحد صاحبتها الأصلية، تلك التي أطلقت صوتها محملا بالشجن والحزن وأيضا بالتحدي “عوالي”.
الأغنية الثانية التي سربتها تلك البنت ولم تنتشر أو تعرف كـ “عوالي” كانت “قولوا لامي يادوحاني .. عدا لامريكا وخلاني” كانت بنفس الشريط وسجلت في نفس الجلسة وبنفس الصوت، ولكنها نسيت رغم ما حملت من لوعة وحسرة، ربما لأن المذبل وفهمي لم يتوليا نشرها وتوصيلها، لتظل منسية رغم أنوثة ورقة ولوعة “يادوحاني” تلك المفردة الشعبية قليلة التردد في الشعر والغناء، ربما ذاك الاستسلام والترجي اللذين كانت تفيض بهما، جعلاها تتوارى وتترك النجوم لـ “عوالي” .
بنت الثانوية البنغازية تلك لابد أنها في الستين الآن على الأقل من عمرها ولابد أنها رأت وتابعت كلمتها المذهلة “عوالي” وهي تطير عبر الآفاق وتحط في قلوب كثيرة، وربما ظلت هي بعيدة وقريبة في آن من كل ذلك منتصرة بكلمتها وحزينة لأن كلمتها وصوتها ورغم كل شيء ماعادا يخصانها، فلسنا نملك فننا، بالضبط كما لانملك أبناءنا إن غادروا الحضن والبيت، فما بالك إن غادروا كل البلاد.
____________
نشر بموقع بوابة الوسط