المقالة

المصراتي القلب والوجدان

محمد أحمد الزوي

الذكرى الأولى لرحيل شيخ الأدباء علي مصطفى المصراتي

الكاتب علي مصطفى المصراتي تصوير: فتحي العريبي.

أستاذي ومعلمي، نعم…

راية ترفرف فوق سماء وطني؟ نعم.. رائد من رواد الثقافة والأدب؟ نعم… عاشق لمدينة أحبها؟ نعم.

مسافر مع المعرفة لا يعرف له محطة؟ نعم.

أحبه؟ نعم.

إذا هل لديكم الاستعداد لقراءة ما ينبض به قلبي لا ما يسطره قلمي؟ 

فأنا لا أكتب عن هذا الإنسان الذي يحمل اسم علي مصطفى المصراتي والذي كان يجب أن يكون اسمه علي مصطفى الطرابلسي أو الليبي أو العربي… أنا لا أكتب عنه بقلمي ولكنني أحاول أن أصوغ من نبضات قلبي كلمات عنه… فهل لديكم وقت لتسمعوا نبضات قلبي من خلال هذه الحروف البسيطة؟

حاولوا أن تجدوا وقتاً.

العاشق:

إذا أخرجنا الأستاذ علي مصطفى المصراتي من دوائر الأدب والفن والثقافة، وأخذناه كإنسان عادي فهو رقيق عاطفي فيه كثير من الشفافية.

سريع البديهة صاحب نكتة لاذعة تزرع الضحكة داخلك رغم أنها تسبب لك ألماً بسيطاً في بعض الأحيان إذا كانت هذه النكتة تقصدك. 

خفيف الروح يوزع مشاعره الحلوة على الجميع.

يعشق الأجواء الشعبية.

يحب الناس البسطاء ويعشق حياتهم وأمثالهم وحكمهم الشعبية. 

فيه وفاء نادر وخاصة للذين ساهموا في تطريز سماء ليبيا بالنجوم المضيئة (راجع كتاباته «نماذج في الظل»). 

لم يمتط أحد مراكب الموت وله أثر في الحياة العامة إلا وكان المصراتي مؤبناً له. 

لا يغضب ولا يثور إلا عندما يشعر أن بعض الفارغين يتطاولون على نماذج أعطت ومنحت وفتحت قلبها بسخاء لموجات الإبداع والفن.

علي مصطفى المصراتي تحبه من أول لقاء. 

ولكن احذر فهو لا يسلم نفسه بسهولة. 

إنه شديد الحذر وبلا سبب في كثير من الأحيان!!! ولأسرق الصورة الشعرية الرائعة لشاعر المستقبل مفتاح العماري والتي تنطبق على حذر أستاذنا المصراتي:

(وحيداً أركض كما لو أن البروق أحذيتي).

حامل المفاتيح:

لم يترك علي مصطفى المصراتي مجالاً أدبياً أو فنياً أو ثقافياً أو اجتماعياً أو تاريخياً إلا وكتب فيه سواء تحولت هذه الكتابة إلى كتب مطبوعة أو دراسات أو مقالات موزعة على صفحات المجلات والصحف في الوطن الصغير والوطن الكبير.

وأنا هنا لا أقيم كتاباته ولا أناقشها.

ولكني أريد أن أقول أنه رضوان حامل مفاتيح الجنة. 

المصراتي يحمل المفاتيح ويفتح الأبواب على مصراعيها : بالأقفال ويرمي البحر.

وما أروع من يدلك على الأبواب.

ولكن ما أعظم من يفتح لك الأبواب ويجنب الصراع معها ومع أقفالها القديمة الصدئة.

وأغلب الذين حصلوا على الألقاب العلمية من الجيل الجديد كان الأساسي معاناة وأبحاث وصبر علي المصراتي وسهر لياليه. مفتاحهم

العدو:

عدو لاحتكار الثقافة. 

الثقافة عند المصراتي ليست حكراً على أحد.. الثقافة للناس جميعاً. الإبداع موهبة وعطاء ومعاناة وولادة ومتعة يودعها الله داخل قلب من يشاء.

لكن الثقافة القراءة الاطلاع ،الفهم الكتاب، التجربة الإنسانية التي تشكل جزءاً من الثقافة كل ذلك حق طبيعي للجميع. البشر. 

ومهما امتلأت السماء بالضباب فلا يجب الثقافة عن أن تحجب الثقافة عن البشر.

في عهد الإدارة البريطانية دخل المصراتي السجن لمواقفه الوطنية فما جرحه السجن بقدر ما كانت فجيعته أنه لا يوجد كتاب واحد في السجن.. ومن حق السجين أن يتعلم وأن يقرأ وأن يشرب من ينابيع والثقافة ولو كان في زنزانة كالحة السواد.

عندما خرج المصراتي من السجن جمع ما يمكن جمعه من الكتب وعاد إلى السجن حاملاً صناديق الكتب ربما ليؤسس أول مكتبة ثقافية تعرفها السجون في ليبيا.

وكان مدير السجن يومها ضابطاً إنجليزياً.

ترى أي مشاعر اجتاحت هذا الضابط الإنجليزي أمام هذه اللمسة الحضارية التي تمثل الرقي الإنساني بمضامينه الحقيقية؟ 

لقد هز هذا الرقي الإنساني قلب الضابط الإنجليزي الذي كان يعتقد أنه حامل مشعل الحضارة الأوروبية، فكتب رسالة يحيي فيها المصراتي السجين السابق لديه بتهمة حب الوطن والدفاع عن حريته.

لا تقترب:

كريم حتى آخر درهم. 

لا يبخل على محتاج. 

ولا يرد سائلا…..

في بداية دخولي إلى المجال الأدبي وكنت صغير السن إلى حد ما كنت ألتقي معه صدفة، اسمه لامع كمرآة، مصقولة وهيبته تملأ المدينة، واسمي لم تتشكل حروفه بعد.

كان يأخذني من يدي ويدلف بي إلى أقرب مطعم، والمصراتي من عشاق المطاعم الصغيرة التي تقدم المأكولات الشعبية الشهية، وتمتلئ المنضدة بالأكل.. فتنهمر شهيتي ويتدفق هو بالحديث العذب.

وحتى عندما اجتاحنا الزمن وكبرنا وجمعتنا الملتقيات والجلسات الشحيحة كان يرفض بعناد طفل أن تمتد يد بدفع الحساب غير يده.

ولهذا يطوف البخلاء من الأدباء والمفلسين بفنادق المدينة ومقاهيها بحثاً عن المصراتي ليستمتعوا بقهوة لا يدفعون ثمنها ونكتة يضحكون لها وحكمة يستفيدون منها، ولكن احذر مرة أخرى..

إنه كريم حتى آخر درهم.

ولكنه بخيل حتى النخاع فيما يخص مكتبته بداية من الكتاب إلى آخر مقتنياته الثقافية والفنية.

والمصراتي يملك مكتبة نادرة لا أعتقد أن أديباً ليبياً يملك مثلها. فكن حذراً في هذه النقطة.. ولا تقترب حتى من الحديث عن مكتبته.

الطربوش:

خطيب ساحر يقتحم داخلك فيستنفر فيك كل طاقات الحماسة التي يمكن أن يحملها إنسان.

منذ أن كان والدي رحمه الله عضواً في المؤتمر الوطني إبان حكم الإدارة البريطانية وأنا أعرف هذه الصفة في الأستاذ المصراتي.. في المؤتمر الوطني شيء اسمه شبيبة المؤتمر الوطني، وكان والدي حريصاً على اصطحابي للمؤتمر رغم طفولتي.. ومن حجرة الشبيبة كانت أصوات المناقشات السياسية تصل إلينا صاحبة أحياناً، خافتة أحياناً أخرى… ولم أكن أميز منها سوى صوت علي مصطفى المصراتي رغم عدم فهمي لما تعني هذه المناقشات نظراً لعمري الطفولي.

ولا يمكن أن تنتزع من ذاكرتي رغم طفولتي في عهد الإدارة البريطانية مشهده في ميدان الجزائر والجماهير متلاطمة يندفع من قلبها صراخ الحرية للوطن وهي تحمل المصراتي فوق الأكتاف يلهبها ويحرضها ويشعل الدماء في عروقها فتهتف من أعماقها ليبيا ليبيا ليبيا.

كان في ذلك اليوم إن لم تكن ذاكرتي قد التهم الزمن خلاياها يلبس طربوشاً.. وكان (الطربوش) يومها له وجود في طرابلس.

الحب:

أنا أحب علي مصطفى المصراتي منذ أن تفتحت عيناي على ثقافتنا الوطنية ولا تمر مناسبة أو حديث إلا وحب هذا الرائد يملأ وجداني ولم أكن أعرف أن ثمة من يرصد حبي الدافق إليه..

حتى تلقيت رسالة من أستاذنا وصديقنا علي فهمي خشيم واسمحوا لي أن أنشر مقتطفات منها لأن المصراتي يأخذ حيزاً منها أو قل لأنها كتبت من أجل المصراتي.. واعذروني إذا كان الأستاذ علي فهمي خشيم بقلبه الكبير قد خصني بجزء من وجدانياته الرفيعة..

طرابلس 15. 8. 1984م

الأخ العزيز محمد أحمد الزوي.

ثلاث دقائق من الزمن كانت…

ثلاث دقائق لا تزيد في مدخل قاعة الشعب» عند الدرج الأيسر، أنت والأستاذ المصراتي وأنا، وكنت البادئ بالسلام والكلام. رأيتك في تلك الدقائق الثلاث تتحدث منفعلاً، فرحت عمّني سرور دافق. أحسست بمحمد الزوي الذي أعرفه منذ زمن بعيد محمد النقي الصافي الصادق الزوي الصريح الرقيق المحب، تذكرت في لحظة كل ذلك العالم القديم الذي عشناه معاً. تذكرت محمد الزوي بحركته السريعة وكلماته الدافئة الدافقة بالمودة وهو يطوف من مكتبة إلى مكتبة يختار كتبه ومجلاته وجرائده المفضلة.

تذكرته وهو يلاحق بروفة مقالة له تذكرته وهو يبتسم ويضحك وينكت ويداعب، والأهم أنه يُحِبّ ويُحب. لحظة صدق أخرى أذكرها لك، يوم وقفت أمام قائد الثورة تذكر رفاق رحلتك تذكر عطاءهم، وعدد ما قدموا، يومها قبلتك فقد رأيت فيك محمد الزوي الذي عرفت منذ زمن بعيد، سمعتك لثلاث دقائق تتألم من أجل الأستاذ المصراتي كانت لحظات فضلت العودة إلى الذكرى يا الله يا أخي محمد كم تغيرنا وكم تبدلنا.

افتقدت ذلك الحب العارم الذي كان يضمنا بجناحيه الأبيضين وتلك المودة التي كانت تغلفنا. تناثر العقد وانفرط ولم يبق سوى القبح ،والبشاعة لكن تلك الدقائق القصيرة التي فاض فيها وجدانك بحب المصراتي ودوره في حياة وطننا أكدت لي أن هناك جمالاً روحياً رفيعاً ينسيك القبح والبشاعة، متع الله الأستاذ المصراتي بالصحة والشباب.

ولتبق أنت يا زوي لمسة الحب الدافئة في أعماقنا العطشى للحب. 

وستبقى تلك الدقائق الثلاث التي تحدثت فيها عن الأستاذ المصراتي ثابتة ثبوتاً أبدياً، فقد كشفت لي الكثير وعشت معها وفيها وبها. رات من العمر طويلة، لك المودة. 

علي فهمي خشيم

اكتشفت أنني لست وحدي الذي أحب علي مصطفى المصراتي، اكتشفت أن في كل قلب يحب هناك حيز خاص لأستاذنا المصراتي.

طرابلس يا حبي

علي مصطفى المصراتي يمثل جزءاً من ملامح مدينة طرابلس.

ولا أتصور طرابلس بدونه..

كل الأحياء تعرفه.

كل المقاهي تعرفه وأحب أن أشير بالذات إلى أشهر هذه المقاهي “قهوة عبدالله” ففيها عرفناه أكثر ورأيناه أكثر وشربنا على حسابه أكثر، وأخذنا من علمه أكثر، وكان وهو جالس ينفث دخان النرجيلة يثير ضحكاتنا بأسلوبه الساخر وسرعة البديهة التي يتميز بها. 

كل المطاعم بينه وبينها عيش وملح.

بصماته في كل المكتبات.

صدى صوته في كل القاعات.

روحه الشفافة في كل معرض فني.

دفء قلبه في كل المسارح.

فيض قلمه في كل المجالات والدوريات.

لاختصر وأقول إنه لا يمكن تصور مدينة طرابلس بكل عوالمها الصغيرة والكبيرة بدون علي مصطفى المصراتي…

وأعود لأسرق التعبير الشعري البديع للشاعر مفتاح العماري بتحريف بسيط (يركض كما لو أن البروق أحذيته).

هكذا هو كما عرفته وتعرف شوارع طرابلس إنساناً بسيطاً ومبدعاً صادقاً جوالاً لا يعرف السيارات ولا أنواعها ولا قيادتها ولكنه وهو يركض في مدينة طرابلس كان يعرف ميادينها وشوارعها، وأزقتها المتربة، وأرصفتها التي أكلها الزمن، وكان يعرف أكثر ناسها البسطاء الذين يتزاحمون على المخابز والحافلات والمقاهي الشعبية. 

وفوق ذلك كان يملأ صدره بعبيرها الفواح عبير الناس والفل والياسمين والحب الذي يشتغل وراء كل الأبواب المغلقة في المدينة. 

وهل كان يمكن لراكبي السيارات الفخمة والجالسين على الكراسي الوثيرة داخل المكاتب المكيفة أن يعرفوا من خلال سياراتهم ومكاتبهم ومناصبهم وثرواتهم ونفوذهم مدينة طرابلس كما عرفها هو والبروق أحذيته والأرصفة والمقاهي مكتبه والناس البسطاء نبض قلبه.

ويا حزن وتعاسة طرابلس إذا لم يكن المصراتي ابنها الصادق المحب الودود المتواضع الشامخ، لأنها بدونه كانت ستصبح لوحة باردة محددة الجاذبية، ترى هل تعرفون حزن السماء إذا لم توجد الشمس والقمر والنجوم. 

والمصراتي قمر طرابلس في ليالي صيفها البديع.

والمصراتي نجم طرابلس في سمائها المتألقة.

والمصراتي شمس طرابلس في إشراقتها الخلابة.

وسيظل المصراتي محفوراً منقوشاً مرسوماً منحوتاً في وجدان طرابلس شمساً وقمراً ونجماً.

وحزمة من الفل والياسمين وهرماً من الأدب والفن والعلم والثقافة والحب.

ضوء الحرية:

إذا كانت الجزائر الشقيقة قد توقفت يوماً وراجعت الذين ناضلوا من أجلها من خارج الشعب الجزائري نفسه صاحب الأرض والقضية..

لو فعلت الجزائر هذا لأطلقت على أحد أبرز ميادينها أو شوارعها اسم علي مصطفى المصراتي.

لقد كانت قضيته الكبرى التي خاض غمارها بكل ما فيه من عنفوان الحماسة والخطابة والإحساس القومي والنضالي من وهج كلماته في المؤتمرات الشعبية التي كانت تعقد من أجل نصرة شعب الجزائر وحقه في الحرية والاستقلال عرفنا الجزائر، وعرفنا تاريخها وعرفنا قضيتها، وعرفنا أسماء زعمائها.

وكان في اجتماع شعبي بشارع أبي الخير أول من وقف بحماسه القومي يحذر من الخلافات التي بدأت تظهر بين زعماء الجزائر عندما بدأت ملامح الحرية تتشكل خيطاً فخيطاً في الأفق البعيد.

يا شعب الجزائر العظيم، عندما ترفع رأسك عالياً إلى السماء وترى نجوم الحرية تطرزها، تمعن قليلاً بنظرك وحينها ستقرأ اسم المصراتي محفوراً في قلب نجمة تضيء وطنك بأحلى وأغلى الأضواء ضوء الحرية.

الوجدان:

الأستاذ المصراتي أول كاتب ليبي يقدم لي كتاباً من تأليفه ممهوراً بإمضائه وكان عمري وقتها خمسة عاماً عشر ومع الإمضاء كلمات رقيقة فيها تشجيع على القراءة ودعوة للسباحة في نهر الإبداع.

عندما كنت مسؤولاً عن النشر، جمعنا قصصه ونشرناها في مجلد ضخم وحرصت على أن أقدم له أول نسخة بنفسي، ويومها لم أشاهد علي مصطفى المصراتي ولكني شاهدت طفلاً فرحاً مزهواً يشعر بأنه يمتلك الكون بأسره. 

لم أسافر معه لأنني لا أحب سفر المهرجانات والندوات واللقاءات والوفود.. ولكن الذين سافروا معه لا يحدثونك عن البلد التي زاروها ولكنهم يحدثونك عن المتعة التي عاشوها في رفقة على مصطفى المصراتي.

عندما جاء ظرف تركت فيه مسؤولية أمين رابطة الكتاب والأدباء والفنانين حل الأستاذ المصراتي مكاني. وكان اسمي موضوعاً على مجلة الفصول الأربعة كمشرف عام عليها، أصر على بقاء اسمي كمشرف على المجلة ولم يضع اسمه عليها أبداً حتى خرج من رابطة الأدباء.

ويبقى علي مصطفى المصراتي منقوشاً في القلب والوجدان رائداً ومعلماً وكاتباً ومبدعاً وإنساناً، ومن حق ليبيا أن تزهو وتفخر وتعتز لأن لها ابناً باراً اسمه علي مصطفى المصراتي.


مجلة الفصول الأربعة – السنة الثانية عشرة العدد (58) فبراير (النوار) 1992م.

المصدر: عبدالله سالم مليطان (هذا هو المصراتي)، المؤسسة العامة للثقافة، 2009م.

مقالات ذات علاقة

حكاياتٌ ثقافية مُصابة بالدهشة والرشح!

أحمد الفيتوري

الزهايمر والكُتّاب – الجزء الأول

محمد قصيبات

فسيفساء وطن

حسن أبوقباعة المجبري

اترك تعليق