تكتسب قصيدة الشاعر علي صدقي عبدالقادر خصوصيتها وتميزها من بساطتها في تناول الفكرة المطروحة وإلقاء المزيد من الضوء عليها , وتجدر الإشارة هنا إلى أنها غالبا ما تكون الفكرة على صلة وثيقة بمفردة الحب الذي يرتكز عليها جل شعره باعتبارها مدخلا رئيسيا لقصائده , كما تتميز القصيدة عنده بسلاستها الظاهرة وحتى بسذاجتها التي تكاد تقترب من سذاجة الطفولة وعفويتها ونقاءها وعبثها الجميل وهي تطرح أسئلتها المصيرية ببراءة بالغة وبنبرة حالمة , حاملة في تضاعيفها البديل الأمثل لإشكالات الحياة المزمنة , وبداهةً البديل هو الحب بمعناه الإنساني الشامل , ناظِراً إلى العالم من حوله بعيني الطفل المنتفض بداخله , الطفل الشيخ الخارج من جلباب الإيقاع المُعلن الذاهب بعيداً في طريق التجريب , مُعولا على إيقاع القصيدة النفسي وموسيقاها الجوانية غير عابئ بما يقع خارجها على عادة الشعراء كبار السن , متحسسا وقع الحياة العصرية بوتيرته المتسارعة نراه يطرح عنه الشكل التقليدي للقصيدة قافزا كفراشة رشيقة من زهرة إلى أُخرى في حديقة التجربة , ويبدو أحيانا كعازف منفرد , ناصعة نغمته وسط سيمفونية النشاز , ويُشرع غير وجل في نثر فوضاه المحببة في أنظمة القصيدة وعبثه الجميل بكل بناءاتها الكلاسيكية المتوارثة , ليعيد ترتيبها وفقاُ لمشيئة خياله الجامح , محتشدا بدهشته البكر , مُنصتا فقط إلى دبيب المغامرة بداخله , مستنداً على التجديد في هندسة معمارها مستأنساً برفقته الطويلة لها , فهو يضرب بعرض الحائط كل التصانيف الممكنة وتحت بند اللا تصنيف يُكثف قصيدته ويقولها بسهولة وسلاسة مثلما يعيش ومثلما يتنفس كما ينفض عنه كاهله كل همومه ويتجاوزها إلى أُفق الحب , متملصاً من كل توصيف مُطعِماً فسيفساء قصيدته بتراكيب جديدة وبصوره الشعرية العجائبية التي تفتح احتمالات للتأويل لا نهاية لها , مضيفا عليها مزيد من البهاء والتشويق , وبصمت مُهيب وبهدوء قاتل يُفجر قنبلته الشعرية , لتتوالد أسئلتها الحارقة بذهن المتلقي , غير منتظرا المثوبة والجزاء ممن يتفاعل بالإيجاب مع قصيدته , ودون إقامة أي وزن لمن لا تروق له القصيدة , وبكل عفوية يقول قصيدته \ كلمته ويمضي بسلام .
وتتصف الكثير من القصائد الطموحة التي يكتبها الشاعر بقصرها الشديد واقتصادها في المفردات , مع احتفاءها بعنصر المفاجأة بذات الوقت , وكالبناء الدرامي المتصاعد تحتفظ بمفاجأتها حتى كلماتها الأخيرة وتهب سرها وفتنتها مع جملتها الشعرية الختامية إذ توجز وتُكثف , وقد تأخذ القصيدة سمة القصة القصيرة جدا حين تستوفي كافة شروط بناءها عن غير وعي من الشاعر الذي يكون منشغلاً بمشاغباته الطفولية عند كتابتها فيتداخل السرد بالشعر ويزول الحد الفاصل ما بينهما .
وبطريقة مختلفة تماما عن كل من كتب يتحدث عن أمه في قصائده , وبشكل مغاير يهمس إلى فاطمته عبر القصيدة ذاتها وبذات البساطة يستحضر أشياءه الحميمية ويستدعي التفاصيل الصغيرة إلى مقاطعه الشعرية ويراكمها , المنديل , الوردة , التفاحة , الوسادة , الطوق , الأسورة , القرط , قهوة الصباح , الضفائر , ليبيا , المرأة , الشمس , لُعب الأطفال , الرغيف , النخلة , البحر , الرمل , ويُشركها بحيوية في تفعيل القصيدة مُخلصاً أبداً لمفردات حياته الرئيسية , عشق الحياة , والحب والسلام والأنوثة وليبيا , بأدوات مستعادة من مناطق طفولته القصية بعفوية كاملة , بعيدا عن الأدعاء والأستعراض والتصنع , ما يحيل هذه القصائد إلى مرآة عاكسة لذاته , بقصيدته ” قال الحجر ” يقول الشاعر :-
سمع الكلب نباحه سأل عن هذا الصوت الكريه
قال الحجر هذا صوتك , إن كنت لا تدري
دار الكلب حول ذيله مرتين ثلاثا ولم يصدق الحجر
حط عصفور ورفيقه بالغصن , غنى لها أغنية حب
ونبح الكلب ثانية , ليس صوتي إذهب عني , طلب من العصفور أن يدله عن كيف يكون صوته جميلا : لا تقتل لا تشرب الدم لا تأكل اللحم يكون صوتك جميلاً .
قصيدة تحث على المحبة والود , فيها من الرمز الشيء الكثير , عبر تقنية الحوار الذي يدور بين الكلب والعصفور والحجر مما يستدعي حالا قصص كليلة ودمنة التراثية , أيضا من خلال تقنية الرمز ذاتها يقول الشاعر الكثير على لسان المخلوق الضعيف ” النملة ” مُمثِلا صوتها الواهن بصوت الحق الضائع وسط ركام الباطل وضجيج الحياة , حيث يتساءل في قصيدة ” صوت النملة ” قائلاً :-
لِمَ يا نملة صوتك ضعيف لا أسمعه : قالت صوتي عالٍ بحجم الرعد لكن أنتم لا تسمعونه : لأنكم حشوتم آذانكم بضجيج السوق وصليل السلاسل وطرق الحدادين وجلبة الإصطبلات وخصام المحاكم وقعقعة أقفال أبواب السجون وصراخ المجانين : أفرغوا آذانكم من كل هذا الفضلات الكريهة , تسمعونني .
هكذا بسرد لا لبس فيه .
يلجأ الشاعر كذلك إلى الجماد والرمز المعنوي أحيانا للنطق بحكمته التي تنفرد به كما في قصيدته المعنونة ب ” النار الغادرة ” التي جاءت على هيئة قصص قصيرة جدا , وخلاصتها ان الكل يحاذر النار ويبتعد عنها الشيء الذي جلب الكثير من الحزن إلى النار وبعث الألم في نفسها حتى بكت للمرة الأولى في حياتها وعندما تهاطلت أدمعها مدرارا انطفأت , أي تطهرت من سمة الشر المتصفة بها .
هذا بالنسبة للقصائد أما فيما يخص الشاعر ذاته فيبدو للرائي كقصيدة حب تدب على قدمين , وهو يجوب دروب حبيبته طرابلس وينفض قطرات الندى عن أزهارها الوسنى ويوقظ عصافيرها الجذلى , يطرق أبواب الحلم مع كل فجر جديد , محيياً فيها الأبواب والجدران والأشجار وبقايا سهرة البارحة قطعة الحصير وإبريق الماء المنكفئ والرماد الراقد في جوف الكانون وبراد الشاي الحزين وقد انفضّ من حوله السمّار وبضعة أنفاس لا زالت تردد في جنبات المكان , ومُنصِتاً إلى نداءها الصباحي البهي , الصلاة خير من النوم , مُحدِقاً في الآتي بعيون حالمة وقلب طافح بالمحبة , يوزع حلوى ابتسامته الحانية وعسل سلامه الرائق على الجميع دون استثناء , مختطفاً بين الحين والآخر نظرة إلى وردته الحمراء ذات الجذور التي تنتهي في قلبه والمكتسبة من نسغ دمه حمرتها ونضارتها الدائمتين , واثقاً لا يتردد شاعرنا بضرب موعد لمحبيه بالألتقاء بعد مليون سنة وكأنه مدين للجميع بالحب نراه مبتسما على الدوام يرد التحية ويرحب بالجميع كبيرهم وصغيرهم وبحميمية بالغة وبأبوية لا مثيل لها وبفرح طفولي طاغٍ , حتى وإن كان لا يعرف محييه معرفة شخصية ولم يراه يوماً , ولا أتردد أنا في استعارة لازمته وعبارته الأثيرة التي تلخص فلسفته في هذه الحياة لأختتم بها هذه المقالة ” يحيا الحب ” .