إِنَّ الرَّبِيعَ يُمْرِعُ أَوَّلًا فِي نَفْسِ الشَّاعِرِ، وَالشَّاعِرُ – هُنَا – بَيْنَ رَبِيعَاتٍ ثَلَاثَةٍ، رَبِيعُ الفَرَحِ يَنْبُضُ فِي أَعْمَاقِهِ، وَرَبِيعُ الأَرْضِ يَنْدَلِعُ مِنْ حَوْلِهِ، وَرَبِيعُ القَصِيدَةِ يُزْهِرُ فِي وِجْدَانِهِ.
وَبَيْنَ حَيَاتَيْنِ مُتَبَايَنَتَيْنِ يَقِفُ الشَّاعِرُ، مُدِيرًا ظَهْرَهُ لِلْجَدَبِ والمَحْلِ وَالبَوَارِ وَالمَوَاتِ، مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ عَلَى الحَيَاةِ الضَّاحِكَةِ، عَلَى دُنْيَا الفَرْحِ وَالْأَمَلِ المُونِقِ المُخْضَوْضِرِ، فَقَدْ كَاَنَ يَقَفِ عَلَى شَفَا جُرْفٍ َهَارٍ، عَلَى بَقَايَا حَيَاةٍ شَقَّقَهَا الجَفَافُ القَتُولُ، وَجَعَّدَهَا الجَدَبُ الأَكُولُ، وَمَضَغَتْهَا ضُرُوسُ السِّنِينَ العِجَافِ؛ بَعْدَ رَمَادَاتٍ أَوْدَت بِالزَّرْعِ وَالضَّرْعِ، غَيْرَ أَنَّ مَقْدَمَ المَطَرِ ظَلَّ مَقْرُونًا بِالبُشْرَى، مَحْفُوفًا بِالْبَهْجَةِ، مَغْمُوسًا فِي عَسَلِ المَسَرَّاتِ. وَالشَّاعِرُ محمَّد حامد الشَّيخي يَرْصُدُ لَنَا هَذَا التَّغْيِيرَ المُذْهِلَ بِهَذَا المَطَرِ المُنْقِذِ، التَّغْيِيرَ مِنَ المَحَلِ، إِلَى الرُّوَاءِ، مِنَ العَطَشِ إِلَى الارْتِوَاءِ، مِنَ المَوْتِ إِلَى الحَيَاةِ بِتَفَاصِيلِهَا المُدْهِشَةِ المُنْعِشَةِ.
يَقُولُ الشَّاعِرُ مُهَلِّلاً لِحُضُورِ المَطَرِ المُحْيِي، مُنْتَشِيًا بِغِيَابِ العَدَمِ، مُغَنِّيًا لانْتِصَارِ الحَيَاةِ عَلَى الفَنَاءِ:
رونق بعد طول قَرْنَةْ أجدابه * تراكم سحابه * واشبوبه خبط فيه صَيـَّمْ اترابه..
إِنَّ الَّذِي أَخَذَ رَوْنَقَهُ وَاَزَّيَّنَ وَانْتَعَشَ هُوَ الوَطَنُ، هِيَ الأَرْضُ، هوَ المَكَانُ الَّذِي يَحْتَوِي الشَّاعِرَ وَيَحْتَوِيهِ، وَقَدْ وَقَفَ يُرَاقِبُ تَرَاكُمَ السَّحَابِ بعضَهُ فوقَ بعضٍ، قَبْلَ أَنْ يَهْطِلَ مَطَرًا، وَيَسِيلَ أَوْدِيَةً، وَتَصُومَ بِهِ الأَرْضُ، وَتُونِقَ بِهِ الحَيَاةُ ربيعًا عميمًا، فَيَنْشُرُ الشَّاعِرُ فَرْحَهُ بِحُضُورِ المَطَرِ بَعْدَ انْقِطَاعٍ، بِعَوْدَةِ الحَيَاةِ الَّتِي يُمَثِّلُهَا الرَّبِيعُ النَّاشِئُ عَنْ هَذَا الشُّؤبُوبِ بَعْدَ أَنَّ سَقَى الأَرْضَ العَطْشَى حَتَّى ارْتَوَتْ، حتَّى صَامَتْ حَافِظَةً المَاءَ على وَجْهِهَا، لِتَعُودَ لِلْأَرِضِ الحَيَاةُ، لِلْإِنْسَانِ وَالحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، لِتُبَثَّ فِي الْحَيَاةِ الحَيَاةُ، يُعَادُ لَهَا رونَقُهَا وزخْرُفُهَا وَجَمَالُهَا. وَخَيْرُ مَنْ يَحْتَفِلُ بِهَذَهِ الحَيَاةِ الإِنْسَانُ الشَّاعِرُ، والشَّاعِرُ الإِنْسَانُ؛ إِذْ فَضْلاً عَمَّا يَجْنِيهِ كَإِنْسَانٍ مِنَ الخِصْبِ من نتائجَ مُبْهِرَةٍ؛ فَهْوَ يَهِيمُ بِهَذِهِ العَوَالِمِ المُدْهَشَةِ شَاعِرًا مُتَأَمِّلاً، يَسْتَفِزُّهُ الجَمَالُ، وَيُغْرِيهِ الحُسْنُ، وَيُثِيرُهُ النَّمَاءُ.
يَشْرَعُ الشَّاعِرُ فِي التَّعْلِيقِ عَلَى حَيَاةِ الوَطَنِ/ المَكَانِ قَبْلَ وَبَعْدَ المَطَرِ، فَقَدْ كَانَ المَكَانُ طَارِدًا لأَهْلِهِ، رَافِضًا لِلْحَيَاةِ، كَاظِمًا لِلْعَيْشِ، يَتَّقِدُ بِصَهْدِ اسْتِعَارَاتِ القِبْلِيِّ الحَارِقَةِ الخَانِقَةِ، فَيْخْلَو مِنْ أَيِّ أَثِرٍ لِلْحَيَاةِ، لا شَيْءَ فِيهِ يُعْجِبُ النَّاظِرَ، وفَجْأَةً تَدُبُّ فِيهِ الحَيَاةُ، إِذْ أَمْطَرَتْهُ السَّمَاءُ، أَرَضَعَتْهُ رِيقَهَا المُبَارَكَ، فَتَنَفَّسَ المَكَانُ بَلَلًا وَفَرَحًا وَخِصْبًا، بِمُجَرَّدِ أَنْ لَمَعَ بَرْقٌ ضَحُوكٌ فِي السَّمَاءِ البَعِيدَةِ، ثُمَّ تَرَاكَمُ المُزْنُ، وَاسْتَيقَظَتْ فِيهِ الحَيَاةُ، ثُمَّ سَالَ قَطْرًا، مَطَرًا غَزِيرًا جَابَ الأَرْضَ سُقْيَا، مُخَلِّفًا سُيُولاً جَارِفَةً تَدْفَعُ أَمَامَهَا هَشِيمَ ذَلَكَ الْجَدَبِ اللَّعِينِ، صَانِعًا حَيَاةً رَخِيَّةً هَنِيَّةً بَعْدَ مَوَاتٍ طَوِيلٍ، فَاهْتَزَّتِ الأَرْضُ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ، وَأَيْنَعَتْ وَأَمْرَعَتْ وَاسْتَوَتْ زُرُوعُهَا عَلَى سُوقِهَا تُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ..
رونق بعد كان طارد وخالي * من صهد القبالي * مْسَوْتِه وما فيه حاجة اتوالي..
تنفَّس معا ضَيّْ عقرب اتشالي* ومزنه ادَّابَى * تناصف علي قيس وسطه اعيابه..
هطيله وكم هود في هود مالي * وسالن ارقابه * وسيله ارقي نين غَرَّق أصلابه..
وطَوَّح عذاه فوق روس المعالي * وْخَرَّم اجنابه * وجرجر هشيم الوطا من اخيابه..
وهكذا قَدْ عَادَ لِلْمَكَانِ حُسْنُهُ وَبَهَاؤُهُ، رَوْنَقُهُ، بَعْدَ عَطَشٍ وَذُبُولٍ مُمْتَدَّيْنِ لِسِنِينَ طِوَالٍ، بِفِعْلِ صَهْدِ القِبْلِيِّ الحَارِقِ، وَقَسْوَةِ الجَدَبِ اللَّعِينِ، وَحِينَ حَضَرَ المَطَرُ المَبَارَكُ بِبُرُوقِهِ وَرُعُودِهِ وَهَطْلِهِ وَسُيُولِهِ، هَبَّتْ لِعِنَاقِهِ الأَنْعَامُ، الشِّيَاهُ وَالإِبِلُ جَمَيلَةُ الأَوْصَافِ مُنْدَفِعَةً قَطِيعًا عَظِيمًا أَوَّلُهُ بَعِيدٌ مِنْ آخِرِهِ، فَقَدْ تَحَايَا عُشْبُ وَطَنِهَا فَأَفْرَحَهَا، كَمَا أَفْرَحَ صَاحِبَهَا الكَهْلَ الَّذِي أَفْنَى عُمُرَهُ فِي هَذَا المَكَانِ يَعِيشُ فِيهِ، يَعِيشُ بِهِ، وَيَعِيشُ لَهُ، ضَامِنًا تَحْقِيقَ أَمَانِيهِ جَرَّاءَ هَذَا الهُطُولِ المُبَارَكِ، وهذا الخِصْبِ المُرْتَجَى:
رونق بعد كان مصهود صايف * اسيوله دلايف * وابروقه معا كل جيهه خطايف *
وشبوبه كبس فيه صَيَّم سقايف * وعنقد شرابه * سبيله على قيس سَوْقَةْ هبابه *
ولحقاته مليحَةْ النَّبَا والوصايف * اتغابط رغابه * هللها بعيد أَوَّلَهْ من عقابه..
وتحايا نبات وطنها فالمصايف * افرح بنخضابه * واصَّوْقَر احسابه * الشَّايب اللِّي فيه كَمَّلْ شبابه..
إِنَّ السَّمَاءَ لا تُمْطِرُ فَحَسْبُ؛ بَلْ إِنَّ المُزْنَ المُتَدَافِعَ كَأَنَّ بِهِ عَيْبًا، ثُقُوبًا تَثِجُّ المَاءَ ثَجًّا، حَتَّى امتلأتْ بِهِ الأَوْدِيَةُ وَالقِيعَانُ، وَسَالَتَ بِهِ السُّهُولُ وَالبِطَاحُ، سَيْلاً هَادِرًا جَارِفًا أَغْرَقَ كُلَّ الأَصْلَابِ. وَارْتَقَى أَعَلَى القِمَمِ وَالمَرْتَفَعَاتِ جَارًّا أَمَامَهَ الهَشِيمَ غُثَاءً.
لَقَدِ اخْضَرَّ المَكَانُ، فَخَلَعَ أَثْوَابَ القَحْطِ بَعْدَ غِيَابِ الأَمْطَارِ الطَّويلِ عَنْهُ، وَلَبِسَ حُلَلَهُ السُّنْدُسِيَّةَ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَجْرَدَ مُغْبِرًا، وَنَمَتْ فِيهِ أَزَاهِيرُ وَأَعْشَابٌ بَرِّيَّةٌ حَتَّى غَدَا كَأَنَّهُ ضَبَابٌ لِكَثَرَتِهَا وكَثَافَتِهَا، فَتَضَوَّعَتِ هذِهِ النَّباتاتُ عُطُورًا طيِّبةً، لِتَهُبَّ بِهَا أَنْسَامٌ رَائِقَةٌ رَطِبَةٌ، من هَذَا البَرِّ المُجْدِبِ القَاحِلِ الشَّدِيدِ المَرَارَةِ لِعَطَشِهِ وَقُحُولِهِ، قَبْلَ أَنْ تُعَادَ لَهُ الحَيَاةُ بهذا الغَيْثِ العَمِيمِ المُنْجِدِ:
رونق بعد طول غَيْبَةْ أمطاره * اِجَّلا جضاره * الحافي اللِّي كان ثايب اغباره..
,نَمـَّا عفا بَرّْ فاحن عطاره * اِمْسَوِّي ضبابه * ارياحه تناسيم رَوقْ وْرَطَابَه*
المِجْدِب اللِّي قبل عاقد امراره * اِنْفَكَّن أتعابه * وادَّاير معا غيث بارق تنابى.
تعليق واحد
[…] […]