صلة الإنس بالطير متناقضة تتأرجح ما بين الحب والألم، الفرح والتعاسة، الحنان والظلم، التعذيب والدلع، الحرية والسجن. صغاراً نستلذ بإصطياد العصافير، نصنع الأفخاخ، نراوغ ونستخدم الحيل، وحين تقع في قبضتنا، ضعيفة، زائغة، واجفة، ترتعش، تتملص وتحاول الفرار، أو مستسلمة تنتفض من حين لآخر، تتفتح في نفوسنا سعادة أشبه بأشعة شمس تستلقي حثيثاً على شراشف بيضاء.
كما للمدن معمارها فللمدن طيورها، منها القارة الساكنة في أشجارها طالما حية تورق وتزهر وتثمر، والمهاجرة إلى مناخات وفيافي أخرى، وحبيسة الأقفاص، والمختطفة المستعبدة من بلاد الغير.. قصص وحكايات لكل طير حلم بالحرية أو السلام أو الطمأنينة.. أن يبني عشاً أو يحلق عالياً أو يناوش أنثى تغويه، ليتكاثر معها.. لكن قلوبها دائماً مرتعشة كما أجنحتها.. وكلما تدبرت في أمرها وأنا أصحو كل صباح على أصواتها أينما كنت في قرى أو غابات أو مدن، أستلذ بأصواتها دون أن أفتش عنها.
شعرت براحتها في غابة وبقلقها في مدينة ووداعتها في قرية، لتتحول شيئاً فشيئاً إلى جزء مني.. ومن ذاكرتي. ارتبطت بطائرين في صغري، ” أكو “جدتي و” كيتو”، ببغاؤنا الاكوادوري.. في حين اقتربت من الثاني، توجست من الأول. لكنني مع الزمن والتنقل تعرفت على طيور أخرى لا تعرف أقفاصاً ولا تهاب بشراً، تحطّ على راحة اليد وسرعان ما تغادرها. وتساءلت لماذا طيورنا الحرة تقع في الأفخاخ وتقتل، وإن أودعت قفصا سرعان ما تموت، لماذا نعيش معها ونعتاد صوتها ولا نستعذبه، تتكاثر من حولنا ولا نشعر بها.. بل لا نبحث عنها ولا نحاول أن نراها.. لماذا طيورنا لا تستأنس بنا، ودائما تفر منا؟
طرابلس 1970 (الأكو الإفريقي)…
أكو جدتي إفريقي، رمادي اللون بريش أحمر في مؤخرة ذيله، منقاره غليظ وقصير أسود، كثيف الريش، حبيس القفص، يخرج رأسه لجدتي من بين الأسلاك حين تداعبه ” كوكو كوكو”، تحك بسبابتها على ريش رأسه يستجيب لها وينفشه فيزداد انتفاخاً وينبعث من تحته ريش ابيض، ثم يحرك رأسه ويعود به إلى داخل القفص.
– “زودي حكي على راسه”
تشجعني جدتي وهي تلتفت برأسها نحوي، أكتفي برفع كتفيّ من ورائها وأرتد خطوتين إلى الوراء. لم اثق بالكوكو يوماً، أسمع صوت منقاره ومخالبه وهي تخبط أسلاك القفص، أُسرع ناحيته وأشاهد جنونه وهو يضرب القفص بشدة ويدور داخله ثم يهمد فجأة ويحتل مكانه على العود الرابط بين الأسلاك. يميل برأسه وينظر مباشرة إلى عينيّ وهو يرمش جفنيه بعصبية.
ارتبطت حياة جدتي بالكوكو…تقضي الساعات معه كل صباح، تنظف قفصه بعناية، تغير ورق الجرائد الذي يفرش قاع القفص، وتبدل له الماء، وتضع له حبات “الكاكاوية” أو بعضاً من قطع الطماطم أو الخيار.
– “ردي بالك تعطيه فلفل.. نرتزوا فيه..”
تردد لي ذلك في كل مرة، أثناء انشغالها في تنظيف القفص.
– “شكون علي”؟… يصيح الكوكو، فتضحك جدتي.
– “منو؟ تي منو؟”… ثم يصفر بأعلى صوته.
– “آلو….”
كان الكوكو صوت الرجل الوحيد في بيتها، ينطق بلهجتنا وبصوت عال كلما أراد. استمرت علاقة جدتي اليومية بالكوكو سنوات، وتخترت وتماسكت كالأطباق التي تتقنها.. كَبرت خلالها، وتراكمت السنون على كتفيّ جدتي فأحدودب ظهرها وثقلت خطواتها، وظل الكوكو على حاله، يتكلم، ويصفر، ويضرب القفص بمخالبه ومنقاره، ثم يهمد. وفي الليل، تغطيه جدتي بقطعة قماش كي لا يستفيق كلما أشعل أحدنا النور… كان ينام ويصحو معنا.
وفي يوم، دون معرفة السبب وبينما الكوكو في حركته الدائرية الفظة داخل القفص فتح بابه، أطل برأسه ثم بجسده.. حاول لكنه لم يستطع الطيران، فرمى بنفسه من الشرفة وسقط في شرفة الجيران. نزلت حافية قبل جدتي بدرجات كانت كافية أن أستعلم عن الكوكو، فتح الجيران شرفتهم، خرجت إليها ولم أجده، كأنه (فص ملح وذاب). عدت إلى جدتي وقد أصابني حزن
– “ما لقيتاش يا اللاي”.
ضربت جدتي راحة يدها على كفها وهي تقول بقلق
– “تي كيف العفو؟”، “ريته طايح في قلاليتهم”.
فتشت جدتي الشرفة بعينيها، وعادت أدراجها حزينة بنظرات غائمة وعينين تقطران دموعاً.. عادت إلى القفص، كان نظيفاً لكنه فارغٌ، صامتٌ، وعارٍ إلا من قطعتي خيار في أسفله. اختنق صوت جدتي وهي تضرب كفيها وتقول:
– “دهاب شيرة وقلة حيلة.. تي غير كيف صار؟ ريته بعيني في قلالية الجيران، وين طار بس؟ زعمة طار؟”
بعد أشهر، سَمعت تلك الضربات العنيفة التي كان يصدرها الكوكو، تبعت الصوت نحو الشرفة، نظرت إلى الأسفل ووجدت الكوكو في قفص آخر ضيق، فرحت، وأمعنت فيه النظر.. هو الكوكو الأفريقي.. كوكو جدتي، كدت أن أصيح واناديها لولا أن نطق وقال:
– “شكون.. اسماعيل”
حينها دب الشك إلى قلبي… لم تصدق جدتي أنه ليس “الكوكو” حتى وإن كان استبدل إسم “علي” إبنها، بإسماعيل إبن الجيران…
– “تي هو الكوكو امتاعي!”
اختلطت مشاعر جدتي حزناً وغضباً واحباطاً لعدم قدرتها على مواجهة الجيران بحكم أصول الجيرة.
– “ما نقدرش نكلمهم… جيران. الجيران أولى من الكوكو”
أسدلت عينيها اللتين كانتا تقولان عكس ذلك.. بل أن الكوكو أهم، هو أقرب من جيرانها، وقد يكون أقرب إليها مني. لكن الحقائق تنكمش حين يتعلق الأمر بطائر أمام بشر، هما لا يتساويان، حتى وإن كانت المشاعر – وهي لب الحقيقة- تقول غير ذلك.
رأيت جدتي ذات يوم تدخل من الشرفة وهي تحمل ريشاً رمادياً بين كفيها المتلاصقين، وضعت الريش في صحن كما اعتادت أن تفعل مع زهور الياسمين العطرة…
– “هذا ريشه.. الكوكو يا متغشش يا في من خالعه”.
في هذه اللحظات، شعرت بعمق حزنها وتجدده في قلبها. كانت شجرة الياسمين في الشرفة تجدد زهرها كل موسم، بينما الكوكو بدأ يفقد ريشه… شيئاً فشيئاً أقنعت جدتي نفسها بأن صوت الكوكو المنبعث من شرفة الجيران محض خيال، وأن ببقايا الريش المتساقط لطائر آخر. شككت في نفسها وعزت إلى مشاعرها التي تزاحمت في قلبها بعث صورة خيالية في عقلها، فارتاحت، وما أكد لها ذلك أن صوت “الكوكو” لم يطرق آذاننا المتحفزة بعد ذلك اليوم ونحن نخرج إلى الشرفة على أطراف أصابعنا لأشهر علنا نسمعه ونقطع الشك باليقين، و لم تأت الريح ببقايا ريش رمادي… أوصدت جدتي الشرفة ذات شتاء ولوت عنق بابها بعصبية وهي تقول:
– “مسامحتهم حتى كان خدوه”.
ظل القفص لفترة في مكانه أمام المطبخ، ثم أًلقي به في غرفة “الخزين” المجاورة مائلاً على ظهره دون حراك… وفي مأتم جدتي، حيث تحدثت المعزيات عن مآثرها وطباعها كما جرت العادة أثناء أيام العزاء، انجر الحديث إلى “الكوكو” وعلاقتها به، مدت إحدى الجارات ساقيها بعد أن غاصت في الكرسي البلاسيكي الأبيض، ونظرت بريبة من حولها، فتحت فمها لبرهة مترددة لتطلق كلماتها المفاجأة، وهي تشير إلى الشقة السفلى.
– “ريت ولد سالمة شاد ببغاء من جناوحه وهو يفرفش ويحط فيه في شكاره”
– “علاش؟”
مطت شفتيها في شكل هلال وضربت راحة يدها على كف اليد الأخرى، وأردفت:
– “ما ندري”
لم يعلق أحد على كلامها، ولم نذهب إلى أبعد منه، فقد رحلت جدتي كما رحل الكوكو قبلها، بل لا أبالغ إن قلت أن بعضنا لم يصدقها حفاظا على أصول الجيرة.
طرابلس 1980 (المكاو كيتو)
يطير والدي كثيراً في عمله، يزور أكثر من قارة في أسبوع، إعتدنا على غيابه.. كان يعود إلى وكره ليرحل مجدداً. وفي عودته كانت الهدايا مختلفة ومرتبطة بالبلد الذي زاره. عاد الينا يوماً بعد طول غياب، وكنا قد علمنا بأنه يجوب أمريكا اللاتينية.. في ذلك الصباح، رأينا حقيبته أمام الباب وحذاءه المدلّى عليه جواربه بتعب، فأيقنا عودته.. لكننا قبل خروجنا إلى المدرسة اكتشفنا ببغاء ملون يغلب عليه اللون الأخضر، مزين بريش ألوان قزح، الأصفر والأزرق، والأحمر في جزء من ذيله، كان منكس الرأس في قفص حديدي صغير، اقتربنا منه وكلنا فضول، فإنكمش وتردد في الإتجاه الذي سيسلكه على العصا الممددة بين جنبي القفص. غمرنا فرح بمذاق خاص، شعرنا بزائر يتوطن بيننا.. زائر بلون غريب، قطع المسافات والمحيطات إلى هذا البلد الإفريقي الحار.. ترى من أية غابة جاء؟ وكيف سيعيش بيننا.. كل ما لفت نظرنا آنذاك لونه الأخضر، القفص الصغير، ونظرته الثابته في عيوننا وقلق في حركته… حينما استيقظ والدي، اقترب من القفص وقال لنا:
– “بالشوية عليه المكاو راهو رحلته طويلة.. من كيتو لطرابلس”
أعجبنا أسم مسقط رأسه عاصمة الإكوادور فأسميناه “كيتو”… في رحلة أخرى إلى تونس، أحضر والدي معه قفصاً تونسيّاً واسع من أسلاك رمادية مصنوعاً يدوياً، بأربعة أقدام ونافذتين وباب.. كان علينا نقل “كيتو” من محبسه الذي جاء فيه إلى القفص التونسي البرح، لم نفلح، شعرنا بأن علينا إقناعه، فوضعنا له أكلاً في القفص الجديد وتركنا البابين مفتوحين.. انتقل “كيتو” إلى بيته الجديد دون مساعدة أحد، وأدركنا حينها أن كيتو يفكر لأنه اختار الأفضل.
ورغم محاولاتنا استدراجه وحثه على الكلام أسوة بالببغاوات الأخرى وأولهم ببغاء الجدة، إلا أن “كيتو” رفض الكلام بتاتا، واقتصر على الصفير من حين لآخر، ثم آثر الصمت.. كان وجود “كيتو” بيننا حسياً مرئياً مُعاشاً ولم يكن صوتياً.. كان ظاهرة أثرت فينا بعمق، لأنه حل بيننا ضيفاً، فأصبح واحداً منا، ولأنه عاش بيننا طليقاً ولم يستعمل جناحيه ويهرب. وكيف له أن يهرب؟ لا بد وأنه استوعب الظروف التي تحيط به، ففضل بقاءً معنا على هرب لن يوصله إلى بلاده.
هكذا وبعد أشهر قليلة، فتحنا الباب “لكيتو”، ولم نغلقه طوال عشرين عاما.. وقف “كيتو” على أكتافنا دون أن يخدشنا، وأكل من راحة أيادينا دون أن ينقرنا، ونام على باب غرفة أختي المفتوح دون أن يزعجنا، وتنزه على أرضية المطبخ وهو ينظر إلينا برأس مائل ونظرة حنون مباشرة.
لم يتعرض “كيتو” لأي سوء إلا مرة واحدة، حين قامت صديقة أختي التي نامت عندنا ذات ليلة بإغلاق باب حجرتها دون أن تتخيل أن “كيتو” ينام على حاشية الباب، صرخ كيتو يومها ،إستنطقه الألم، وكانت المرة الأولى والأخيرة التي سمعنا فيها صوته.. تألمنا جميعا حين اكتشفنا أنه فقد أحدى مخالبه… لكن “كيتو” كان من حين لآخر يدخل إلى قفصه، يقضي فيه أوقاتاً وحيداً، كنا لا نحب وحدته هذه، وسرعان ما نستدرجه للخروج، نرفض أن يظل وحيدا لأننا نشعر بأنه لابد وأن يكون حزيناً.
مضت عشرون سنة، أو أكثر بقليل، عاش فيها “كيتو” معنا، قلت حركته وكثر نعاسه، حضرت وجوه جديدة لأخوين انجبا بعد حضوره، وفتحا أعينهما و”كيتو” يمرح بينهما.. إلى أن جاء ذلك اليوم شديد القيظ في أحد أشهر الصيف، قرر كيتو أن يرحل، فدخل إلى قفصه الواسع ومات فيه.
طرابلس 1990 (الجامع)
يقع جامع الحي في زاوية على الشارع الرئيسي، مساحته متوسطة ومعماره جميل، مدخله باب خشبي واسع، وتقع أسفله في البدروم حجرات فصول لتحفيظ القرآن وتجويده. أصبح الجامع شيئاً فشيئاً ملتقىً إجتماعياً لأولاد وبنات الحي، ليشرع بعد ذلك في فتح فصوله للنساء للإلتحاق بدورات التحفيظ اليومية التي تستقطع من فترة القيلولة مساحة لها… لم يعد الجامع قاصراً على الذكور، ولا على الكبار، زارته البنات والنساء، فكسر الحاجز الذكوري الذي يغلف إسمه وهيئته.
سرى خبر صاعق ذات صباح أن أفراداً بزي مدني، اقتحموا الجامع وقبضوا على الشباب أثناء صلاة الفجر، وتركوا كبار السن وبعض الأجانب. بل علمنا أن من بين المقتحمين بعض الجيران المحسوبين على اللجان الثورية. سرت همهمة بين الجيران بأن أغلب مرتادي الجامع في صلاة الفجر شباب يقطنون خارج الحي وإن كانوا ليسوا ببعيدين. لم نتعرف إلى المقبوض عليهم لكننا تعرفنا على بعض القابضين. إنكمشت انشطة الجامع لبعض الوقت ثم استؤنفت، ولم نعلم عن مصير المقبوض عليهم ولم يتابع الحي أمرهم. بدأت الأخبار تتوارد عن شباب يلبسون الجلابيب و السراويل القصيرة، ويسيرون في جماعات مطأطئي الرؤوس، لا يتكلمون مع أحد، يستمعون إلى أشرطة دينية، ولا يعيرون الدراسة اهتماماً.. يُعتقد أنهم أنقياء، موثوق فيهم، سائرون في طريق الحق. تمكن بعض من هؤلاء استقطاب بعض شباب الحي وبدأت الصورة النمطية لهذه الجماعات الأشبه بالزرافات تظهر للعيان خاصة عند صلاة المغرب متجهة إلى الجامع. إلا أن هذه الزرافات كان لها صخبها، فقد تنامت الأخبار عن مشاكل وعراك ينشب بين الأبناء ووالديهم.
وليد…
لأبلة “وريدة” ثلاثة أبناء، تحرص عليهم بشدة حتى أصبحت شيئا فشيئا أقرب إلى الأب من الأم، قليلة الكلام، متجهمة الملامح….يوحي مظهرها المتقشف بالصرامة. توصلهم بسيارتها “المازدا” إلى مدارسهم، وتنتظرهم أمام بوابتها لتعود بهم، لا تترك لهم نافذة مفتوحة إلإ إلى داخل البيت، لا يخرجون إلا لضرورة، إذ تقوم بنفسها بالتبضع منعا لخروجهم، تنقلهم لزيارة أصحاب محددين، وتعود لأخذهم في موعد محدد. كانت آثار خناقها واضحة على ابنيها الكبيرين، خاصة وأنهما كانا في فترة مراهقة. حتى جاء ذلك اليوم الذي ثار فيه أوسطهم (وليد) وضع الجلباب وشمر البنطال وارتوى من شرائط التسجيلات وإزداد ظهره حنوا وبصره غضاً واختفى صوته. وقف ذات يوم مواجهاً “وريدة” وصرخ في وجهها أنها وأباه كافرين، حطم تحف البيت ورمى بلوحات كانت تزين حوائطه وأقفل باب حجرته ورفض أكل طعامها ومصروف أبيه.
جلست أبلة وريدة على حاشية الدرج، تكفكف دموعها وتشتكي وليداً لأمي، “ماعاش وليدي اللي نعرفه.. ردي بالك على ولادك منه”. وفي يوم آخر رأيت يدها مربوطة بشاش أبيض، كانت تريها لأمي وتقول: “كسر شيشة بوه ولوحها قدام الحوش.. طلعت بنلمها.. جرحتني”.
عرفت وليداً صديقا لأخوتي، كان منكفئاً على نفسه، معروفاً بأمرين، يقرض الشعر العربي عن ظهر قلب، ويربي الحمام على سطوح بيتهم. يصنع لها الصناديق الخشبية ويضعها متجاورة ويملأها بالقش.
عشرات الحمائم الذي تحمحم، يطير ويعود لصناديقه حيث ينام ويبيض ويفرّخ فيها.. أبيض وأسود وبني ومنقط. يقضي وليد الساعات معها، يطعمها.. يضع الحب على رأسه ويستسلم لها، تقف عليه وتنتقي الحبوب أو تنتف الخبز. كان الحمام يمثل له الكثير، الحرية التي لا يعرفها وهو يعيش حصار أمه، والاعتماد على النفس وهو المقولب ضمن قواعد صارمة، والحميمية في بيت جاف بدون مشاعر.
وجد وليد في الزرافات التي تتجه إلى الجامع عند المغرب طبائع تشبه الحمام في تجمعها وخروجها مع الأصيل في تلك البرودة اللاذعة أو الرياح الباردة أو الأمطار أو نسمات البحر المكتنزة بالرذاذ… حتى جاء ذلك اليوم الذي قرر فيه الطيران.. لم تمضِ أشهر من جنوحه عن أهله حتى إختفى وغادر إلى حيث لا يعلم أحد. ظلت أبلة وريدة تمارس نشاطها اليومي، لكنها فقدت صرامتها إلى ملامح تشبه الاستسلام، فكّت قبضتها عن إبنيها وشرعت نوافذ منزلها إلى الخارج، وما عادت تذكر وليد.. أسقطت إسمه من لسانها لكنه لم يغب يوماً عن عقلها… سرعان ما رحل حمام وليد على دفعات.. قل عدده، وكان يعود من حين إلى آخر، حتى قررت خالتي وريدة جمع بيوته الخشبية ورميها مع القمامة. ومنذ ذلك اليوم لم يعد الحمام لسطوحهم.
فائزة…
ممتلئة وبيضاء، ذات ملامح ناتئة، وأسنان مصفوفة كقطع الثلج.. تضع شرائط ملونة على شعرها الفاحم، كانت أشبه بشخصيات رسوم والت دزني..ضاحكة ومغنجة. انهينا الثانوية معاً، وتفرقت بنا السبل، وفي العطلة الصيفية كان الهاتف يكاد أن يكون الوسيلة الوحيدة للتواصل. خابرتها فأسرّت لي أنها ستزورني، انتظرتها في الحديقة، سمعت أزيز المحرك يتوقف أمام الباب، خرجت اليها، فرأيت خيالا أسود يخرج من السيارة التي يقودها شقيقها، وسمعت صوتها تودعه. عقدت المفاجأة لساني وأضطربت، لكن ما أن دخلت ورفعت الغمامة السوداء عن وجهها ونزعت الدثار الأسود، حتى رأيتها هي كما عهدتها بوجهها الباسم وقطع الثلج المتزاحمة وحديثها الذي تديره يداها.. نسيت الستار الذي كانت تسدله على وجهها وما كانت تتلحف به، قضينا وقتاً ممتعاً كسابق عهدنا ولم نتحدث بشأن المظهر الجديد.
وفي الصيف الذي تلى ذلك اللقاء، هاتفتني لتخبرني أن عرسها بعد إسبوع وأنها مغادرة البلاد إلى حيث يقيم زوجها. ذهبت إلى العرس، استقبلتني أمها بضمة حنون، أما أبوها فشد على يدي مرحباً… كان البيت مظلماً إلا من إنارة الغرفة العادية، جلست الفتيات على الأرض وهن يحملن الدفوف وينشدن الأناشيد، ترددت في جلستي لكنني فضلت الجلوس على كرسي قريب من الباب. دخلت فائزة وهي ترتدي فستانا طويلا أصفر.. كان شعرها عاريا مرميا على كتفيها، لا يبدو عليها اي ارتباك.. وكأنه يوم عادي، تبتسم على وقع الدفوف والأناشيد.. توقف الطرق وانزلت الدفوف أرضاً وجلست فائزة على الأرض بين صديقاتها…سرعان ماغادرت “العرس”.
طرابلس/ أتاوا…
في حين التهمت طرابلس أطرافها، واقتلعت أشجار كثيرة، غابت بعض عصافيرها، ونقصت أخرى، زحفت المباني كما يزحف الجراد على السواني والمزارع، وتشربت المسطحات الخضراء شربة العجين المخلوط بالأسمنت وانتشرت العجانات على حواف الطرقات، احتفظت “أتاوا” بغاباتها ومسطحاتها الخضراء ومحمياتها.
وفي حين امتلأ في طرابلس “سوق العصافير” بالأقفاص المسجون بين أسلاكها طيور مستوردة، فردت طيور “أتاوا” أجنحتها وحلقت في الهواء، وقفزت تتسامر على أعراف الشجر. طيور “أتاوا” متنوعة، عصافير تشبه “زرزور قصب” تقاوم برداً شديداً بريش خفيف، وأخرى ما أن تحل تباشير الشتاء حتى تتجمع في البحيرات بالعشرات وترحل في رحلة طويلة إلى الدفء، وثالثة ورابعة وغيرها، لكنها كلها تعيش حياتها، تتعامل مع بيئتها التي احتفظت بخصائصها منذ أن نشأت وتطورت وارتقت في تلك البقعة، لا يعكر صفوها إلا أقدام المترجلين وهمساتهم، وبعض الدراجات، وتكتكة المصورين المحترفين لإلتقاط صورها وهي مزهوة. في حين إتجه وليد إلى السودان ومنه إلى افغانستان، رحلت فائزة إلى زوجها في أتاوا… عاد وليد قسرا إلى طرابلس وسجن لسنوات، كانت أمه فيها تنتظره لتزوجه إمرأة تنسيه التيه وعذاب السجن… مرا مقومة تنسيه اللي فات عليه وليدي.
حين أفرج عن وليد كان البهاق قد غزى جلده حتى استحال إلى ما يشبه اللطع البيضاء المحاذية للونه الأصلي الذي تبقى منه القليل، كان يبدو وكأنه يرتدي قماشا شفافا أبيض، ولم يعد وليد يشبه ذاته التي غادر بها ذات يوم واختفى عن الأنظار. بهتت وريدة حين رأته، لكنها أقسمت بعد أن استعادت جأشها و ملامحها المتجهمة وصرامتها أن لن تدعه يهاجر أو يسجن من جديد، وأملت شروطها وأعادته إلى حضنها وحضن أسرتها.. لم يعد لوليد زرافات يتابعها.. بل صارت له قطط من صلبه تتبعه ووظيفة يجمع منها المال ليطعمها… أما فائزة، فكان لها شأن آخر.
أتاوا…
حين حطت الطائرة في مطار أتاوا، كانت فائزة كالزرزور الذي أرهقه الطيران، أمضت في أولى رحلة طيران لها يوما كاملا. لم تصل فائزة إلى أتاوا منقبة، أصر زوجها وهو يملي تعليماته من خلال شقيقته على أن تكتفي بالحجاب… اجتازت بوابة الجوازات، طلبت منها الشرطية الشقراء أن تدخل لمكتب جانبي، ووفرت لها مترجماً، ووجهت إليها أسئلة عامة.. ابتسمت الشرطية في وجهها وهي تمد ذراعها نحو الباب، وقالت لها “مرحبا بكِ في كندا”، حينها تنفست فائزة الصعداء، شكرت الشرطية، وخرجت إلى باحة مبنى المطار وهي تدفع بعربة الحقائب. تفحصت الوجوه بعناية، إذ لم يسبق لها أن رأته إلا في صورة فوتغرافية باهته.. لكنها سرعان ما تعرفت عليه من خلال هندامه، وبنطاله القصير إلى ما فوق كعبيه، وذقنه التي بدت كعشب صيفي…
– “السلام عليكم”
– “وعليكم السلام”
لم يصافحها، أخذ عنها العربة وسار أمامها، كانت تتبعه بخطى سريعة…
– “جبتي كبوط، راهو ثلج عندنا…”
– “عادي تمشي الأمور..”
لكن الأمور تجمدت على صفحة وجهها، كانت أول لطمة تتلقاها على خدها.. لفحة برد قارص، جمدت وجهها بالكامل، بعد أن أحست بتنمّل في خديها، وكأن أنفها سيسقط.. لم تتكلم، لكنها اندفعت نحو كرسي السيارة الأمامي وهي ترتعد…
– “مش قلتلك جيبي معاك كبوط رزين”
– “هذا اللي عندي”
استمرت فائزة ترتعد كعصفور يرى صياده وهو يصوب نحوه بندقيته ويتردد ما بين الطيران أو البقاء حيث هو.. شعوره أنه وقع في الفخ وأن طيرانه لن يجدي… لم تتحدث فائزة طوال الطريق، دفع “عبد الرحمن” بشريط إلى فم المسجل، ليصدح صوت أجش حول آداب الزواج، ومسلك الزوجة.. يصيح ويهدد ويتوعد.. ازداد ارتعاد فائزة، ولم تهدأ إلا حين رمى لها “عبد الرحمن” بغطاء وطلب منها النزول إلى الشقة. بدت لها العمارة شاهقة، سارت بصعوبة وسط ركام الثلج…
– “ردي بالك تزلقي!”
رددها “عبد الرحمن” مرتين وهو يجر الحقائب… دفع الباب بقدمه بعد أن غرس المفتاح بقوة في ثقبه وأداره وهو يبسمل…
– “خشي باليمين”
– “نعرف… باسم الله”
لم تكن شقة.. بل حجرة، فيها كل شيء إلا الدفء…
– “توا نفتح الدفاية… راهي غالية هني”
لم تكن أشياء البيت مبعثرة بل مزدحمة و مكدسة على بعضها البعض، عدا الفراش، كان خالياً نظيفاً، عبارة عن مرتبة قريبة من الأرض المغطى بسجاد موكيت بُني… ومنذ ذلك المساء الذي صفعتها فيه أتاوا بهوائها المجمد عند وصولها، لم تتوقف فائزة عن تحسس خدها.. كانت الشقة ضيقة رغم رحابة الأرض، وكان “عبد الرحمن” جافاً رغم الأنهار والبرك والبحيرات والوديان ومجاري المياه، وكان قلبها معتم رغم سطوة أشعة الشمس وقدرتها على إذابة الغيوم.. فاجأتها الأرض وهي تنتعش بعد أشهر من ركام الثلج، رأت النباتات اليابسة الكسيرة تُبعث بعد الموت، تنفض عنها الصقيع وتستعيد الحياة في أعرافها وتنثر ثم تنبت ثماراً ووروداً.. كيف يذوب الجليد ويكشف عن وجه الأرض الحقيقي.. اللون الأخضر بتدرجاته.. لكنها وإن رأت ذلك وتفاجأت، إلا أنها سرعان ماعادت وانكفأت على ذاتها، بدأت تحسب الأشهر المتبقية لعودة الثلج. بدلا من أن تعيش فائزة أشهر الخضار، أصبحت تعد الأيام وهي ترتعد من مواجهة عودة الثلج مجدداً.
أثمرت فائزة في هذه الحجرة ولدين، أما ابنتها فأنجبتها في شقة أوسع بها حجرة ومطبخ مستقلين… يمضي زوجها أغلب الوقت مع أصحابه أو في المسجد القريب، أما هي فتمضي وقتها في الشقة مع أطفالها…
– “حطي النقاب، أهو جوازك وصل”
إستعادت فائزة نقابها بعد أن تحصلت على المواطنة…كبر بكرها “البراء”، والتحق بالمدرسة. أصر عبد الرحمن في سنته الأولى على إيصال البراء يوميا إلى حافلة المدرسة، إلا أنه ملّ وتحجج بقلة النوم بسبب قيام الليل وصلاة الفجر. كان لزاماً عليها أن تتولى ذلك، تلتحف بسوادها وتخبأ وجهها كل يوم، تتحمل لفحات الجليد على جسدها الذي تشحم وتكور وترهل، تجرجر قدميها المغطاتين بنعلها (بوت) حتى منتصف ساقيها وتتفادى الإنزلاق والوقوع أرضاً.
لا يتحدث عبد الرحمن الانجليزية ولم يبذل جهداً في تعلمها، لذا كان عاطلاً، ولم يأبه لذلك، عاش على تلقي الإعانات الشهرية بما فيها منح أطفاله، يعدها وهو يتمتم فرحاً…
– “بلاد كفار.. الله غالب”
البراء…
عاش البراء كطائر في قفص.. حتى إذا ما خرج منه سقط على الأرض إذا ما حاول الطيران أو استسلم هامداً في ركن لا يحرك جناحيه.. تربيته المنغلقة أشبه بقفص “كوكو” الجدة. لم يكن البراء كحمام وليد ولا زرزوراً طرابلسياً يرتعش في قبضة صغار الحي، ولا بومة تلتهم بعينيها المدورتين ما حولها دون أن تؤذي أحدا… لم يسمع البراء من أمه عن الحبارة والقنيبرة والطويرة و زرزور قصب والحمراية والبوبشير والخطيفة…لم تحكِ له عن الطويرة التي تهاجم المواليد وتختطفهم بمنقارها، ولا قصة الطوير الأخضر…
– “أني الطوير الأخضر،
وريشي ريش العسكر،
ومرت بوي ذبحتني،
وبوي كلي من لحمي”
ولا “أم بسيسي” التي تبني أعشاشها في سقيفة بيت جدها المفتوحة على فناء البيت، تنتقي من مجرى الماء الطين الحر الذي يتحجر بعد جفافه وتلصقه على “الصنورة” وهي المثلث الذي يفرش عليه جريد النخيل الجاف..وتملأ عشها بالوبر والصوف والزغب. لم تحكِ له عن جدتها التي تحمل “أم بسيسي” في راحتها كلما سقطت إرهاقاً وتدهنها بزيت الزيتون وهي تردد أهازيج شعبية…. ولا قصة “القنيبرة” التي أخطأت بيضها وجلست على بيض ليس لها فعايرها الطائر بالقول “مش دحيتك يا قنيبرة”.
لم تحكِ فائزة للبراء عن أمها التي تنقع مح الخبز في الماء، تضعه في الشرفة طعاما للطيور، ولا ابيها الذي يسقي الجداول ويملأها حين يشتد القيظ ويصعب التنفس لتجد العصافير والحشرات ما يروي عطشها… ولا على حضن أمها الذي يضمها في خوفها وجزعها وهي تتمتم لها “خيره قليبك يرف زي قليب العصيفير”.
في الحقيقة لم تكن أتاوا ولا الشقة التي تعيش فيها مع أولادها وكراً وعشاً لفائزة.. أما عبد الرحمن فكان هائماً لا يعرف لا وكراً ولا مستقراً.. ينجب الأولاد بغرض الحصول على الإعانات ويستلقي في المسجد ما بين مواعيد الصلاة، يعاين زبيبة جبهته ويتأكد من اتساعها وقتامتها، ويبحث بين الأحياء عن جزاري اللحم الحلال الأرخص.
لم يكن البراء “قصبيّاً”، ولا “زرزوراً”، كما لم يكن أي طائر من طيور غابات أتاوا التي تآلف بعض منها مع البشر، وحط على يديها وأكل من راحتها…. على عكس المدن، لا غربة في الغابة. لو أن فائزة وعبد الرحمن والبراء دخلوها بيمين أقدامهم، وتنزهوا وتدبروا فيها، ورأوا خلق الله في تلك العصافير التي تقاوم الزمهرير، وتتغطى رؤوسها الصغيرة بنتف الثلج، ولا تخشى البشر، تقترب منهم وتقف على راحة أياديهم لتلتقط الخبز والحبّ.. لو أنهم أنصتوا لأصواتها، غنائها، مقاماتها، صفيرها المتقطع والمستمر لبرهة، علوّها وانخفاضها، مناداتها، تخاطبها، شجنها وفرحها، صفيرها المجلجل وذاك النابع من الشهيق، صوتها المنتظم والشبيه بالهسهسة والغقغقة والصياح، الأزيز الذي يشبه سقوط الشجر، الجرس، الأصوات العميقة والمدفونة والمكتومة والزقزقة.. لو إستمعوا لكل هذا لالتصقوا بالأرض التي آوتهم وما شعروا بغربة الروح التي عنفوها ودفنوها بهباب الفحم. لكنهم آثروا الحيطان الباردة والتدفئة التي تشقق الجلد وأصواتاً تنبعث من أجهزة بمؤثرات صوتية، تبعث خوفاً لامرئيّاً تدعو لمزيد من الاغتراب وكثير من الاحتراب… يشبه البراء الغراب.. زرع في قلبه عبد الرحمن وفائزة كُرهاً أسود…
– “ما تكلمهمش.. احني مش زيهم… هما بيخشوا النار وأحني للجنة”
أصيب البراء بالخيبة بعد الأخرى، وعلقت في رأسه الحقائق دون سؤال، وحين فرح بإكتشاف شاب ليبي في مثل عمره يقطن قريبا منه، سألت فائزة والشك في صوتها:
– “من أمه”؟
– “ما نعرفش.. لكن سافرة وتركب بشكليطة”
– “وووووه هذه فاسقة.. ما عاش تكلمه”
ذات يوم وبعد طول تردد، فتح فمه.. كانت أمه ما تزال تتدثر بنقابها..
– “أمي..أمي.. أبلتنا موشّمة”
رمت فائزة بغطائها إلى الخلف، اقتربت من وجه البراء حتى تراجع وكشفت عن عينين تشتعلان غضباً…
– “وين ريتها.. وين قول؟”
أجاب وهو يضع أصبعه على كتفه الأيمن من الخلف:
– “هني على كتفها…”
صرخت فائزة، ودارت على نفسها واسمعت البراء صنوفاً من العذاب والقهر والهوان…
– “ربي يتوب علينا ونولوا لبلادنا”
ولم يعودوا إليها، رحلت طيور أتاو المهاجرة وعادت، ولم يرحلوا هم ولم يعودوا.
الغراب…
بدا البراء أكبر من عمره كما الغراب الذي يبدو عجوزا منذ صغره. يمشي ويأكل ويجلس وحيداً.. بطيء في استيعاب دروسه لا يملك مخزونا كافيا من اللغة، يشعر بالخجل والذنب طوال الوقت.. يتفادى الإناث والذكور معا… لا يهم أين يعيش الغراب… ينتشر في كل بقاع المستديرة ولا ينتمي لأية بقعة منها. ينعق ولا يشدو، يقبض بمخالبه الطويلة على الأغصان اليابسة، ويختطف اللقمة من غيره، ويطير وحيدا… كما ينسل الغراب من نسله، انسل البراء من سواد المظهر والقلب، فتحول شيئأ فشيئأ إلى كائن سوداوي فاحم.
أمتلأت أذناه بدروس الإنتقام، ورأت عيناه حز الأعناق، واستمع إلى أناشيد الفخر، لتتعبأ كلها في قلبه وتُضغط وتُغلق كما عبوات الطماطم المعجون الجاهز الذي تستخدمه أمه في الطبخ… كلما كبر البراء شعر بالإهمال من حوله، حتى أحس بمجرد خروجه إلى الشارع أنه كائن لامرئي، وهو في الحقيقة لم يعد يرى شيئا سوى خطواته التي تقوده إلى الأماكن المعتادة ما بين المدرسة والمسجد والعمارة. ما أن يدخل الشقة حتى يشعر بوهم العظمة، إنه يمتلك الحقيقة، وانه مصطفى من بني البشر، وأنه أفضل من الجميع، وأن طريقه إلى الجنة سالك. يقضي الساعات أمام شاشة حاسوبه، يغذي مشاعره بتلك الكراهية والإزدراء لكل ما هو مختلف عنه.
يقضي البراء اوقاتاً يفكر، يقلب السماء فيرى الإوز البري المهاجر في أسراب يفترش السماء على هيأة رأس رمح، ثم يراه بعد أشهر يعود وهو يهبط فارداً جناحيه الواسعين، هابطاً بقدميه الواحدة بعد الأخرى، واقفاً ماداً رقبته بخيلاء.. متجها للماء، ملقياً بنفسه فيها منهيا آلاف الكيلومترات من الترحال.
لم يعد البراء ذات يوم، لم يعد أبداً، طار الغراب وحط في بلد تكاثرت فيها الغربان بعد أن رحلت كل الطيور منها، أو قتلت أو تم اصطيادها والزج بها في أقفاص… لم يعد البراء بحاجة إلى تخزين مشاعر الكراهية، التي كانت تفيض وتتجدد تلقائياً كلما حز رأساً أو فجر قلباً أو نكل بآخر…
غادر البراء بلاد الغابات والطيور، ليعشش في المباني المهدمة، ولم تكن فائزة وعبد الرحمن يعلمان أنهما ربيا غراباً في خرابة لا تختلف كثيرا عن المكان الذي رحل إليه… مات البراء أو قتل أو فجر نفسه…لا فارق، ففي كل الأحوال لم يغادر الدنيا إلا وقد أزهق أرواح طيور كثر.
طرابلس 2000 (عليوة الببغاء)…
عليوة الببغاء… هكذا أطلق عليه أهل حي بوهريدة. سكن وليد وزوجته في شقة أعلى بيت والده في حي بوهريدة، حيث ولد “علاء”.. عاد وليد لهوايته القديمة، وعلق صناديق الحمام الخشبية، وتمكن من اجتذابها في غدوها ورواحها وهي تبحث عن ملاذ في بلاد يمزق سماءها الرصاص. كان الرصاص موجها لصدور البشر، أما طيورالمدينة فكانت تتناقص بشكل واضح. هم من ضمن سكانها لكن لا أحد يعدهم، ولا يأبهون بهم.
يقع حي بوهريدة في مفترق طرق المدينة، لا يمكن عدّه في وسطها ولا في طرفها بل بينهما. حي عشوائي خالٍ من الأشجار، مكتظ بمساكنه الضيقة المتلاصقة التي لا تتجاوز مساحتها المائة وأربعين مترا، تصطف وتتزاحم في أزقة ترابية، تبدو وكأنها ستلتقي في وسط الزقاق. قلما يرحل سكان بوهريدة عنه، يعيشون بقلوب واسعة رغم الضيق. بنى السكان مكعبات فوق مساكنهم لأولادهم، حتى احتجبت الشمس ولم يعد بمقدور أشعتها اختراق الحي. يحد بوهريدة ميدان واسع يربط بين الحي وشارع الجمهورية، جرت فيه محاولات شتى لصناعة منحوتات فنية لا علاقة لها بالحي ولا بالمدينة، فلم تخلف أثراً لا في المكان ولا في نفوس سكانه.
سكنت عصافير كثيرة بين أفرع أشجار شارع الجمهورية، يأتي عمال البلدية كل سنة يحلقون رؤوسها ويشذبونها لكي تتعانق ببعضها البعض، فتبدو كراقصين يونانيين يمدون أياديهم ويضعونها على أكتاف بعضهم بعضاً، تنزعج العصافير وتهرب، لكنها سرعان ما تعود وتنشط ويعلو شذوها المسترسل أكثر. هكذا كانت طرابلس.. راقصة، مغنجة، يغطي جسدها الماء كتلك المنحوتة التي تتوسط ميدان الغزالة.
– “تي قلع هالشجرة عيينا من دوشة العصافير”
أصبحت طرابلس مهملة كعجوز انفضّ أهلها من حولها.. حزينة وقد اقتلعت أشجارها أو قطعت من وسط جذعها وتحولت إلى مايشبه الطاولة، يتحلق حولها الشباب، يتركون على سطحها أكواب “المكياطة” الورقية، ويغرزون في جسدها اليابس أعقاب سجائرهم… غادرت عصافيرها وطيورها، أو قتلت أو سجنت. والغريب أنها شهدت نشاطاً ملحوظاً لطيور أجنبية مستوردة في أقفاص… في حين أكتفى وليد بممارسة هواية الحمام، قرر ابنه علاء الذي عاش بين الحمام عقدين من عمره، أن يحيل السطح إلى قفص كبير يربي فيه أنواع من الطيور المستوردة بغرض البيع…
– “يابوي بنخدم على راسي…”
همدت البلاد إلا من الرصاص والدبابات التي تهاجم بجنازيرها الأحياء تترك على الإسفلت حفراً كحفر الجدري… أُقفلت الشركات والمصانع وبعض الإدارات، ولهثت المهن الخاصة تبحث عن عميل تبلع به ريقها.. أما المصارف فتحولت أبوابها إلى مزار يومي وازدحام جنوني…
– “الناس جاعت ياولدي.. جوعوها، ماعاش في سيولة.. دبر راسك واخدم”
هكذا تحولت طرابلس إلى سوق كبير، يباع فيه كل شيء، تتدفق إليها البضائع المنتهية صلاحيتها، والسيارات في أنفاسها الأخيرة، والعملة التي تنقل جهارا في “براويط” بسوق الذهب المحاذ لسور مصرف ليبيا المركزي، والمحروقات والممنوعات والسلع المدعومة، والوقود وقطع الآثار وأراضي وأملاك الدولة، ورمال الشواطئ، والسلاح المهرب عبر حدود مترامية ومفتوحة، وغطاءات المجاري المعدنية، وأسلاك النحاس وخيوط الكهرباء، والمهاجرين الحالمين بعبور الأزرق، والبشر لمن يدفع سعراً أعلى.
لكن في قلب المدينة على أطلال سوق الثلاثاء القديم يزدهر سوق آخر كل يوم جمعة… سوق الطيور المستوردة المأسورة في أقفاص ضيقة. طيور أجنبية جميلة الألوان والتقاطيع، والأهم أنها عذبة الصوت. تأتي مجموعة في أقفاص ضيقة، في سفن تجارية، يَنفق بعضها في رحلتها القسرية من الشمال إلى الجنوب، في حين تستبدل بتجارة مشابهة لبشر متعبين، فاقدين لسحناتهم الحقيقية المردومة بفعل الإجهاد من الجنوب نحو الشمال، ينقلون في مراكب خشبية، سرعان ما تتفكك وسط البحر…يغرقون فيه، أو تنتشلهم بعض السفن التجارية التي كانت تحمل الطيور الملونة في طريق عودتها.
استبدل علاء حمام والده البري الطليق الذي سكن على سطوحهم في بيوت خشبية مفتوحة يبيض فيها ويهجرها ويعود اليها ويتبادل السكن فيها مع أخرى، بطيور الزينة المستوردة. بنى لها أقفاصا كبيرة، واعتنى بها ووضع لها جهاز تكييف في فترات الصيف القائظ، وفرش في قاع أقفاصها التربة الصناعية، وأطعمها الحبوب المستوردة، وطحن لها الثوم ووضعه في مائها لعلاجها من الزكام.
يحمل “عليوة الببغاء” عصافيره الجميلة كل جمعة إلى السوق، يتباهى بها، “باباغلينو” الحالم بأنثى تأكل من منقاره، “الجارديل” المغني الذي يتنافس تجار الذهب على شراءه لجذب الزبائن والرزق، “الكناري” المغرد، والببغاء المتكلم البارع.
طرابلس 2017 (الطيور المهاجرة)…
لم يعد الحمام والزرزور و القصبي والخطيفة والحمراية والحبار والبوبشير والقنيبرة ذي اهتمام السكان، لم يعد أحد يراقبها أو يتدبر في أمرها، أو يحكي حكاياتها، أو يهتم بها.. سكان المدينة مهمومون وكأن الطير فوق رؤوسهم. لم تعد النساء تغني على الطوير الأخضر “اللي ريشه ريش العسكر”، ولا عن مكاتيب الحب التي يوصلها الحمام ولا عن حناء الخطيفة في الأعراس… تقف النسوة طوابير أمام المصارف تستجدي رزقها بعد أن كان رزقها يأتيها كالطير إلى عندها. لم يعد الصغار يصطادون العصافير بالطربيقة، ولا بالطعم، أصبحوا يتحسسون المسدسات ويجربونها في رؤوس البشر.
لكل طير غريب ثمن… بداية من ببغاء جدتي الإفريقي، إلى كيتو بيتنا الأكوادوري، إلى بباغلينو وجراديل وكناري “عليوة”… أما طيور الوطن لم يفكر أحد في إستئناسها، أهملت بحجة أنها برية حرة..مات منها من مات قتلاً أو كمداً، وهاجرت أخرى إلى غير عودة، ومازال منها من يصطك خوفاً، يتشبث بعشه رغم شظف الحياة ودنو الموت.
14 يوليو 2017