تتمدد شمس الخريف فوق حي (الشرقية)، مثل عجوز متصابية تلعق ما تبقى من حياة: في وجوه المارة المتجهمة النزقة، في الشجيرات الشعتاء المحاذية للطريق، في العشب الباهت الذي خلفته غدران متهتكة، في حفر الطين التي نست أن تطمرها البلدية، في السيارات المتهالكة وهي تطش مياهاً قذرة على الرصيف، في الأعلام المهلهلة المتساقطة على أكوام القمامة، في صور المرشحين المبتسمة منذ آخر انتخاب قالوا أنه عرس وطني، في سيقان العمال الممدودة على الإسفلت بانتظار ساعة رزق لم تأتِ بعد، في وجوه الأمهات الفقيرات وهن يجادلن بائعي الخضار، في نظرات المُسن الذي خرج للتو من المخبز وفي كيسه رغيف يتيم ينعي به نبأ وحدته القاسية، في الوجوه المرهقة الغاضبة التي تطل من السيارات، تعلن تبرمها وانزعاجها من اختناق الطريق.
هنالك، عند تقاطع الشوارع الأربعة، وحيث انقطعت الكهرباء عن الإشارة الضوئية في وقت الظهيرة، وحيث زحفت السيارات كوحوش جائعة باتجاه بعضها البعض، يقف شرطي المرور الشاب بحلته البيضاء الناصعة، حائراً وحيداً في بؤرة الازدحام، يصارع المد المنهمر من الهياكل والأبواق والزعيق والشتائم المعلنة والمستترة، يطلق نداءه عبر أنين صفارة متوسلة، يزيح إلى الخلف قبعته الأنيقة، محاولاً اكتشاف فجوة لتسليك الدرب المسدود.
تتداخل الصفوف، تنغلق المسارات، تتوقف الحركة تماماً، لا شيء يوحي بانفراجة ممكنة، تتعالى الأصوات، يطرقع صوت تحطم مرآة جانبية لسيارة يقودها سائق نزق، “أوووووه!!”، يصيح الجميع، ملتفتين نحو السائق.
فجأة، يسود الصمت، حين تظهر فتاة من بين صفوف السيارات، تدفع جسدها النحيل بحذر بين الهياكل المعدنية الملوثة بالوحل، تجمع بإحدى يديها طرفي كنزتها الزرقاء فوق نهديها، وتلوح باليد الأخرى باتجاه الشرطي، تهبط ضحكتها اليانعة برداً وسلاماً على الوجوه المتجهمة، فيمدون أبصارهم إلى حيث تسير.. تقترب من بؤرة الزحام.. تتسارع رفرفة وشاحها الوردي وخصلات تتطاير بغنج من مقدمة رأسها، تقفز كعصفورة باتجاه الشرطي الغارق في دهشته.. يرخي الصفارة من بين شفتيه فتفر متأرجحة في قلادتها على صدره، ينزع قبعته في الثواني القليلة المتبقية من وصول الفتاة التي ألقت بنفسها بين ذراعيه المشرعتين لها، وغمرته في عناق حار طويل..
بهت كلُّ من في الطريق، وأصيبت السيارات بكساح مفاجئ، سكت زعيق الأبواق. وتوقف بائعو الخضار في الأكواخ القريبة عن الصياح، ودفعت الأمهات الفقيرات ثمن الطماطم بدون مماكسة. لعق الشبان شفاههم، ونز العرق من وجوه الكهول، ومسحت النساء بأطراف أصابعهن دموعاً سخية، وألقين نظرة غير مفهومة على وجوههن في مرايا سياراتهن.. ظلت الفتاة متشبثة بعنق الشرطي، وهو يضم رأسها بيدٍ، ويطوق خصرها باليد الأخرى التي مازالت تمسك بقبعته البيضاء الأنيقة. وفي ذروة لحظات الدهشة، وحيث نسى الجميع أنهم كانوا في طريقهم للعودة إلى بيوتهم، وأنهم كانوا قبل قليل جائعين، ومرهقين ومتوحشين، ترجل عدد من الشبان، بوجوه مبتسمة، وآذان حمراء تطفح بالخجل، استداروا باتجاه السيارات المتناطحة، وطالبوا السائقين بالعودة إلى الخلف قليلاً لتمرير السيارات العالقة، استجاب الجميع بهدوءٍ ورضا، وكان الشرطي الشاب يهمس شيئاً حميماً في أذن الفتاة وهو يضمها في غمرة عناق أخيرة قبل أن تودعه بابتسامة عذبة وتعود أدراجها في الاتجاه الذي جاءت منه. في تلك اللحظات أطلق السائقون أبواق سياراتهم في نغم إيقاعيّ موحد إعلانا عن حالة فرح عارم.
المنشور السابق
المنشور التالي
عائشة إبراهيم
عائشة إبراهيم من مواليد مدينة بني وليد، درست الرياضيات في كلية العلوم ثم الإحصاء في الدراسة العليا، عملت بالتدريس، ثم بالإعلام الانتخابي بالمفوضية العليا للانتخابات. بدأت تجربتها مع الكتابة في سنوات مبكرة من خلال المسابقات والأنشطة المدرسية، وفازت عام 1990 بالجائزة الأولى على مستوى مدارس الدولة الليبية بنص مسرحي بعنوان (قرية الزمرد). صدر لها خلال العام 2016 رواية (قصيل) عن دار ميم بالجزائر، وأدرجت الرواية ضمن المقرر الدراسي في مادة السرديات ببعض الجامعات الليبية، ثم رواية (حرب الغزالة) التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر للرواية العربية، ثم (العالم ينتهي في طرابلس) وهي مجموعة قصصية صدرت في 2020، ولديها تحت الطبع رواية (صندوق الرمل)، حازت على تكريم من منظمة الصداقة الدولية في دولة السويد ضمن 60 شخصية نسائية مؤثرة ومبدعة، ونالت وسام الإبداع والتميز عن وزارة الثقافة الليبية 2020، تقلدت رئاسة لجنة تحكيم مسابقة القصة القصيرة للشباب في دورتها الأولى التي نظمتها وزارة الثقافة الليبية، وترأست لجنة تحكيم المهرجان الأدبي لإبداع اليافعين خلال العام 2019، شاركت في عضوية لجنة تحكيم مسابقة سيكلما للقصة القصيرة خلال العام 2019.
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك