من أعمال التشكيلية الليبية .. مريم العباني
قصة

الحمام ليس للبيع

من أعمال التشكيلية الليبية .. مريم العباني

“هذا آخر مخزون الطعام “…

قالها بمرارة، وهو يرمي بفتات خبزٍ يابس داخل القفص الحديدي الكبير. هَدَلَ الحمام مواسياً أو معترضاً، وربما مرعوباً مِنَ النّهاية المحتملة، غير أنَّه انكبَّ على الفتات الملقى على الأرض، يزاحم بعضه بعضاً، كلٌّ يستعمل طريقته في الاستئثار بأكبر قدرٍ مِنَ الطعام لنفسه.

الذُّكور الفتيَّة ظلَّت تنفخ رقابها في وجه الإناث المترددة فتبتعد الإناث، تقف في الرُّكن البعيد، على حافة أحد الصناديق المصفوفة فوق بعضها البعض، تنظر يمُنة ويسرة بحركات سريعة وكأنَّهُا تندب خيانة ما، وتقاوم – في الوقت ذاته – دموعاً على وشك الانهيار. لا يأتي لمواساتهن سوى الآباء المتقدمين في السنِّ والَّذين عجزوا عَنْ مقاومة الفتية، فانسحبوا يراقبون المشهد بحسرة على أيام الشَّباب ناقمين على أولادهم الفتية وعلى المجاعة والحصار.

الأمهات لاحظنَ أنْ الذُّكور الفتية لَمْ يحترموا القاعدة الذهبية لقانون الطبيعة الخالد، والَّتي تنصُّ على أنَّ الأولوية في الحصول على الطعام تكون للأمهات… قاومنَ جبروتهم غير عابئاتٍ بمناقيرهم الحادة الَّتي كانت تنتف ريشهن بلا رحمة كإشارات للمغادرة، لَمْ يهزمهن ذلك فالصغار داخل الأعشاش في الصناديق تفتح مناقيرها للهواء تستجدي فتات طعامٍ قد ينقذها مِنَ الهلاك كآخرين.

راح سعيد يراقب المشهد بحسرةٍ، يقاوم دموعاً ما فتئت تلحُّ عليه منذ خمسة عشر يوماً قضاها محبوساً مع حمائمه في هذه الشُّرفة… لَمْ يندم لأنَّه لَمْ يغادر الحي كما غادره الآخرون، فكيف له أنْ يغادر ويترك حمائمه للجوع والموت والضياع؟. كيف له أنْ يهجر حمائمه الَّتي أنس بقربها مذ ماتت زوجته وتركته وحيداً في حي يكتظ بالمشغولين؟ وسط مدينة لا تعبأ بأحد.

تنهد بحرقة وهو يتذكر زوجته، تزاحمت صورها في ذاكرته.. أزيز رصاصة مرَّتْ بالقرب مِنْ أذنه واصطدمتْ بالحائط يشدُّ انتباهه، انفجارها على الجِّدار خلَّف فجوة جديدة فيه.. تناثر فتات الحجارة والغبار، جفلت الحمائم كالعادة، وتوقف هديلها وعراكها وهي تنتقل بأبصارها بحركات رقابها وعيونها العصبية السَّريعة بين الفجوات الَّتي أحدثها الرصاص على الجِّدار، وبين صديقها سعيد الممدَّدُ على بلاط الشُّرفة.

منذ ستة أشهر تقريباً، كانت زوجة سعيد تتمدد أيضاً على ذات البلاط وقد تناثر غسيلها المبلول حولها ، تتضرج في دمها المتدفق مِنْ فجوة في رأسها أحدثتها رصاصة – قيل أنَّها طائشة…

“ليست طائشة، إنها رصاصة هذا القنَّاص الطَّائش”

تمتم سعيد وهو يقاوم إحساساً بالذَّنب ولد يوم رفض طلب زوجته بمغادرة الشَّارع بَلْ الحي بَلْ المدينة بأسرها، ونما مع نزوح أهل الشَّارع والمدينة جميعاً وبقائهما وحيدين في شارع مظلم طويل، ثمَّ تأجج هذا الشّعور الكاوي حتَّى أصبح أشبه بالحمم. ضغط على أسنانه قهراً، وترك العنان لدموعٍ غلبته، فانسابت على جانب وجهه وسقطت على البلاط. فتح عينيه ونظر إلى السَّماء، تراءى له أنَّه رأي طيف زوجته يناديه.

أكانت هذه الرَّصاصة هي العتبة الَّتي توصله إليها؟ هي بوابة الخلاص مِنَ الوحدة والعذاب والضياع؟ فلم لا يقف إذن، ويترك الفرصة لذاك القنَّاص أنْ ينقله برصاصه المجنون إلى حيث الراحة والسكينة والأمان؟… ارتاح للفكرة، غير أنَّه حين نظر بطرف عينه إلى قفص الحمام الَّذي يحتل زاوية كبيرة مِنْ شرفة شقَّته تراجع قليلاً، وعاد إلى التمدُّد على البلاط…

سأطلق سراحها”.

اتخذ قراراً مفاجئاً وهو لايزال ممداً على الأرض.. أقنع نفسه أنَّه إن واصل حبس حمائمه هُنَا فهي لا مناص ستموت بعده أو معه جوعاً أو مرضاً، وحتَّى لو لَمْ يتخذ قرار تسليم روحه لهذا القنَّاص المجنون، فالموت لحمائمه لاشكَّ قادم، فلا طعام لديه الآن، لا له ولا لها، والشارع الخلفي الَّذي كان يتسلل منه إلى أكداس القمامة أو إلى المحلات البعيدة ليحصل على طعام لها و له قد سدَّه ركام البيوت المتهاوية بفعل طلقات المدافع المتبادل بين الجيش وأفراد المليشيات المسلحة منذ أسبوعين.

“يمكنكِ أنْ تحلقي بعيداً يا حمائمي، ستجدين الطعام في كلِّ مكان، فهذه البلد لا يموت فيها أحد جوعاً إذا نجا مِنْ رصاص القنَّاصة”

ابتسم بمرارة وهو يعدِّل مِنْ جلسته ويقترب مِنْ قفص الحمام دون أنْ يقف، ثُمَّ أضاف وهو يفتح باب القفص للحمام:

“ستفزعك الجثث البشرية يا حمائمي، ستجدينها والثَّعالب والقطط والذِّئاب والكلاب في كُلِّ مكان في هذه المدينة، لذا أغمضي عينيك وحلِّقي بعيداً، بعيداً جداً، إلى الجِّبال… إلى الصَّحراء، إلى أي مكان غير هذه المدينة المكتظة بالألم”

زحف بعيداً عَنْ باب القفص المفتوح، أغمض عينيه في ألم ثُمَّ قال بحزم:

“هيا.. اذهبي”

لَمْ تحرك الحمائم ساكناً، وإنَّما راحت تنظر إليه بقلق.

“حسناً… أما ترين أنَّ الموت قد بدأ يخطف صغارك، هيا اذهبي وتكاثري بعيداً، وأسسي مملكة للسلام، و….”

تنهد بحرقة وأكمل:

“واذكريني”

هدلت بعض الحمائم وكأنَّهُا تردد:

“مجنون، مجنون”

أو ربما تؤكد:

“سنبقى معاً، أبداً وأبداً”

أو لعلها تقول:

“كيف لنا أنْ نعرف الطَّريق إلى العالم الخارجي بعد حبس طال كثيراً حتَّى ألفناه”

من أعمال التشكيلية الليبية .. مريم العباني

شعر بالذَّنبِ مرَّة أخرى… لو أنَّه فكر بمنطق المساواة والعدل والحرية لما اتخذ مِنْ مهنة تربية الحمام وبيعه مصدر عيش له ولأسرته، أليست زوجته كانت تردد دائماً: “الحمام ليس للبيع، الحمام خلق ليكون حراً طليقاً، يمنح الأمل بالسَّلام والمستقبل الأفضل؟” لماذا لَمْ يأخذ برأيها؟.

ضرب البلاط بقبضته، صرخ بغضبٍ ممزوج بندمٍ وعجز:

“اللعنة”

ثُمَّ تنفَّسَ وهدأ قليلاً وقال:

“ما حدث قد حدث، ليس أمامنا الآن سوى أنْ نقرر، و… .نفترق”

قال ذلك، وهو يلصق جسده بشدة بجدار الشُّرفة تفادياً لرصاصة أخرى مِنَ القنَّاص المترصد، ثُمَّ أضاف:

“سأنتظر هُنَا، سيدفعكم الجوع حتماً إلى الخروج، ومع خروج آخر طير منكم سأقف وأغادر إلى زوجتي الحبيبة”

وضع يده على قلبه، عدَّ خفقاته للحظة، تابع:

“كانت أكثر رأفةً وعنايةً منِّي بكم، كانت تنظف لكم الأقفاص وتطعمكم، وتداوي مريضكم، و…”

سكت قليلاً، تنهد، ثُمَّ تابع بحرقة:

” و……. تبكي طويلاً على مَنْ آخذه منكم للبيع، بَلْ وترفض أنْ تأكل أي شيء أحضره مِنْ ثمن البيع”

عاد إلى السّكون مرَّة أخرى، تأمل حمائمه، هُيأ إليه أنَّه يسمع صوت نبضها، وضربات قلوبها الحائرة.. كاد للحظة أن يعود لغلق الباب، زمَّ شفتيه حتى كاد أن يدميها، ثمَّ أضاف في حزم:

“سأنتظر…”

راح ينقر البلاط بسبابته فيما يُشبه صوت عقارب الساعة، وكأنَّهُ يُذَكِر الحمام بأنَّ الوقت قد بدأ ينفذ… بعد لحظاتٍ غلبه النعاس فراح في إغفاءة صغيرة… لَمْ يوقظه سوى صوت أقدام كثيرة في الشَّارع وفي العمارة بَلْ وداخل شقته… فتح عينيه بتثاقل، فوقعتا على حذاء عسكري ضخم يحتوي قدمين ضخمتين… رفع بصره إلى الأعلى فرأي عسكرياً ينقل بصره بين سعيد وقفص الحمام الخاوي.

“حمداً لله على السلامة”

وعن سؤال أطلَّ في عينية أَجَابَ العسكري:

“نحن أفرادٌ مِنَ الجيش، لقد كنُاَّ نحاصر الشَّارع منذ أيام أملاً في القبض على القنَّاص الَّذي أرعب الحيَّ والشَّارع، غير أنَّنا لَمْ نتمكن مِنْ ذلك لولا حمائمك”

“حمائمي؟”

ردد سعيد مستغرباً وهو يجلس في مكانه بمساعدة العسكري، الَّذي أَجَابَ بسرعة:

“أجل، لقد أصاب ذاك القنَّاص الغرور ـ وظنَّ أنَّه بالغدر بشباب الشَّارع، وإجبار أهله على المغادرة، ظنَّ أنَّه السَّاكن الوحيد في الشَّارع، لَمْ يَكُنْ يعلم أنَّنا نترصد له، يبدو أنَّه ظنَّ أنَّك آخر مَنْ سقط برصاصه، وحين لَمْ يجد روحاً بشرية ليصطادها، فرّغ رصاصه في حمائمك المتطلعة إلى سماء الحرية”

هدلت حمامة ونزلت على كتف سعيد، فأشار إليها الجندي قائلاً:

“هذه الحمامة الناجية الوحيدة، هي مَنْ أخبرنا أنَّ رصاص القنَّاص قد نفذ فاندفعنا إلى الشَّارع وإلى العمارات المقابلة وقبضنا عليه”

“شكراً لك ولها”

قالها العسكري وهو يبتسم، ويمدُّ يده مرَّة أخرى إلى سعيد ليساعده على الوقوف، ثُمَّ ما لبث أن غادر هو وفرقته بسرعة… نظر سعيد إلى الشَّارع… في الأسفل كانت حمائمه تتضرج في دمائها على الإسفلت مِنْ أول الشَّارع حتَّى آخره… اعتصر قلبه وانهمرت دموع عينيه حتَّى نزلت على صدره الملتهب… رفع بصره إلى الأعلى، نظر إلى السَّماء… كانت زوجته هُنَاك تبتسم يحوطها البياض، وحولها ترفرف الحمائم.

مقالات ذات علاقة

جدار ناري

سعاد الورفلي

البرقية

إبراهيم دنقو

إذاعة صوت القلب

صفاء يونس

اترك تعليق