المقالة

حول السيناريو وإشكاليات التأليف

لن أدخل في تفاصيل تكنيكية، استعراضية، حول السيناريو وتعريفه ومن اخترعه، لأن هذا الكلام لا يسعه، ولأنني لست في محاضرة أكاديمية تهتم بالأسماء، بالقدر الذي أريد أن أعكس وجهة نظر تختص بالكتابة واللغة المرئية على وجه الدقة، كون هذه الأخيرة لغة Linguaggio وليست لسانا Lingua، بمعنى أنها تتحدث بالدوال الصورية والإشارات والعلامات، لا بالكلمات، إضافةً إلى رغبتي في الإيجاز وتوضيح ما يهم أكثر من التعميم على مايهم دون إيضاحه.
“السيناريوهات”، سواءً للسينما أو للتلفاز، أو للإذاعة المسموعة، عليها أن تنسلخ من إشكاليات الكاتب النفسية، والاجتماعية، والذاتية تحديداً، عليه إن كان كاتباً حقيقياً، أن ينظر في المشكلة الاجتماعية من داخلها بدقة، لا من داخله هو، عليه أن لا يعكس كوارثه، في علاقاته الفاشلة مع المحيط، أو مع أسرته، أو مع عشيقته، أو زوجته، ويرى أن حدود الواقع هنا، عليه أن يترك المهنة فوراً، إذا كان تفكيره يجنح إلى هذا الأمر، يمكن للشاعر وحده أن يكتب ذاته، وعلاقاته في صياغات شعرية، كاتب السيناريو عليه أن لا يستخدم دور الشاعر، بقدر ما يستخدم آليات الشاعر الجمالية في سيناريو خال من أي هرطقة أخرى، عدا أن يكتب موضوعاً ما، بلغة مرئية، خاصة بقواعد ولعبة الفيلم، أو أي شيء آخر ذي علاقة مباشرة بكتابة السيناريو.
غير معقول أن تكتب سيناريوهات على مقاس هؤلاء أو على مقاس ذائقتهم أو ذائقة منتجيهم، أو حتى على ذائقة رؤسائهم من الشركة إلى الدولة.
السيناريو الذي سيتحول إلى فيلم، هو حالة تربوية محضة، إنه التعليم والتربية مجتمعان، إنه في صناعته وهيبة محتواه، يتشابه مع هيبة وقيمة صنع وزارة أو مؤسسة تربوية، لهذه الأسباب تحديداً، المسلسل أو الفيلم سيجلس أمام شاشة عرضه، ملايين من شرائح هذا المجتمع أو ذاك، من البروفوسور جراح الدماغ أو جراح القلب، إلى الأستاذ الجامعي، إلى العامل البسيط في أي مجال آخر (أتحدث هنا عن دولة في ظروف عادية).
أغلب حالات الشذوذ عن أي قاعدة اجتماعية، أسبابها (التلفزيون) بالذات، والسينما بشكل أو بآخر.
إن كاتب السيناريو يعتقد بشكل مسبق، و(جازم) أن قتل عشيقة واجب، لمجرد أن عشيقها يحبها بجنون. أو ذبح زوجة، أو تسميم زوج، من أجل عشيق، وإلخ من الهراء والعبث. هذه الحماقة ينقلها كُتَّاب السيناريو النصف أميين، إلى أسرنا ونحن نشاهد، ونقرأ الصورة ونتعاضد معها؛ أو لنقل أولئك الذين قرؤوا عشرة سطور من مجلد يحتوي على ألف صفحة، سواءً في السينما أو في علم الاجتماع، وقالوا إن مهنتهم كتابة السيناريو.
إذا أردنا تقليد الغرب لمجرد أنهم يكتبون بحرفية، وسرقنا السيناريو كاملاً، فإن مأساة هذه الأمة ستتحول إلى أكثر من مجرد عرائس تتحرك، لذا فإن إقبال شاب في الجامعة على اغتصاب فتاة أو حتى قتلها، هو جريمة، وصاحبها مجرم من الناحية (القانونية فقط)، لكنه “بريء” من الناحية الاجتماعية، لأن الذي ربّاه على فعل هذا، هو كاتب سيناريو أحمق، وفاسد ثقافياً، إضافة إلى أنه أمي في مجاله، بسعة الكرة الأرضية نفسها.
آليات كتابة السيناريو، حرفة تقنية، تتشابه ودراسة الهندسة المعمارية تحديداً، اللغة المرئية سيدة الموقف فيها انفصال وتنفصل اللقطات، دلائل على تقنية عالية الجودة، وصعبة في معانيها، هي مهمة جداً، ولكن ما يهمنا فيها هو (حشوتها) بماذا نملؤها؟. السيناريو هنا هو امتلاء لقطة بمحتوى ما، يمكن أن يكون قذارة، أكركم الله، أو مشاهد فاحشة، أو يمكن أن يكون (جمالاً محضا) لصورة “أم حانية على طفلها” المصاب بطلقة نار عشوائية، بين أقوام مجانين بلا أي ضابط أو كبير يحكمهم.
الواقع أننا حتى هنا، في كتاباتنا في الصحف، أو حتى على صفحاتنا الفيسبوكية، مسؤولين عن حالة ما تختص بمشاعرنا، وبصرف النظر عما إذا كنا حذرين أو أطلقنا لجام مشاعرنا، علينا إدراك طبيعة من تربطنا معهم علائق نسميها نحن (وهمية) وهي ليست كذلك.
في عصرنا هذا، تأكلنا التقنيات من كل جانب، وربما نقول: مادخل الكتابة الصحفية بالفيلم؟ أو أحياناً، ما دخل الفيس بوك بالفيلم؟ أو حتى بالقضايا الاجتماعية، الخاصة بما نكتب على كل منا، وإن يكن فاتنا في مرات عديدة، الوقوف عند بعض انثناءاتنا العاطفية، وقمنا بسردها أو قمنا بمشاركات قد تليق ببعضنا ولا تليق بالآخر، هذا متوقف على نوع صداقتنا وعلاقاتنا بالتحديد، وجمهورنا المرسل إليه؛ فالفيلم، وإن عملت معه علامة تشير الى + 18، فهو بلا قيود، وكذلك المسلسلات والقنوات التي لم تعد لها موازين تحكمها أصلاً، كلها وسائط تختلف في “طبيعتها”، وإن تشابهت في جوهرها مع الواسائط الحديثة بكافة مجالاتها، وقوة تأثيرها المباشر وغير المباشر، من الفيس بوك، إلى التويتر وغيرها، مع اﻻحتفاظ أن هذين الوسيطين الأخيرتين، ستكونان ثورة الاتصال غير المعهودة، والأكثر من ذلك أنهما غير محكومتان بضوابط نشر قانونية من أي نوع، فالكل فيهما كاتب، والكل فيهما أديب ومصور ومخرج، وفيلسوف، ببضاعة كتابية (لا حدود فيها لأي دستور) خصوصاً في دولنا النامية، الهائمة في السبات بلا هواذة تستيقظ من أجلها حتى هذه الساعة.
وسائط الاتصال الحديثة أصبحت مسؤولة بالكامل، وعليها بأي شكل من الأشكال، أن لا تتم دراستها من خارج حقول الاتصال، التي بدأت تتطاول على التقنية الحديثة ذاتها، في عصر ما بعد الصناعة، و ما بعد الحداثة، وما بعد العولمة، المشكل الأعمق أن موروث المشاعر صار بلا هدى، ودخل في قلب أعصابه الدقيقة، تعالق معمق مع وسائط الاتصال، حتى أضحى يسير وفق قانونها الذي فرضته بهيمنتها. هنا يجيئ دور كاتب السيناريو المحترف، وكاتب الرواية وكذا كاتب القصة، وحتى كاتب الشعر، ليس للأمر علاقة بالتقييد أو كبح جماح الإبداع، والإلزام والالتزام، الأمر في رأيي متعالق مع مشاعر غير منفصلة مع (الموروث) لكنها متمفصلة معه قد تنقطع في يوم ما، فلا نجد أثراً لشيء اسمه (هوية) أو لنقل، شيء اسمه سؤال اجتماعي، (من نحن؟).
هناك إشكالية أخرى جوهرية، علينا الوقوف عندها والتفكير في حيثياتها وماهيتها، وهي الدستور الذي يربط الرواية بالفيلم،

أو بالمسلسل الاجتماعي التلفزي، العلاقة المتبادلة بين الأدب والسينما، أو الأدب والتلفزيون، أو لنقل بأكثر تعميم: (حالة الأدب في الفنون المرئية) عموماً، والذي يهمنا منها هنا، هو العلاقة بين وسيطين فقط منها، وهما السينما والتلفزيون، باعتبار أن هذا الأخير قد ولد من رحم السينما، وإن اختلف معها في التقنيات، والبث، إلخ.
السينما وعبر تاريخها نهلت من الأدب بشكل متواصل منذ طفولتها المبكرة، حين لم يكن عمرها قد تجاوز السبع سنوات، تحديداً في الفيلم الشهير (رحلة إلى القمر)، للمخرج الفرنسي جورج ميليه، الذي جعل من السينما مسرحاً شعبياً باستخدامه للأدب وتعالقه بالمسرح، وفن الرواية كذلك، ثم بدأ الأمر على أشده حين تبنت الشركات الكبيرة مشروع إنتاج الأفلام، وحين تحولت السينما برمتها إلى شركة مصنعة ضحمة تجاوزت حدود الكرة الأرضية، من أقصاها إلى أقصاها، وأصبحت هذه الشركة المسماة، “هوليوود”، هي الراعي الرسمي للأفلام الضخمة بعد تعاونها مع رأس المال في الشركات متعددة الجنسيات، فتحول الأدب من مكتوب على ورق، إلى لقطات سينمائية مؤفلمة، هنا يجدر التساؤل الكامن في علاقة الأدب بالسينما. وللإجابة سنلاحظ أن الأمر برمته تحول بين يدي شخص واحد بث رؤيته المرئية في شريط سينمائي، إنه المخرج بلا ريب، وهنا تحديداً، سنكون مرغمين كقراء أدب إلى قراءة الأدب من وجهة نظر شخص آخر اسمه (مخرح)، لا من وجهة نظر رؤيتنا نحن كقراء أدب، لم نعد نقرأ رؤية أديب أو روائي أو قاص، ولم تعد لنا رؤيتنا الخاصة للصورة التي نتخيلها نحن من وراء الكلام الأدبي المكتوب في الرواية التي بين أيدينا، حيث نكون نحن مخرجيه، يعني لو افترضنا أن نسخ رواية كاتب ما تعدت العشرة آلاف نسخة، وكانت قد قرأت من قبل عدد القراء الذين اقتنوها، وقد يصل عددهم إلى أكثر من عدد النسخ، نظراً لتداول الرواية نفسها واستعارتها من شخص لآخر، فإننا نكون أمام عشرة آلاف فيلم أو يزيد، في الوقت الذي حين تتحول الرواية إلى فيلم، فإن مخرج واحد، بوجهة نظر واحدة، سيفرض رؤيته على ملايين من المشاهدين، ومن جهة أخرى، فإن ملايين الرؤى الأدبية لملايين القراء، منسوجة من رؤية كاتب واحد، فيما السينما تكون رؤية واحدة مقابل ملايين المشاهدين من قراء الصورة هذه المرة، لكنهم ليسوا بقراء أدب إنما قراء لرؤية لقطات مؤطرة خالية من أي تصرف في المخيلة، لأن المخيلة جاءت في قالب واحد لوجهة نظر إخراجية واحدة فقط، إضافة إلى أن الذي أحالها من أدب إلى سينما، هو كاتب سيناريو مختص في تحويل الأدب إلى صورة، وهو كاتب واحد فقط، وقد يتجاوز العدد إلى اثنين أوثلاثة كحد أقصى.
بإيجاز يمكننا أن نقول إن: “السيناريو هو الشعر بالصورة” *، و”السينما هي الشعر بالضوء” على حد تعبير آبيل غانس، ولكن أي صورة وأي ضوء؟، إنها تحتاج إلى مبدع فذ، ثقافته بوسع الكون، يخاف من ضميره، ومن قراءاته، ويتعامل وفق واقعه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* التعريف من عندنا.
أما تعريفه الكلاسيكي في(أبسط صوره) فهو “قصة تروى بالصور”، أو هو (الفيلم نفسه مكتوباً على الورق). وله طريقتان يكتب بهما، أدبي ويكتبه متخصص في السيناريو، وإخراجي يكتبه المخرج نفسه عندما يحيله إلى ما يسمى بـ “الديكوباج”، ثم يحال إلى رسم لقطات، “ستوري بورد”.

مقالات ذات علاقة

محطات ومواقف

المشرف العام

محنة الثقافة المسروقة

أبوالقاسم المزداوي

إلى إيما

شكري الميدي أجي

اترك تعليق