علي مصطفى المصراتي
من يوم أن خرجت من السجن وأنا مشرّد من غير مسكن وهذا مما يزيد الألم والشجن ويُشعر الانسان بأنّه تائهٌ في وطنه حائرٌ بين قومه كسير الجناح ، ونزلت ضيفًا على رجلٍ كريم ولكنّي أكثرت حتى خِفت أن يرميني من الشُبَّاك وآثرت الرحيل باحثًا عن مسكن وأنا أذكر المثل العربيّ ” زر غبًا تزدد حبًا ” والمثل الطرابلسيّ ” ارحم من زار وخفف ” ولكني أصبحت كحالة أخينا الأكبر الشاعر أبي الشمقمق عندما يصف حاله :
برزت من المنازل والقبابِ
فلم يعسر على أحد حجابي
فمنزلي الفضاء وسقف بيتي
سماء الله أو قطع السحابِ
فأنتَ إذا أردت دخلت بيتي
عليَّ مُسلِّمًا من غير باب
لأنّي لم أجد مِصراع باب
يكون من السحابِ إلى التُرابِ.
وأخيرًا عطف عليَّ أحد العُمّال بارك الله فيه فأعطاني دارًا في حيٍّ ممتلئ بالخمور والفجور فصرت أتلصص في الدخول إليه لأن هذا موضع ريبة وموطن تهمة .. والرسول يقول – إتقوا مواطن الشُبهات – فلا أدخله إلا في الهزيع الأخير من الليل كأني قِطّ أو موسى عندما دخل المدينة على حين غفلة من أهلها يتوجّس .. ورضيت بهذا كله ، رغم أن الدار فوق السطوح ضيقةً تصلح أن تكون عشّةَ دجاج أو محبس عنز أو جحر أرنب أو مرتع فئران ولكن حشرت نفسي وكتبي وحقائبي وسرير طلبته وفراش نهبته وأسطواناتي ومخطوطاتي ، وحمدت الله الذي لا يُحمد على مكروه سواه وتذكّرت مناظرة أقيمت في القاهرة منذ عشر سنوات وكانت تدور حول تحديد النسل وأن البلاد ضاقت بأبنائها فقفز صديقي الشاب من جانبي وصعد على مِنصّة المناظرة وارتجل قائلاً .. أتضيق مصر عن أبنائها وهي تحمل كل من هبَّ ودبَّ ؟ .. إيه والله لقد ضاقت بي بلادي ولم أجد في طرابُلس مسكنًا وصبِرت وعلَّمتني البلاد الصبر وطول الانتظار ، وهطلت الامطار وتزايدت فحمدت الله وقلت اللهم زد وبارك اللهم آتنا بالغيث ، يا مطر زيدي اللهم أكثر ” الشبوب” ومع أنّي لست وليًا ولا رجلاً صالحًا وليس جدّي ” مرابط” لكن يظهر أن أبواب العرش كانت مفتوحةً وأن الملائكة حملت دعائي بسرعة البرق واستجاب الله لدعائي في الحال والحين ، وهطلت الأمطار وتزايدت وتزعزعت أركان الدار وكنت أحسب للدار سقفًا فإذا به ” غربال ” أو ” كسكاس” ففي أيام الصحو تبدو منه النجوم والسحب والغيوم وأشاهد منه صراع الليل والنهار على مسرح الأفق .. وفي شدة الأمطار كانت الخيوط كأنّها ” ميازيب” وصرت أدعو الله .. كفَّ المطر اللهم حولينا ولا علينا وكدت أُصلِّ صلاة الاستسقاء أو كفِّ المطر فهي لها في الفقه باب ولكن نسيت كيفية صلاة مفِّ المطر ثم كيف أدعو بكفِّ المطر وغيري من أهل البادية وأصحاب المزارع والحِراثة يصلّون ويدعون وهم أقرب إلى الله.
ونزلت الأمطار وتواصلت خيوطها وارتعشت من البرد وجمدت أطرافي وأخذت أشهد وأحوقل وأدعو بآيات حفظتها في صباي مع أختي ولكن نسيت أكثر الآيات والأدعية ” جاك الموت يا تارك الصلاة ” .. لا إله إلا الله .. الموت حق استغفر الله وصرت أعد بالصدقات والتطوعات وأن أكون صوفيًا صالحًا .. ربي سامحني … وما استطعت الكلام إنما كان هذا يدور في خاطري وهل ينطق من في فيهِ الماء ؟! ولبست كلّ المعلَّق على الحبل والمرميُّ تحت السرير وسمعت السقف يسبّح ويقدّس وخشيت أن يتزايد الخشوع والخضوع فيركع ويسجد فوق أم رأسي .. ثم رأيت كتبي تزحف والاسطوانات تجري في الماء كأرجل البطّ والأوراق غاصت ثم طفت واصبحت في بحيرة فرعون لا بحيرة قارون.
والمخطوطات النادرة التي تعبت في بحثها وجمعها والآثار القيّمة التي أحافظ عليها أكثر من وظيفتي ومرتّبي والنقود الأثريّة التي اشتريتها بثمنٍ باهظ ومجموعة طوابع البريد عبث بها الماء فأصبحت كنفايات الاطفال ، وطربوشي الوحيد والمقالات والأقاصيص والبحوث والرسائل والخطابات أصبحت تجري كأنها فلك نوح تجري في موجٍ كالجبال … ثم الراديو الذي يصل بيني وبين العالم عوّض الله فيه الأخ ” المشيرقي” خيرًا فقد أفسدته الأمطار قبل أن أسدد أقساطه .. وما أصبح الصباح حتى كنت كعصفورٍ بلله القطر وفقدت كل شيء فأصبحت منكوب المطر مثل منكوبي السيل ومنكوبي شواطئ هولندا وبلجيكا وكأنني رجل تعيس قذفته سفينة تحطّمت وحمد الله على سلامة رأسه .. وقررت أنّ أصنع ما صنعه ” ديجوين” الفيلسوف اليوناني الذي إشترى برميلاً ليسكن فيه وأنا قد تعبت من السؤال والبحث والترجي ومن لجنة المساكن وعزمت على أن أشتري برميلاً لأسكن فيه ما دامت البلاد عاجزةً عن إيجاد مسكنٍ لي ونزلت إلى السوق عازمًا على هذا فإن سكت الناس فيها ونعمت ونعم أسكت والسكوت وإن قالوا مريضٌ فسأجد في المستشفى مسكنًا وإنّ قالوا مجنون فسأجد في ” المارستان” مسكنًا وإن قالوا مشرّد صعلوك فسأجد في السجن مسكنًا على كلِّ حال البحث عن برميل سيوجد لي سكنًا رغم أنف الجميع .. وبحثت في سوق ” التركة” وفي سوق الثلاثاء عن برميل مناسب لحدمي الضعيف وجسمي النحيل فلم أجد وقالوا أن البراميل توجد بكثرة في حارة اليهود عند شمعون بن شالوم وذهبت إلى شمعون ودخلت إلى الحارة لأوّل مرّة في حياتي … قاذورات وعفونات وشيء يدوّخ الرأس ” ويطيح السعد ” وأغلقت أنفي بقطنة وتناولت عشرة أسبرو .. وقالت زوجة شمعون بلهجتها السريعة المتآكلة الحروف .. أتفضّل وتفضلت وكان أمامها شواء وعصير وملحقاته من خصّ وطماطم وخلّ .. وأقسمت بالعشر كلمات أن أتغذى ولكن كيف هذا سبحان الله .. يا له من مأزق ومنظر قلت لها أنا صائم .. قالت ليس هذا رمضان وأخذت تعد الأشهر الباقية على رمضان .. قلت لها أنا مريض وبردان وصرت أرتعد قالت .. العصير يدفىء وأخذت تذكر فوائد العصير والخمر وقربت منّي وقالت .. لا بدَّ من كأس .. ” خود طويسة” وهربت منها ثم ذهبت لخمّارة زكي داورخ وإذ بالناس تلتفت عجبًا .. شيخ في خمَّارة .. عنوان طريف لقصّة !
وتشاجر سكِّيران وأمسك أحدهما بزمّارة رقبتي وظنني صاحبه وضربني وضربته وشتمني وشتمته وذهبنا إلى مركز البوليس وأرادوا كتابة محضر سُكر وعربدة .. وشمّوا فمي وأخذت أحلف لهم بالقرآن والانجيل والتوراة والزبور أنّي لم أذق في حياتي خمرًا وقالوا أين كنت ؟ أين وجدوك ؟ في حارة اليهود في أي مكان ؟ قلت في خمّارة زكي داروخ .. وضحك الضابط وقال هل كنت تصلّي هناك ؟ أو تُلقي خطبة ؟ وصفعني أحدهم على قفاي وقال .. أنتَ مبارك يصلّوا على طرفك يا شيخ أنت صاحبنا الله الله .. ” يا مزوّق من بره إيش حالك من داخل ” وما خرجت من هذا المأزق إلا بعد الصلاة على كلِّ نبيّ .. ولكني صممت على البحث عن برميل لأسكن فيه .. وأراني السمسار برميلاً جديدًا ولكن فيه بقايا خمر واخذت البرميل على ” الافريز” ورآني الناس أعصر خمرًا كصاحب يوسف ولكن لا في السجن فما عصرت في السجن خمرًا إنما عصرت فكرًا وقلبًا وعُمرًا وقال أحد الشبّان الخبثاء .. مبروك الصنعة …. فتركت برميلاً جديدًا على قد حجمي فقال ماذا تريد أن تشحن فيه قلت اشحن فيه نفسي وأنام فيه وأطبق النجار على رقبتي وصاح مجنون وصدّقه الناس ووجدت نفسي في ” أبو ستة” وأطبقوني بسلاسل وقمّصوني بقميص سميك وكانت ليلةً حرفة ورقدت مع المجانين في ” أبو ستة” ولكن الدكتور تعرّف عليّ وأدرك انها لأزمة مساكن لا أزمة عقليّة وقال الدكتور أنا عندي مسكن أدلك عليه وذهبت مسرعًا ورأيت مسكنًا مع ايطالية عجوز رأسها في الدنيا ورجلاها في الآخرة ولها وجه كأنه إسفنجة يابسة فرقعتها الشمس وعيونها – أعوذ بالله – ياحفيظ كأنها قشور طماطم ، وكلّمتني بلغةٍ حتى الطليان لم يفهموها واحتاجوا إلى مترجم وفهمت بعد عسرٍ وإعسار أن عندها سكن وقدمت الشروط كأنها شروط المعاهدة .. المادة 1 السكوت التام المادة 2 الاستيقاظ مبكرًا المادة 3 عدم القاء أوراق على الأرض ، ملحق آخر فيه مادتين .. المادة 1 تحيّة الصباح وتحيّة المساء المادة 2 عدم التطلع الى وجهها غير المضيء … ووقعت الوثيقةَ وكنت في ورطةٍ وفي الصباح أرادت أن تزيد في المعاهدة شروطًا قاسية تضر ولا تنفع وقالت ترضى بهذه الشروط أو الجلاء وطبعًا أنا من أنصار الجلاء والاستقلال بعيدًا عن هذه العجوز القبيحة وهربت بعد أنّ دفعت ثلاثةَ جنيهات عدًا ونقدًا وخطفًا .
وطرأت فكرة أخرى والحاجة تفتق الحيلة أنا أصبحت في هذا البلد كالثور الأبلق وأحيانًا كالثور غير الأبلق ، فلِمَ لا أبيتُ كلَّ ليلةٍ عند عارفٍ أو صديق والناس تحبُّ هذا الثور الشريد وتنافقه بالسلام عليه والثناء على مواهبه وفِطنته وإخلاصهِ فلِمَ لا أستغل هذا وأحلُّ ضيفًا أزمة المساكن وذهبتُ إلىَ صديقٍ في الليل فوجدت امرأته تنهال عليه ضربًا وسبًا ولعنًا وهو يتمسكن ويطلب منها الغفران والسكوت والرأفة ومن ثقبِ الباب كنت أستمع للحوار وأرى ضرباتِ السيّدة تنهالُ بإنتظام تامّ وخرج فجأةً من الباب … وقلتُ أنا جئت لأبات عندكَ الليلة فقال يا حضرةَ المغفل .. امرأتي طردتني هل عندكَ مسكنٌ أنتَ ؟ وهربت وذهبت لصديقٍ آخر وما دخلت عتبة البيت حتى لفظت ابنته أنفاسها الاخيرة فقد دخلت البيت أنا وعزرائيل وكاد الملاك المرعب الاسم أن يُداعبني بجناحيه ولكن !
وامتلأ البيت صراخًا لمقدمي السعيد المُبارك وهربت قبل أن يتشاءم الصديق المنكوب وهربت وأنا أحمل ما بقي من أوراق وكتب ومتاع وكأنني جنديٌّ هُزم من معركة وما عرف أين يذهب .. وعند جدارٍ في سوق المدينة جلست أفكِّر في أنّ الناس مرتاحة وكلٌّ في سريره وعند أهله إلا أنا الشقيُّ الحائر والشاب التائه من غير مسكن ولا أهل .. صبرًا يا ربي الحمد لله .. وعلى ضوء القمر ذرفت عيناي دمعاتٍ رقيقة وجاءني شيطان الكتابة وأردت أنّ أسجّل هذه الحالة ولكن أصابعي جمدت من البرد فجأةً وإختفى القمر وهطلت الامطار مرة اخرى فصرت عند حائط السور ارتعد وفي منتصف الليل سلّط عليَّ البوليس أنواره وركلني برجلهِ ظنني لصٌ او أفّاق لفظتي المجتمع قلت أنا أستاذ وضحك وقال الأساتذة في بيوتهم قلت لا مسكن عندي ونظر إلى الحقائب وقال الساعة الثانية والنصف ولابدَّ أنكَ سرقت هذا وما تعرّف عليَّ إلا بعد مشقّة وعناء .. وفي الصباح لقيني رجل يطلب منّي دينًا وأخذه بالقوّة قلت صبرًا حتى أربيَ ريشي قال الله ينتف ريشكَ يا خنزير قلت أكثر من هذا لا يمكن ولولا خوف الاطالة وضيق الجريدة لحدّثتكَ عن باقي ما رأيت وأخيرًا لو تسمح لي البلديّة فأنا مستعدٌ أنّ انصب خيمةً وبيت شَعر في وسط ميدان الشهداء .
ارتاحي يا بلديّة لنّ أُطالبكِ بسكن وأمري إلى الله وحده .
*من كتاب : جد في هزل وخيال في حقيقة