“العناد” هو ما أربك السير في مفترق مستشفى 7 أكتوبر وليس الزحام كما هي العادة دائما… الإشارة الضوئية مثلها مثلنا لا تعمل والرؤوس مقفلة.. لا أحد يقرر أن يتنازل وربما هذا ما جعلنا في المنحدر.. فلو فكر المتشابكون أن خطوةً إلى الوراء هي خلاصهم و خلاصنا من سطوة الشمس والانتظار ـ لما انتظرنا ـ.
مددت للشحاذ ما تيسر فانهال عليّ بسيل من الأدعية آخرها: ربي يخليك لراجلك… ضحك زوجي قائلا: ضرني العطيب. وإثر قصفه لي بهذه الكلمات هاجمته بمضادات الطيران: “اللي بيده ربي يزيده.. ماحدش زرك”.
– (حتى كان كبار ضنانا… مازال العياط ورانا)..
– (أنا تفاح أوراقه فوقه… ماملي ماشي في شوقه)..
وبينما كنت أسدد الرمية تلو الأخرى شممت رائحة دخان ظننتها بسبب اشتباكاتنا ولكن على ما يبدو أن الشاب في السيارة المجاورة كان يحرق داخله تضامنا مع حريقنا الكبير.
مازدا “همبورجا” نوع 323 حمراء اللون تزينها ملصقات هياكل عظمية.. بابها الخلفي أسود اللون وباب السائق أحمر قاني تتدلى جمجمة من عنق المرآة الأمامية.. جميع نوافذها مفتوحة و الدخان يتصاعد من السيارة والمطرب الشعبي “فوزي صغيرونه” يغني (بيني وبينك.. نسوني أنا.. عيني عينك).
حاولت أن اختلس النظر.. صاحبه يقوم بفرك الحشيش قفزت عندهما على ورقة الفركة وهو يفرك ويفرك كنت ضمن المفروكات.
هناك التقيت بنغازي.. رأيتها ضمن المفروكات وهي أيضا كانت تتناثر قطعة قطعة.. أَفْرغَ السيجارة ووضعني داخلها. قلبي الذي تناثر لم يكن يبحث عني.. كان يبحث عن بنغازي يلملمها ويضمها إلى بقاياه.. وفوزي صغيرونه لازال يغني (أولافي هانوني.. وسالن بالدمع عيوني.. انعاني بروحي خلوني.. نسوني وما قالوا وينك) ولم أنتبه إلا وقد اشتعلنا.. صرنا دخانا وتطايرنا.
السماء امتلأت بالدخان.. الدخان صار منظرا مألوفا.. الدخان غيمة أحلامنا المفقأة.. آهة أنفاسنا المكلومة.. تنهدتُ.. سألني زوجي ما بك؟.. تنهدتُ مرة أخرى وقلت: بنغازي فاضية وليست كعادتها.
اقتربنا من ضريح عمر المختار وجدناه خاليا بعدما كان يضج بالعمالة المصرية.. دار الكتب الوطنية مهجورة بعد توقف أعمال الصيانة.. غرس الوجعُ سهامه في قلبي حين رأيتها تنزوي في صمت.. لا أحد يشعر بها.. لا أحد يهتم بها.. فلا أحد يشغله دماغه.. الكل تشغله بطنه.. الشيء الوحيد الذي لم يتوقف الجميع عن فعله في هذه الحرب هو ارضاء بطوننا لذا على بعد خطوات من دار الكتب الوطنية عالم آخر يضج بالبشر.
في طريقنا نحو الفندق البلدي.. سيارة المازدا لازالت بمحاذاتنا وفوزي صغيرونة لازال صادحا بالأرجاء.. فجأة أطفأ السائق المذياع ونظر إلى زوجي وقال له: كنك تفنص “ما بك تنظر إليّ بحدة”؟.
اضطربت كثيرا.. بل ارتعبت.. وحين رد زوجي عليه: أنت اللي كنك؟.. تبين أنه يقصد سيارة تحاذينا.. خفت كثيرا فمدينتا الآن تعج بالبنادق ونحن بالقرب من منطقة تبيع الأسلحة علنا… دخل زوجي إلى الفندق البلدي.. ركن السيارة أخذ قائمة الطلبات وترجل.. طاولات ومظلات متراصة يأكلها الغبار والرقع.. صناديق فارغة ملقاة.. خضرة معطوبة.. قناني مياه فارغة.. بقايا سجائر.. قطع حديدية.. يسرح المصري بالمناشف وينظر إلى عجوز تتكئ على عكازها و تلبس جلبابا أسود يظهر من داخله فستان مزركش بالورود.. يناديها: مناشف يا حاجة.. فترد: ما ناقصنا غير المناشف.. ما عندنا ما نشفوا حتى دمنا ناشف.
الموسيقى تدندن في الأرجاء من أكشاك السيديهات القريبة.. أصوات الباعة تعلو من حين لآخر.. البلح عالبلح.. أحدهم يأخذ بلحة يمسحها بملابسه ويأكلها.. قدم المصري نحوي حاملا المناشف فأشرت بيدي رافضة الشراء.. علا صوت شجار.. التفت نحوه.. ثمة شباب يتشاجرون وأصوات الشتائم تهز الأرجاء.. ينزل الشابان من سيارة المازدا يحمل أحدهما طباق “ساطور” ومع خوفي ضحكت وتساءلت: هل لازالوا يستخدمونه في الشجار؟.. كان خصمهم شابا أصلعا يملأ الوشم جسده مفتول العضلات يلبس بنطالا أسود و على الحزام جراب بداخله مسدس.. توافد الكثير من الشباب .. بعضهم يوقد الشجار والبعض الآخر يطفئه اقتربوا مني وأنا خائفة جدا.. حضر زوجي مسرعا خشية عليّ.
كان المتشاجرين قد اتجهوا في جهة أخرى بعيدا عن باب الفندق حيث نركن السيارة بعد أن علت أبواق السيارات المارة دخولا و خروجا.
ـ لا أعرف لماذا لا نستخدم العضلات.. لا نفكر.. لا نتسامح.. لو كل منا تنازل للآخر لسهلت حياتنا ـ قلتها لزوجي و لازال القلق يسكنني فضحك و قال: حشيش.. ثم أردف قائلا: هناك بطيخ نشري بطيخ.. وأنا لا أحب رائحته.. بدت علامات الاستياء على وجهي و بينما زوجي يقول البطيخ لذيذ سبقته بقولي: لا أحب البطيخ.