محمود عمار المعــلول
كاتب وباحث ليبي
تمهيد:
كان العرب والمسلمون هم الأسبق في نشر قواعد الدبلوماسية الصحيحة التي كان أساسها مستمداً من قواعد الدين الإسلامي الحنيف، كما إن المسلمين قد قاموا بالتواصل مع الشعوب والإمبراطوريات الكبرى لدعوتهم إلى الإسلام ولإنقاذهم من الظلمات إلى النور، وتحقيقاً لعالمية الإسلام، وعندما جاءوا إلى هذه الشعوب لم يؤمنوا بنظرية تفوق الأجناس التي آمن بها الأوروبيون فتجدهم يتزوجون من نساء تلك البلاد، ويتاجرون معهم، وكانوا يتفوقون عليهم بسلوكهم الحضاري ومعاملتهم الراقية، وليس بجنسهم أو أصلهم، ولذلك تجد مختلف الشعوب في آسيا وأفريقيا وأوروبا قد دخلت في الإسلام بسبب الرقي الفكري والحضاري للمسلمين، لأنهم كانوا يمثلون عقيدة جديدة، وقد طبقت هذه العقيدة في أخلاقهم وسلوكهم ومعاملاتهم وتجارتهم مع غيرهم.
شهدت الدبلوماسية الإسلامية أعظم رقي لها في الدولة الإسلامية الأولى دولة العدل والمساواة والأمن والسلام، فانظر أخي القارئ إلى هذه القصة التي تبين عظمة الدبلوماسية الإسلامية، وما كان عليه المسلمون الأولون من صدق وأمانة وإخلاص فقد روى بعض المؤرخين أن الخليفة عمر بن الخطاب (13ـ23هـ 634ـ644م) بعث إلى ملك الروم بريداً (سفيراً)[1] فاشترت امرأته أم كلثوم بنت الإمام علي كرم الله وجهه طيباً (روائح) بدينار فوضعته في قارورتين، وأهدته إلى امرأة ملك الروم (كعادة نساء الرؤساء والأمراء اليوم) فرجع البريد (أي السفير) بملء القارورتين من الجواهر فدخل عليها عمر وقد وضعته في حجرها فقال: من أين لك هذا؟ فأخبرته فقبض عليه منها، وقال: هذا للمسلمين فقالت رضي الله عنها: كيف هو وهو عوض من هديتي؟ فقال عمر بيني وبينك أبوك (الإمام علي) فقال علي: لك منه بقيمة دينارك، والباقي للمسلمين لأن بريد المسلمين (أي رسولهم وسفيرهم) حمله، فانظر أخي الكريم إلى هذا العدل إن أمة بهذا العدل، وفيها عمر وعلي أليست جديرة بأن تتنصر على أعدائها لأنها متفوقة عليهم حضارياً ولديها من القيم الروحية أكثر مما عندهم.
أنجبت بلادنا دبلوماسيين أفذاذ حافظوا على مصالح بلادهم، فدافعوا عنها في المحافل الدولية، وكانوا صورة ناصعة البياض لأمتهم في الأخلاق والذكاء والفطنة والحكمة، ومن هؤلاء عبد الرحمن البديري وحسونة الدغيس الذي نستعرض بعضاً من سيرته في هذه الورقة المختصرة.
الحاج عبد الرحمن البديري (1720ـ1792م):
يعتبر من أشهر الشخصيات الدبلوماسية الليبية أيام الحكم القرمانلي، وتصفه المراجع بأنه كان ذو ثقافة عالية، كتب عنه قنصل السويد المعتمد لدى ليبيا يقول: “كان رجلاً مثقفاً له اهتمامات… علمية تردد كثيراً على المسارح… زار معهد العلوم السويسري والجمعية العامة للمعهد في 21/11/1779م”، وقد أرسل عبد الرحمن البديري في سنة 1779م مبعوثاً إلى ملك السويد، وكان العرف يقضي عندهم بأن يستقبل الوزير الأول المبعوث ثم يستقبله الملك بعد ذلك، ولكن ملك السويد لم يحتمل الانتظار فأندس بين عامة الناس ليرى المبعوث الليبي أثناء مراسم استقبال الوزير الأول له.
كما أوفد من أجل تجديد المعاهدات التي كانت مبرمة بين إيالة طرابلس الغرب وفرنسا والتهنئة بمناسبة تولي لويس السادس عشر الحكم بفرنسا في سنة 1775م، وبعد مغادرته للبلاد الفرنسية كتب إلى أحد الوزراء: (حضرة الوزير الجليل لقد شملتموني منذ وصولي إلى فرنسا وخلال كل خطوة خطوتها عبر هذه المملكة الزاهرة برعايتكم فكنت محل ترحيب… ولسوف تظل هذه الذكرى حية في نفسي إلى الأبد، وسأقص أحداثها إلى أطفالي ليحتفظوا بها من بعدي، ولتتفضلوا أيها العزيز الجليل بقبول أرق تحيات الوداع..)، وتذكر عنه توللي ريتشارد شقيقة القنصل البريطاني في طرابلس خلال فترة وجودها بالمدينة (1783ـ1793م) في كتابها (عشر سنوات في بلاط طرابلس): “إنه رجل متنور جداً فقد تكرر وجوده في بلاطات أوروبا الكبرى، ومن طريقته المتميزة في تصرفاته المهذبة حظى بتقدير مختلف الملوك فمنحوه هدايا وأوسمة رفيعة”[2]. وهي كذلك تصف السفيرين حامد كوجاي والحاج عبد الرحمن بقولها: “وهذا الأخيران قد زارا معظم البلاطات الملكية في أوروبا فكانت تصرفاتهم لطيفة ومهذبة، كما كانا حسني التنشئة، من أصل رفيع، وعلى اطلاع واسع بالشؤون خارج بلادهم”[3].
وتصف عبد الرحمن البديري في موضع أخر فتذكر: “لقد قضى الحاج عبد الرحمن معظم حياته في أعمال السفارة بين بلده وبلاطات أوروبا، فرق طبعه وارتفعت أفكاره وأعماله أكثر من بقية مواطنيه، مع أنه ظل مسلماً ورعاً صارماً في إتباع تعاليم دينه إلى حد كبير، وهو يسمح لابنته حين تتزين أن تلبس بعض الهدايا التي قدمها له ملوك أوروبا المسيحيين. .. ومن بين هذه الهدايا وسام ذهبي من ملك السويد… دقيق الصنع غالي الثمن، وعليه نقش لمنظر تاريخي قديم يعتز به أهل تلك البلاد”[4]. إن ذلك الوصف الرائع البديع يدل دلالة قوية على عظمة بلادنا، وأن لها رجال عبر التاريخ حافظوا على استقلالها، ودافعوا عن مصالحها، وأنها أنجبت هؤلاء الرجال الذين كانوا شعلة من الثقافة والفهم والأخلاق، وكانوا قدوة لمن أراد أن يقتدي، فيا له من وصف جميل لهذا الدبلوماسي رفيع القدر.
إن الدبلوماسية هي انعكاس لحالة الدولة ضعفها أو تقدمها حضارتها وتخلفها فإذا كانت الدولة قوية كانت دبلوماسيتها قوية ومتماسكة، وحتى رجال دبلوماسيتها من أفضل الأشخاص علماً وخلقاً يمثلون تلك الدولة وعزتها وتقدمها، وقد اهتم العرب والمسلمون بالدبلوماسية أكبر اهتمام لأنهم رأوا فيها الصورة للتربية والإعداد التي قامت بها الدولة ونظامها للموظف الدبلوماسي، فإذا كان هذا الموظف حسن الصورة خلقاً وخلقاً، ويتمتع بقدر من الثقافة والتأهيل العلمي كان ذلك دليل على عظمة الدولة ورقيها وحضارتها وقيمها وتراثها، كما أن اهتمام الدولة بشأنها الداخلي ينعكس ذلك في سياستها الخارجية، وحتى في تصرفات ممثليها الدبلوماسيين، وقديماً قالوا: إن ثلاثة تدل على ثلاثة: الكتاب على الكاتب والهدية على المهدي والرسول على المرسل، ولذلك فرض العرب والمسلمون على المبعوث ـ الدبلوماسي عدة شروط لكي ينجح في مهمته.
السفير: حسونة الدغيس (1191ـ1252هـ 1778ـ1836م) أعجوبة من الفهم والثقافة
هو حسونة بن محمد الدغيس الطرابلسي سياسي ومفكر ومثقف ليبي هناك من يعده أول صحفي ليبي، من أكبر السياسيين والمثقفين في ليبيا والعالم الإسلامي بأسره، رجل دبلوماسي تولى وزارة الخارجية في عهد يوسف باشا القرمانلي، كما أرسل سفيراً إلى لندن[5]. تصفه إحدى الإجازات ببلاد المغرب بأنه: “الشيخ الفقيه الأديب”[6]، وذكره عبد الحي الكتاني (1302ـ1382هـ 1884ـ1962م) فقال عنه: “الفقيه الأديب السيد حسن المدعو حسونة بن محمد بن حسونة الدغيسي الأزروملي الطرابلسي الحنفي الوارد على فاس عام 1246هـ”[7]. وقال عنه المؤرخ والمستشرق الفرنسي شارل فيرو (1829ـ18888م) في كتابه الحوليات الليبية بعد حديثه عن محمد بيت المال: “وإن كان أكثر مكراً وتملقاً من سلفه الدغيس”[8]. ويضيف في موضع آخر “إن المراسلات والعلاقات السياسية قد أنيطت بصهره حسونة الدغيس، وهو من الأشراف مولداً، ومعروف بسعة اطلاعاته في الأدب العربي وبإتقانه للغات الأوروبية، وكان يبلغ من العمر حوالي خمساً وثلاثين سنة، وكان حسن الخلقة”[9]. وكانت عائلة حسونة الدغيس على صلة قوية بعائلة يوسف القرمانلي (مصاهـرة)، فابن يوسف القرمانلي (علي) كان متزوجاً من أخت حسونة الدغيس[10].
اتصل حسونة الدغيس بحكم وظيفته بحكومات الغرب الأوروبي والقناصل والسفراء بطرابلس، وألم بالثقافة الغربية الأوروبية، وكان يتقن اللغة الفرنسية ويكتب بها بالإضافة إلى العربية والإنجليزية، وكان والده محمد الدغيس من أكبر الأعيان والوجهاء بمدينة طرابلس في عهد يوسف باشا القرمانلي[11].
اختلف في أصله لكن أكثر الروايات تدل على أنه من القولوغية، وأن عائلته قد انحدرت من أرضروم بتركيا، وأن جده قد وصل طرابلس الغرب بأذن من السلطان العثماني ليكون نائباً للوالي بطرابلس أواخر القرن (17) الميلادي، وأن عائلته قد تولت المناصب العليا في الولاية[12]، وأنه كان يتبع المذهب الحنفي المذهب الرسمي للدولة العثمانية، وأن موطن تلك العائلة حسب الروايات كان في:
ـ شط الهنشير بطرابلس.
ـ أو تاجوراء بطرابلس.
ـ أو باب البحر بالمدينة القديمة بطرابلس.
وتظهر إحدى الوثائق أن حسونة الدغيس كان مشهوراً، وأن عائلته اشتهرت بالعلم والتجارة، وأنه أول مغربي يحتك بالحضارة الأوروبية قبل المصري رفاعة الطهطاوي[13].
تلقى حسونة الدغيس تعليمه في مدينة طرابلس، فتعلم العلوم الإسلامية حتى نبغ فيها، ومن أهم شيوخه أحمد أبو طبل الورفلي (1150ـ1252هـ 1738ـ1837م) الذي وصفه الرحالة ابن طوير الجنة الواداني (1202ـ1265هـ 1788ـ1849م) عند قيامه برحلته إلى طرابلس سنة 1247هـ 1831م بأنه (عالم سني جليل)[14]، ثم أرسله والده إلى فرنسا ليستكمل تعليمه هناك كعادة الأغنياء والأثرياء، وصفه القنصل السويدي بطرابلس جرابرج دي همسو بأنه: “كان أعجوبة من الفهم والثقافة والمدنية”، ويعتبر هذا القنصل من المستشرقين، وكان يلم بحوالي (20) لغة منها العربية وعند قدومه إلى طرابلس اهتم بالجانب الثقافي، وكان من ضمن نشاطاته البحث عن المخطوطات[15].
كما وصفه القنصل الفرنسي في طرابلس بوصف جميل يدل على المكانة الرفيعة والدهاء السياسي في سبيل تحقيق مصالح بلاده ليبيا فقال عنه: “شاب كثير الدهاء شرير مغرور على الرغم من استقبالنا له في فرنسا أعلن عداوته لنا”[16]، وهذا الوصف يدل على ما يبدو أن حسونة الدغيس بحكم تعليمه واطلاعه يدرك تماماً عداوة الدول الأوروبية للعالم الإسلامي ورغبتها في احتلاله والسيطرة عليه، ولذلك اتخذ موقف الند للند والمعاملة بالمثل في علاقاته مع تلك الدول، بالرغم من الموقف الضعيف الذي كانت تمر به إيالة طرابلس الغرب في تلك الفترة من تاريخ ليبيا المتمثل في تردي الأوضاع الاقتصادية وثورات القبائل المحلية على الحكم العثماني واستدانة الباشا من الدول الأوروبية.
كان حسونة الدغيس المبعوث الرسمي لإيالة طرابلس (1811ـ1813م) إلى إسبانيا لمناقشة مسألة الديون المترتبة على الحكومة الإسبانية وقنصلها المقيم في طرابلس السيد دون سوزا، وخلال الفترة (1818ـ1820م) كان الوكيل والمفاوض التجاري المقيم لطرابلس في مدينة مرسيليا، وقد طالب المعاملة بالمثل بشأن التعريفة الجمركية، بحيث يدفع التاجر الطرابلسي 3% أسوة بالقيمة التي يدفعها الفرنسيون، ونجح في ذلك وحافظ على مصالح بلاده[17].
وفي سنة 1821م أرسل مبعوثاً إلى لندن لرعاية مصالح بلاده، حيث استقبله الملك الإنجليزي جورج الرابع (1820ـ1830م)، وتجدر الإشارة إلى أن ابنه الملك جورج الرابع كانت زوجة للقنصل الإنجليزي بطرابلس هينمر وارنجتون (1814ـ1882م)، وفي ذلك دلالة على الاهتمام الإنجليزي بطرابلس الغرب منذ ذلك الوقت، وفي لندن التقى حسونة الدغيس بالفيلسوف جيرمي بنتام (1748ـ1832م)، وحاول الاستفادة من علم وخبرة هذا الفيلسوف في وضع دستور لإيالة طرابلس على النمط الإنجليزي، وكان هذا الفيلسوف في تلك الفترة مهتماً بوضع دساتير لكل من إسبانيا والبرتغال واليونان.
وخلال إقامة حسونة الدغيس بلندن ألف كتاب (كراسة عن تجارة الرقيق في أفريقيا) نشره باللغة الإنجليزية عام 1822م، وقد حاز على إعجاب المفكرين والسياسيين في عصره، وكان معادياً لتجارة الرقيق التي كانت رائجة في ذلك العصر، ومن ضمن أفكاره التي لا زالت مستلهمة منه إلى اليوم وأخذت عنه تجفيف المنابع لهذه التجارة، وكان يرى إن من أهم أسبابها السبب الاقتصادي، ولا يزال في بريطانيا إلى اليوم استعمال مصطلح تجفيف المنابع مثل تجفيف منابع الإرهاب المستخدم اليوم عند الإنجليز.
بعد عودة حسونة الدغيس إلى طرابلس وخلال الفترة (1241ـ1245هـ 1826ـ1829م) تولى وزارة الخارجية في إيالة طرابلس الغرب، بعدها غادر طرابلس ليعيش في أوروبا بعد مقتل الرحالة الإنجليزي الميجر الكسندر جوردن لاينج (1793ـ1826م) بمدينة تمبكتو بشمال مالي.
الصراع بين فرنسا وبريطانيا على ليبيا:
كانت فرنسا وبريطانيا تتنفسان بقوة على ليبيا من أجل السيطرة عليها واتخاذها ممراً للسيطرة على أفريقيا، ولكن الدولة العثمانية على الرغم من ضعفها فقد وقفت ضد مخططاتهما، وفي سنة 1825م أرسلت بريطانيا رحالة ومستكشف اسكتلندي يسمى الميجور الكسندر جوردن لاينج موفداً من وزارة المستعمرات البريطانية، وكان الهدف من رحلته الوصول إلى مدينة تمبكتو في مالي باعتبارها عاصمة تجارة الذهب في العصور الوسطى، وكانت تلقب بجوهرة الصحراء، وفي طرابلس نزل هذا الرحالة في ضيافة القنصل الإنجليزي بطرابلس وتزوج من ابنته (EMMA WARRINGTON)[18]، وكان هذا القنصل يتمتع بنفوذ كبير، وفي فترة من الفترات كان يدير شؤون قنصليات (نابولي ـ توسكانيا ـ هولندا ـ البرتغال ـ النمسا) لمدة طويلة مما جعله شبيه بقنصل دولي[19].
تجدر الإشارة إلى أن فرنسا أرسلت أول قنصل لها إلى ليبيا في سنة 1040هـ 1630م وهو القنصل (مولان) كانت مهمته في ذلك الوقت فداء الأسرى، والمحافظة على مصالح بلاده[20]، أما يوسف القرمانلي حاكم ولاية طرابلس فقد عمل على تسهيل مهمة هذا الرحالة، وذلك بأن زوده برسائل توصية لمختلف المناطق في جنوب ليبيا، وخاصة غدامس التي تربطها علاقات قوية بتمبكتو في مالي. وعند وصول هذا الرحالة إلى تمبكتو بعد مروره بمدن غدامس وتوات قتل هناك في ظروف غامضة، وعندما علم القنصل الإنجليزي بذلك اتهم يوسف القرمانلي بالتقصير والإهمال كما اتهم حسونة الدغيس بأنه وراء مقتل هذا الرحالة، وأنه هو من أخذ مذكراته وأوراقه، وكانت هذه الحادثة هي السبب وراء هرب حسونة الدغيس من طرابلس على ما يبدو.
استدان يوسف باشا من فرنسا وإنجلترا، حتى أصبح مثقلاً بالديون، وكان يمثل فرنسا في طرابلس القنصل روسو (1824ـ1830م)، أما بريطانيا فكان يمثلها القنصل وارنجتون، وقد احتدم الخلاف بين القنصلين بسبب تصارع بلديهما على ليبيا، وكانت هناك كراهية معروفة للجميع بين أسرة الدغيس والقنصل الإنجليزي في طرابلس[21].
ويبدو للباحث أن القناصل الأوروبيين تأمروا على حسونة الدغيس بسبب مواقفه الوطنية الرافضة للتدخلات الأجنبية في ليبيا فالباشا يوسف القرمانلي كان ضعيفاً بسبب الديون التي كانت عليه، وقد أصدر أمره بإبعاد حسونة الدغيس عن منصبه مما اضطره للهرب ومغادرة البلاد سنة 1829م، ومما يدل على ذلك أنه كتب إلى الشيخ الكانمي سنة 1827م رسالة يقول له فيها: “إن طرابلس الآن تحت إدارته بلد مختلف لا يستطيع المسيحيون (يقصد الأوروبيون) أن يتصرفوا كما تعودوا من قبل”[22]، فهو في تلك الرسالة كان يطمح بالتخلص من سيطرة هؤلاء القناصل وتدخلهم في الشؤون الداخلية لبلاده.
كان حسونة الدغيس من أعظم الشخصيات الليبية الفذة التي حاربت الاستبداد، وسيطرة الأجانب على مقاليد السلطة في ليبيا، وحاول إنشاء دولة حديثة متطورة، يقول عنه المؤرخ والمستشرق شارل فيرو: “حسونة الدغيس يوجه همه دائماً للنهوض بالحركة التجارية في الدواخل، وإلى السير بالإدارة الحكومية لما فيه منفعة اقتصاديات البلاد وتقدمها، والعمل على ازدياد الرخاء في الإيالة”[23]، وبعد خروجه من ليبيا سافر إلى الدولة العثمانية حيث ترجم هناك كتاب المرآة وهو لصديقه الجزائري حمدان عثمان خوجة (1775ـ1840م) ، وشارك هناك في تأسيس صحيفة عثمانية ناطقة باللغة الفرنسية أسمها (وقائع تقويم)، وهي الصحيفة الرسمية في الدولة العثمانية، وظل هناك يعمل حتى أصيب بمرض الطاعون وتوفى يوم 17/12/1836م[24]
الخاتمة:
ظهر بليبيا سفراء عظام من أمثال حسونة الدغيس والبديري وصفهم القناصل والسفراء الأوروبيون بأروع الأوصاف مثل الذكاء والفطنة والفهم وسعة الثقافة والاطلاع، ولا غرابة في ذلك، وقد تقلد حسونة الدغيس الكثير من الوظائف والمهام، وعمل على تحقيق مصالح بلاده، ودافع عنها في المحافل الدولية.
والله ولي التوفيق
_________________________________________
* ورقة مختصرة مقدمة إلى ورشة العمل التي يقيمها المنتدى الليبي للشؤون الخارجية بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات الأفريقية يوم الثلاثاء 9 مايو 2017 م تحت عنوان الدبلوماسية الليبية “الواقع والطموح”.
الهوامش:
(1) ابن حمدون، التذكرة الحمدونية، الناشر دار صادر، بيروت. لبنان، ط1، 1417 هـ، ج1، ص 147، وأيضاً وردت هذه الرواية في كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، وربيع الأبرار للزمخشري.
(2) ريتشارد توللي، عشر سنوات في بلاط طرابلس، نقله إلى العربية عمر الديراوي أبو حجلة، دار الفرجاني، طرابلس، (د. ت)، ص 45ـ118ـ238، ومحمد محمد المفتي، الأيام الطرابلسية، مجلس الثقافة العام، ليبيا، 2008م.
(3) المرجع السابق، ص 45.
(4) المرجع نفسه، ص 238.
(5) عمار جحيدر، محاضرة بعنوان (وثائق وملاحظات عن المثقف السياسي حسونة الدغيس 1191ـ1252هـ 1778ـ1836م، مركز جهاد الليبيين بتاريخ الاربعاء 22/5/2013م، (هناك من يرى أن اسم الدغيس معناه القارب من اللغة المالطية، ورأي آخر أنه بالصاد الدغيص ومعناه السمين، ويرى المؤرخ الليبي محمد مصطفى بازامة أن الدغيس من الأهالي ومن سكان تاجوراء، ويؤكد بعض المهتمين بالآثار بالمدينة القديمة أن حوش حسونة الدغيس موجود بالمدينة القديمة شارع الأربع عرصات منطقة باب البحر قرب حوش البديري وحوش مصطفى قرجي وحوش يوسف القرمانلي، انظر المرجع نفسه أعلاه).
(6) المرجع نفسه.
(7) عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني، فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات، اعتناء إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت. لبنان، 1402هـ 1982م، ج1، ص 467.
(8) شارل فيرو، الحوليات الليبية منذ الفتح العربي حتى الغزو الإيطالي، نقلها عن الفرنسية وحققها بمصادرها العربية ووضع مقدمتها النقدية الدكتور محمد عبد الكريم الوافي، منشورات جامعة قاريونس، ط 3، 1994م، ص 441.
(9) المرجع نفسه، ص 435.
(10) المرجع نفسه، ص 412.
(11) عمار جحيدر، مصادر الحياة الفكرية في ليبيا في العهد القرمانلي (1123ـ1251هـ 1711ـ1835م)، الناشر مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، طرابلس، 2003م، ص 95 ـ 97.
(12) عبد الجليل التميمي، بحوث ووثائق في التاريخ المغربي تونس ـ الجزائر ـ ليبيا من 1816ـ1871م تقديم روبار منتراك، الدار التونسية للنشر، ط1، 1972م، ص 264.
(13) عبد الجليل التميمي، المرجع السابق، ص 264.
(14) ابن طوير الجنة، رحلة المنى والمنة، تحقيق حماه الله ولد السالم، دار الكتب العلمية، بيروت. لبنان، 2013م، ص 183.
(15) عمار جحيدر، مرجع سابق، المحاضرة، عبد الجليل التميمي، مرجع سابق، ص 265.
(16) المرجع نفسه.
(17) حسن الفقيه حسن، اليوميات الليبية، (الجزء الأول 958ـ1248هـ 1551ـ1832م) تحقيق محمد الأسطى وعمار جحيدر، طرابلس، مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، 1984م، ص 331 ـ 332 ـ 427.
(18) عبد الجليل التميمي، مرجع سابق، ص 263.
(19) شارل فيرو، مرجع سابق، ص 409.
(20) شارل فيرو، مرجع سابق، ص 142.
(21) المرجع نفسه، ص 435.
(22) عبد الجليل التميمي، الغرب كما يراه حسونة الدغيس الطرابلسي سنة 1834م، المجلة التاريخية المغاربية، العدد (5)، 1967م، ص 116 ـ 120.
(23) شارل فيرو، مرجع سابق، ص 436.
(24) عبد الجليل التميمي، مرجع سابق، ص 273