تعمّدت لمرّات أن أُمزج الرثاء بالسياسة في مقالي السياسي الذي أكتبه اسبوعياً منذ ثلاثة أعوام، وهو ماسأفعله مع الشاعر محمد الفقيه صالح الذي رحل عن دنيانا، التي نحت لها تيمّناً بالشاعر الفرنسي سان جون بيرس اسم “الفُلك الضيّقة” الديوان الذي ألهمت ترجمته العربية الشاعر الفقيه أروع قصائده وأخصبها إيروسية، وتعشّقا، وتوّثبَ حياة، وهو ماكان موضوع دراسة يتيمة لي في شعره نشرتها بمجلة الفصول الأربعة الليبية عام 1993، وأعدت نشرها بمقدمة ألزمني بها موته المباغت تحت عنوان “الشعر ..العذوبة والأريحية” بموقع قناة 218 الليبية 4 .5. 2017.
عندما أُخرج سجناء الرأي من أصدقائي الكُتّاب من حبسهم الذي دام عقداً من الزمن 1978 ـ 1988، لم ألتقهم- لست أعلم ماالسبب- ولم أقابل منهم إلا الكاتب عمر الككلي الذي كانت زيارتي له مرفوقة بعزائي في أسبوع وفاة أبيه الذي رحل عن الدنيا بيومين قبل يوم من خروجه. وكذلك لم أزر جمعة أبوكليب، وعلي الرحيبي، ومنصور أبوشناف، ومحمد الفقيه صالح، الذي لم أحضر حفل زفافه بُعيد سجنه، زائراً ومباركا. لأني بحكم استبصاري بشفافية روحيّته، ورهافة وجدانه شعرت بحاجته وقتاً للنأي بروحه عن السجن عذابات وتذكارات، وإعادة ترميم عالمه الإنساني القديم عائلة، ووظيفة، وتواصلات مجتمعية تبعده عن مشترك المحن: السجن، والشعر ورفاق السجن وخارجه الذين عاشوا معه تجربته الشعرية الفارقة بكل زخمها وتدفقها. وبالتوافق مع هذه الاستبصارات، وجدت مهمتي، بما توفر لي من قراءات فلسفية، وفي استطيقا الشعريات تحضيراً لتدريس الجماليات في كلية الفنون بطرابلس، مشمّراً عن ساعد البحث في الأراشيف ومقتنيات الصديق الكاتب محمد الزنتاني وآخرين من أشعار محمد الفقيه وكتابة قراءتي في شعريته التي وسُمتها استلهاما من الميراث البشلاري بشاعرية” الحميميات المُركّبة.”
في رسالة بعثّتها للشاعر من مدينة “أولدنبوغ” بشمال ألمانيا في 15. 5. 1995 حيث عَمِلَ ذلك الوقت بجينيف بعد الإفراج عنه من السجن السياسي، ملحقاً دبلوماسيا بالبعثة الليبية للأمم المتحدة بسويسرا كتبت: “قد يقول الكثير من الشعراء الشِعر، ولكن القليل منهم من يكتب الغنائية في الشِعر، وأنت كتبتَ الغنائية في شِعرك، المفصوم بالكوني، والإنساني، المتوّتر الذي يُلقي بنا في متاهة الحيرة والالتباس والقلق. الشِعر الذي يجعلنا نعيش، بصورة أخرى، ونُحبُّ بشكل مغاير.والذي قرأته، في بعض قصائدك، والذي أتساءل دائما كيف يمكن أن تتوقّف عن كتابته!“.
في رسالته من 4 صفحات بتاريخ 21. 5. 1995 والتي تناولت قضايا أخرى طرحتها رسالتي عرّج على مسألتي التي ربما أبهظت مشاعره، وشفافية روحه مجيبُني “النقطة الجوهرية في مسألة التوّقف (…) أن الشعر ابتعد عني لأنني في سنوات السجن التالية، لم أعد أعطيه كُلّ نفسي- التي كُنتُ مكتظّاً بها قبل دخولي السجن، وفي السنوات الأولى منه- فتقلّصت دائرة طموحي التشكيلي، وتقصّفت كثيرٌ من أجنحة الخيال، والشعر- كما تعرف- عصٌّي حرون؛ يستنكف عن الانقياد، حينما يحس من صاحبه انصرافاً أو ترّدداً عن الانفلات والجموح.
ولاأُخفيك أنني منذ سنتي السجنية الرابعة وجدتُ نفسي مضطراً- لكي لا أُجنّ أو أنهار- أن أعيش واقع السجن اليومي بمنتهى اليقظة والتحليلية العقلانية”. كما أُصيب أصدقاء زهرة العُمر في حقب سجن العُمر الثلاثة 1973 ـ 1976ـ 1978 لم أُصب بمحنة السجن المغلق، كما أصيبوا، وإن أصبت ببلايا سجن العُمرالمفتوح بكل عنوته وإكراهاته، التتويه الروحي، والتعطيل المعرفي، وإعاقة اهتمامات القراءة والكتابة، والتنكيل في العمل، وإبهاظ التجنيد والعسكرة، والتفقير بل التجويع المصطنع بدعاوى الاشتراكية والعدالة. ومع هذا ظل السجن “الخُواف” الذي لازمني، كون أصدقائي ورفاق اهتمامات روحي وعقلي قابعين فيه، وإحساسي الدائم بأنى رغم صُدف القدر التي أنجتني قد أكون يوما قابعاً لاحول لي ولاقوة فيه مثلهم، منخرطا معهم في عقلانية السجن اليومي، التي قصّفت أجنحة الخيال، والشعر، واكتظاظات روح الشاعر الفقيه الذي كانت الكتابة في شعره، وشعريات قصّ الككلي والزنتاني، ومنبئات أبوكليب، وعوداً قادمة لمستقبليات كتابة تُلهمها مواهبهم في واعدين قادمين.
المشروع النقدي الذي هيئتُ له نفسي بجماعها معرفة، وحساسيات، وتواصلات إنسانية في اختبارات الجيل الأدبي “السبعيني” بسبب عائق السجن وخوافه تعثر وارتبك في أن يربط بجسر معرفة بين تجربة تم تغييبها لعقد من الزمان، وتجربة فقدت البوصلة التي تعينها على استشراف كتابة لاترهقها القطيعات، والعتبات والالتباسات. وحتى أتواصل مع تجربة ما قبل عقلانية السجن كتبت بحثي في “الحميميات المُركّبة” في شعرية الفقيه مبتدئا مما توقّفت فيه في قرائتين سابقتين خصّت الأولى نهضوية أحمد الشارف في مبحث “شعرية الهواجس ـ الارتيابات” وخصت الثانية “غنائية وجدان المدينة” ومهدّداته في شاعرية علي الرقيعي. وفي قراءة الفقيه صالح وبعدها قراءة عمر الككلي المرتجلة في مجموعته “صناعة محلية” حاولت القبض على شعرية كون الكتابة في سياق التحوّلات التي أسست لها المباحث البنيوية في الدرس الأدبي بالسؤال “كيف يكتب الكاتب؟” عن “الماذا” الذي يكتب عنه.
عقلانية يوميات السجن أعاقت شعرية محمّد الفقيه صالح في تكملة إبلاغ صوتها المضموم بالثنائية الغنائية للأنا التخييلي المفصوم بالأيروسي والكوني، وتمكنت بشكل مغاير من إعاقة ومضات قصصية معدودة في تحوّلات الخارج المجتمعي في تجربة مابعد السجن، في أن تنكفيء في شعرية قصّ عمر الككلي تحليلاً عقلانياً نابهاً ومخصباً لتجربة الكتابة في محن السجن وفي اقتراح مجال كتابة نادر في الكتابة العربية يمكن تسميته بـ “سجنيات” السجن.
اغتنمت عودتي المبكرة لليبيا بعد غياب طويل في 14.1.2012، بأن أتواصل مع تجربة الكتابة الليبية في “سجنيات” السجن في بواكيرها أشخاصاً، وتأريخاً، وحساسيات، وتجارب كتابة وتخييلا وأنتجت هذه العودة دراستين: مدوّنة السجن الليبية.. قراءة أولى في سرديات المثقف الليبي السجين” و”وصف السجن: وظيفة الوصف أدبا في إعادة إنتاج تجربة السجن الليبية”المنشورتين على التوالي بصحيفتي “ميادين” الورقية و “المسار” الورقية بتاريخ أغسطس عام 2012. الدراستان اشتغلتا بمنهجية التحقيب التاريخي في كتابة “المدونة السجنية”، والتوصيف الظاهراتي “الفنومينولجي” في كتابة “وقائعية المخيلة” السجنية، والاشتغال في الدراستين اعتمد مذكرات شاعرين من سجناء الرأي هما: كتاب “يوميات.. أتذكر” للسنوسي حبيب، و(مذكرات) في السجن والغربة، لـ: جمعة أحمد عتيقة، كان يمكن لهذا البحث أن يستمر مثرياً بالاشتغال على كتابات أخرى بدأت تُنشر لكتّاب هم سجناء رأي كـ: محمّد المُفتي،وعبد الفتّاح البشتي، وغيرهما. إلا أن هذا البحث توقّف بسبب اشتعال العنف في أحداث ماسمّي بفجر ليبيا خريف عام 2014 وهو ما اضطرنا للعودة مجدداً لمنفانا في المانيا، وترك كتبنا،أوراقنا، وجُذاذات مبعثرة كحياتنا من نُقول وتدوينات وأبحاث مكتملة وشبه مكتملة مرمية في سيارة على رصيف في بلاد يتغوّل فيها العنف والقتل والفوضى تقريباً إلى مالانهاية.
_______________
نشر بموقع ليبيا المستقبل