عرفته منذ صغري. إنه شاعر مرهف حساس، لا يقبل الظهور في المنتديات الثقافية، ولا في وسائل الإعلام المختلفة، يهرب من اللقاءات والمقابلات الأدبية، ويفضل الانزواء بعيداً عن الأضواء.
لم يُكتب عنه إلا القليل، لا يحب التحدث عن نفسه أو شعره، فهو يقطر أدباً وخجلاً وتواضعاً، عرفته في منتصف الستينيات.. يسكن كان حي الحطية، الذي نشأت فيه أنا الآخر، كنت ألمحه دائما عن بعد، يسير من الحطية إلى المدينة على قدميه كل صباح والكتب في يده، لم أكن أدري وقتها إلى أين يمضي؟ حتى وجدته صدفة، عندما دخلت المكتبة العامة فوجدته يجلس على الكرسي، كان موظفاً بها، يرتدي نظارة سميكة على عينيه الصغيرتين، ينهمك في القراءة، كان له الفضل في تعودي على القراءة والاطلاع، عندما صرف لي أول بطاقة إعارة من المكتبة، بعد أن تأكد له شغفي بالقراءة، وحرصي على الكتاب، كما أن له الفضل في تغيير اتجاهي من كتابة الشعر الحديث، إلى كتابة القصة القصيرة، عندما قدمت له مجموعة من قصائد الشعر الحر دونتها في كراسة صغيرة، وجعلت عنوانها «قصائدي إليها»، كنت قد نشرتها في بريد القراء ببعض المجلات وهي: بيروت المساء، والحوادث اللبنانية، والمجاهد الجزائرية، بعد اطلاعه عليها ردها إلي وهتف في وجهي: هذه مجرد خواطر وليست شعراً ولا تصلح، وإذا كنت تريد أن تصبح شاعراً عليك بحفظ أكثر من ألف بيت من الشعر العمودي المقفى وحفظ علم العروض والقوافي.
ولم أكن أعلم وقتها مدى اعتزازه بالقصيدة العمودية والشعر المقفى، وأن ما جاء به المحدثين في رأيه للشعر الحديث، من قصيدة النثر هو لا علاقة له بالشعر من قريب أو بعيد.
يتذكر هو في صباه أن أول ما قرأه واطلع عليه، كانت مكتبة كامل الكيلاني للأطفال، أما الإفصاح عن شعره فلا يرويه إلا للأصدقاء المقربين إليه، هو لا يحب النشر، تأثّر بالعقاد وقرأ له جميع مؤلفاته الأدبية والعبقريات. الكتاب رفيقه دائماً، يحرص عليه ويغلفه من عنده بغلاف خاص، هادئ بطبعه كان يقتدي في حياته ببيتين من الشعر يرددهما دائماً:
أكتب الشعر لنفسي لا لغيري وأغنيه على أوتار ذاتي
قد اتخذت الشعر خلاً أصطفيه ثقة أوليه إخلاص الثقات
في البداية يسرنا أن نعرّف به وبسيرته الذاتية، إنه الشاعر: أحمد مصطفى علي يوسف بواقعيقيص الورفلي، أبصر النور بمدينة طبرق سنة 1938م، خلف المسجد العتيق وسط المدينة.
وبعد أن اندلعت الحرب العالمية الثانية، انتقل مع أسرته كغيره من العائلات، إلى خارج المدينة بعيداً عن الحرب إلى زاوية المرصص غربي مدينة طبرق بحوالي 30 كيلومتر، واستقرت عائلته هناك، فدرس أحمد بو اقعيقيص في خيمة مع غيره من الطلاب، على يد المربي الراحل أحمد لياس، الذي أسس أول مدرسة ابتدائية في زاوية المرصص، كانت فصولها أولى تحضيري، ثانية تحضيري، وبعدها يدرس التلميذ المرحلة الابتدائية، وهي أولى ابتدائي، ثانية ابتدائي، ثالثة ابتدائي، ثم رابعة ابتدائي، وهي بمثابة الشهادة الابتدائية، قرأ بها الشاعر حتى سنة ثانية ابتدائي.
كان والد شاعرنا رحمه الله على صلة ببعض الأخوة العرب، المتواجدين بمدينة طبرق، وكان يجلب لولده منهم بعض المطبوعات الأدبية والشعرية، هو يتذكر عندما وقع بين يديه ديوان مجنون ليلى كيف حفظه عن ظهر قلب، وكذلك عندما تحصل على ديوان أبي الطيب المتنبي سر به كثيراً وحفظه، وتأثر به في شعره، ثم إنه يتذكر كيف راح يحفظ علم العروض ويطبقه على قصائد الشعراء، كما اطلع على أمهات الكتب في اللغة العربية.
ومع عودة سكان طبرق إلي منازلهم بالمدينة سنة 1948م، بعد الحرب العالمية الثانية، عاد احمد بواقعيقيص مع أسرته إلى حي الحطية، واستكمل دراسته بمدرسة المستشفى العسكري سابقا.
كان أستاذه في تلك المدرسة هو مصطفى عبد العزيز الطرابلسي، وكان خطه جميلاً، فهو الذي قام بخط وتسمية شوارع مدينة طبرق لأول مرة، في تلك الفترة كان المنهج السائد الذي يدرس هو المنهج المصري، وامتحن للشهادة الابتدائية في مدينة درنة، وبعد أن أكمل المرحلة الابتدائية انتقل إلى مدرسة سوسة الداخلية، ودرس بها الصف الأول أعدادي، ثم انتقل بنغازي إلى مدرسة توريللي القسم الداخلي سنة 1957م، ودرس بها الصف الثاني الإعدادي، وبعد أن أعلن عن مسابقة للتدريس، اشترك فيها احمد بواقعيقيص، واجتازها بنجاح بعد ذلك عين مدرساً للغة العربية بمنطقة أمساعد الحدودية، ومكث بها ثلاث سنوات، كان الكتاب خير صديق وجليس له هناك.
وهو يتذكر أول قصيدة شعرية له كانت باكورة قصائده كانت سنة 1958 م بعنوان «نجمه الأثير» يقول في مطلعها:
هجع النيام وفكري شــــــــريدٌ وبقيت وحدي ساهراً بين الرقودِ
مستطلعاً نجماً لأسأله المزيدَ في أن يقص على لاواء الوجودِ
وفي سنة 1962م انتقل إلي مدينة طبرق للتدريس بمدرسة المجد، والتي كانت من قبل مستشفى حبشي لمدة ثلاث سنوات، وكان مديرها حينذاك الأستاذ مفتاح شقلوف، وعندما طرحت فكرة إنشاء مكتبة بمدينة طبرق تتبع المعارف، كان أول من التحق للوظيفة بها وتحصل على دورة في علم المكتبات والفهرسة.
واختاره مديرها محمد عبدالغفار الحبوني سنة 1965م موظفاً معه بالمكتبة، فبدأ في تنظيم المكتبة وفهرستها وتصنيفها، وبعد سنوات وصل مدير المكتبة إلى سن التقاعد، فأصبح أحمد بواقعيقيص مديراً لها، وكان مخلصاً في عمله بالمكتبة، يواظب على فتحها في مواعيدها، لا يبخل ولا يتوانى عن مساعدة أي طالب علم، بإرشاده ونصحه واختيار الكتب الملائمة لطبيعة تخصصه، وازدادت ملكة الشعر عنده بعد حادثة إعدام صديقه أحمد الطيب بن سعود، من قبل النظام سنة 1977م شنقاً، فيما عرف بالسابع من ابريل، والذي عمل معه في حقل التدريس بمنطقة مساعد، وكان صديقاً له مثقفاً ومهذباً، وخطاطاً يشبهه في إتقان ملكة الخط العربي، والتعلق بسماع أغاني كوب الشرق أم كلثوم، فقال فيه قصيدة يرثيه فيها، ثم توالت قصائده في الرثاء والتأمل ووصف الأيام الخوالي والقصائد الدينية.
ودوّن قصائده على صفحات مذكراته وكراساته.. وتمضي السنوات بشاعرنا ويحال على المعاش ويتقاعد، ويتخطى السبعين ولكن لا يفارقه الكتاب دائماً جليسه ورفيقه.
كتب عنه الكاتب والصحفي عوض الشاعري (أحمد بواقعيقيص هو صاحب تجربة متفردة في عالم الشعر العمودي والمقفى وبالرغم من تواضعه الجم واحتجابه عن النشر أكثر من أربعين سنة، إلا أن أشعاره تربو على خمسة دواوين، وهي في رأي تنافس عيون الشعر العربي جودة..
كما أنه الأب الروحي لمعظم أدباء البطنان (طبرق)، لما له من عظيم الأثر في تجاربهم الإبداعية، من خلال إرشاداته ونصائحه، ورعايته جلّ المواهب التي كانت تتلمس طريقها نحو الإبداع).
وبالرغم من قصائده الكثيرة إلا أننا لم نستطع الحصول إلا على النزر القليل منها، والذي لا يساعد على تكوين دراسة أو رؤية عامة عن شعر أحمد بو اقعيقيص واتجاهاته.
له قصيدة جميلة يعود فيها إلى ذكريات عام من الدراسة في مدينة سوسة، أيام الزمن الجميل سنة 1953م، تلك المدينة الجميلة المطلة على البحر والواقعة في ظل الجبل، والزاخرة بكنوز الطبيعة الساحرة والآثار الرائعة يقول في مطلعها:
تذكرته عاماً بسوسة حالما بعهدِ صباً ولّى وهل كنت ناسيا
ليالي كان القلب هيماناً واثباً بأحلامه جذلاناً وبالعيش راضيا
تهدهدني الآمال وهي كثيرة فأغرق فيها ناعم البال غافيا
وفي رثاء صديقه والذي كانت تربطه به علاقة صداقة وطيدة خليل علي طاطاناكي يقول الشاعر:
خليلُ كنت لي نعم الخليل بمكيالين قلبك لا يكيل
فما عرف النفاق له طريقاً إليه زانه الحب الأصيل
ومثلك نادر في الود قلّ وأهل الود في الدنيا قليل
كما أن له العديد من القصائد الدينية من بينها أجوزة في سور القرآن وقصيدة في مدح المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وللشاعر العديد من المراسلات مع الشعراء من أمثال الشاعر محمد عبدالله المحجوب والشاعرة السورية هند هارون وغيرهما.
ومع اندلاع ثورة 17 فبراير 2017م، وظهور علم الاستقلال بألوانه الثلاثة وقف يشاهده، وقد تهللت أساريره وشعر بالغبطة والسعادة ومدح شاعرنا العلم في قصيدة يقول في مطلعها:
حييت ياعلم البلاد فمرحبــــــا بك عائدا أحييت ألف مرحبا
كم سر مشهدك القلوب وهزها طربا بعودك للديار مرجبا
كما كتب عنه الصحفي خالد محمود:
(كتب شاعرنا ابو قعيقيص عشرات القصائد والخواطر فكتب لليل والبحر والخريف يصف هذا النوع من الكتابة بأنها الكتابة اللحظية التي تمثل الفعل ورد الفعل وانعكاسات للحوار الداخلي مع النفس).
من قصائده الدينية قصيدة في مدح المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم يقول في أبيات منها:
ويشفع لي لديك حـــــب يقود القلب نحوك مستهاما
وحبك يا ابن آمنة نجـــــاة غداة الحشر ان نهضوا قياما
عليك صلاة ربك كل حين إلى أن يبلغ الأجل التماما
______________________
نشر بموقع المستقل