عبثاّ أحاول التحايل على هذا التقويم الذي يرهق ذاكرتي ويعذبني بالحنين وبالإشارة إلى ذلك الزمن الذي مضى بعيداً.
أعود فأقول مسافة البحر الأبيض العجوز تضعك في منأى عن جنوني سيد اللحظات.. ورغم ما حدث بيننا سأظل.. وسأبقى رغم كل شي أكتبك وأتبعك نحو حتفي حافية من كل شيء… وأدس حبك بين ثنايا سطر بائس.. نائح.. حنون.. مليء بآهاتي.. ونداءاتي وحاجتي إليك.. أتفرسه كل صباح بحنق وجنون وألعنه وألعن سهوك وغفلتك وغربتك الطويلة عني وعن وطني.. عن ليبيا.. عن البيضاء.. عن بنغازي.. عن الزاوية.. عن مصراتة عن الجنوب الغالي.. لست رجلاً افتراضياً يأتيني عبر موجات أو أسلاك الكهرباء… ولكنك حقيقتي الوحيدة.. يقيني الصادق.. ورهاني ومكسبي الوحيد من الحياة.. لحظاتك الوحيدة الصادقة المسروقة غصباً عن المجتمع وعن منظومته الأخلاقية هي الشيء الوحيد الذي يملأ ذاكرتي ويؤثث لي حياة صافية حقيقية سعيدة.. بعيدة عن زيف المجتمع وفرضياته.. كنا نلتقي.. كانتْ تحتوينا الكلمات المشفرة التي نتراشق بها عن بعد عبر فضـاء الإنترنيت الافتراضي.. وعبر عالم خيالي بحت كانت تأتيني نداءاتك العميقة من الشمال عبر البحر المتوسط العجوز وأكاد أموت من البرد ومن الحب ومن الحنين إليك.. نداءات تحثني على ممارسة فعل شنيع أسمه الكتابة وأخر أكثر بشاعة أسمه الحب.. تكاد كلماتي تتلفظ بك.. تنطقك.. تنضح بك.. تيهاً ووجداً.. جنوناً وحباً.. كنا نلتقي…
التقينا… كنا نفصل اللحظات ببراعة على مقاس ارتفاع حلمنا الافتراضي اللذيذ.. تلك الليلة سألتني عن أحداث بنغازي.. وعن الشرق الليبي وعن عبد السلام المسماري.. لكنني لا أعرف عبد السلام المسماري معرفة شخصية.. وأعرف الشرق الليبي كل المعرفة.. تحدثنا كثيراً تلك الجمعة الحزينة.. وكانت أخبار الاغتيالات الأخيرة في بنغازي هي كل ما يشغلك تلك الجمعة الحزينة.. أكاد أحس رجفة أناملك وهي تتحسس أزرار حاسوبك الشخصي وأنت ترسل كلماتك الإلكترونية المرتعشة إلى وأنا الممتلئة بك.. وبلحظاتك الصادقة الحزينة ولهفتك لتسقط أخبار الوطن الجريح.. كنتَ تهذي عبر الفضاء الافتراضي.. وتصرخ بإلم.. الحسرة تملأ كل الكلمات التي تصلني منك مبللة بالدموع والخيبة والفجيعة…
قتل واغتيالات.. ذبح وتهجير.. سرقة.. ونهب وسفك دماء في وطني؟
كنت جريحاً.. يائساً.. أنينك القلق المرتجف المنبعث من روحك النائحة يأتيني واضحاً.. نبراته التي تكاد تخنقه يتردد صداها في صدري.. تخنقني عبر أسلاك “سماعات الكمبيوتر” وعبر “السكايب”.. ووجدتني أتحسس شاشة حاسوبي الصغيرة.. أجوس خلال ملامحك الغالية لأمسح دمعتك النفيسة… أصابعي تتخلل شعرك.. والتلاشي في موجات روحية وجدانية.. أفتش قلبك وأنبش ذاكرتك.. والغوص في روحك بجنون.. العبث برعونة.. واستخدام الكلمات بيننا دون تبصر.. لم تكن هناك حدود تمنعنا من اللقاء .. ولا حواجز تقف ضد تدفق أحدانا في الأخر والذوبان المطلق فيه.. نتوغل أكثر.. نسافر.. نبتعد.. تغرق في شيء مبهم.. وأغوص في شي جميل غامض.. فجأة تنتفض.. تستعيد مني كل ملامحك وصوتك.. وحضورك.. عطرك.. أنينك.. ألمك.. بوحك وهمسك… وشوشاتك الحنون لتلقي بسؤال ساذج ينقذك مني:
– شنو أمور البيضاء؟
أحاول استعادة نفسي.. قلبي يذهب عقله المجنون بعيداً.. فيخط الكلمات بنزق .. ينزف بشدة دماً أزرق على الورق ينتابه الإعياء من كثرة التفكير المضني في قهر ضعفي وانكساري أمام تسكع طيفك في مجاهل الروح… وتشرده خلف أزقة غائرة في القلب.. وتوغله بين منعطفات عميقة في دهاليز الذاكرة.. وأنا المتأرجحة على حافة حمى حبك…ينتفض جسدي… يرتعش يترنح بين المرض بك والعافية أهذي.. هل بالإمكان استعادة نفسي منك لأتحدث لك عن وطن..؟
– شنو أمور البيضاء؟
أحدث سؤاله زلزالاً عنيفاً هزني من الأعماق وقذف بي بعيداُ خارج الحلم الوردي الرائع.. وأيقظني بقوة.. ليرمي بي.. يحرمني من فضائه الشاسع.. ويضرب لي موعداً مع مدينة… وأي مدينة.. أنها البيضاء.. مدينة الروح وعشق الذاكرة الأبدي.. إلى مدينتي حيث مسقط رأسي يردني سيد اللحظات يجعلني أقطع البحر المتوسط العجوز وأسافر عبر الانترنيت من مدينة “نوتينجهام” شرق بريطانيا.. من سهوب غابة شيرود ينتزعني بقسوة من عوالم أسطورة روبن هود…
ويعيدني إلى الواقع بسؤاله المباغت:
– شنو أمور البيضاء؟
تتزاحم الجمل في ذهني.. وتتساقط الكلمات أمام شاشة حاسوبي وأمام ابتسامتك الطاغية على كل شيء.. ماذا أكتب لك عن مدينتي؟
______________________
* جزء من مخطوط “ذائقة الغياب والغربة”.