مقطع من رواية
حين وصل الكورنيش، كانت الأمطار قد بدأت بالتساقط على هيئة زخات ريشية منفوشة. تهطل بخفة ممتزجة مع رذاذ الصاعد للأمواج ، فتحمل الرياح المزيج، لتصطدم بجدران المتأكلة لمبنى محكمة الشمال أثناء وقفتها العتيدة في مواجهة الأبيض المتوسط. الشمس لم تكن قد غربتْ بعد، بل بدأت الاشراق مئات المرات في أعماق قطرات المطر. بدا له هذا المشهد رائعاً، كأنه يستعيد قصص طفولته، من فم والده.
رفع رأسه إلى الغيوم الداكنة بكميات المياه إنما حوافها بدت مشعة. رأى الخيوط المضيئة تنساب بمحاذاتها منسكبة على سطح البحر، في سيوف لامعة، ليتحول قصديرياً مضطرباً. راقبه للحظات تبدل خلالها السطح للأحمر المتبدد، متوهجاً بالشفق. لطالما أعجب بهذا المنظر، مثل لوحة لشاعر أوروبي متعاطف، يغزوه الجنون. شاعر يسكنه كالحلم، كالطموح، كإحساس تعبيري، يعجزه. لم يستسلم له قط، عاناه طوال أشهر، دون كل جزء منه، حتى مليء دفاتره به.
ذكرياته، أجزاء صور.
مثبتة في دفتر يومياته، تخطيطات، رسومات، توجيهات لضبط الاضاءة، لا شيء في الكورنيش يتوه عنه. جمع على مهل، كطير يبني عشه، الأفكار والمشاهد والظلال، كما تُجمع الأغصان المتساقطة في الغابة.
هو يقارب الثلاثين، فيه لمحة طفولية، خادعة، أصابعه ترتجف كلما تذكر نفسه. كمخلوق فضائي يضع على جسده جلداً بشرياً، فيما هو وجد هنا بالمصادفة، ككل شيء آخر، في احدى صفحات يومياته كتب بأنها مصادفة كبيرة. وقد عاش لسنوات يحاول أن يرسم تلك المصادفة، عبثاً، إنها اللوحة الأكثر تأثيراً في حياته، يراها في نتف من أحلامه، تظهر فجأة ضمن احدى الأحلام، كالزخات الريشية الممتزجة مع رذاذ الأمواج.
وقف عند المادة الاسمنتية، تطلع للأفق المضيء، عدة سفن راسية بتتابع، زاد عددها عن يوم أمس بباخرتين، بدتا جانحتين في عرض البحر. أخرج دفتره ودون بخبرة السنين، عن باخرتين جنحتا عند الأفق. كان البرد يعبر سريعاً، والكورنيش شبه خالي، إلا من بعض الرواد فتاة تكنس بهدوء، شاب يقلب كيساً، رجل مع زوجته وثلاثة أطفال يغادرون، سيل المتدفق للسيارات المارة. تساءل هل آتى مبكراً أم متأخراً؟!
المواعيد بالنسبة له دوماً مربكة.
في تلك اللحظة بالذات انتبه لصوت المسن. التفت فوجده كانا على مسافة قريبة، يحرك يده في الهواء البارد. كان يرتجف من البرد هو الآخر، أسنانه تصطك كطفل.
” أليس هذا الجو متعباً عليك؟ “.
” لا تكن غبياً، كل شيء متعب بالنسبة لي “.
” لكن هذا الجو … “.
” قلت لك لا تهتم، أجلس “.
رتب جلسته بهدوء، وهو ينظر لرفيقه المسن، وجهه المتقلص من البرد، عينيه الجافتين، كثمرتي كيوي، غائبتين، النتف التائهة من الشعيرات على وجهه، كشخص لم يحلق ذقنه منذ أسبوع، ملابسه الرثة جعلته أشبه بزاهد من عصر وسيط.
” ظننتك لن تأتي “.
” ليس لدي شيء أفعله “.
” أعرف “.
” نعم، أنت تعرف كل شيء “.
” لا، ليس كل شيء، لقد غبت لخمس سنوات دون أن أعرف عنك شيئاً “.
” يدهشني هذا، ظننتك أنت من غاب “.
ضحك المسن بصوت يرتجف، لم أعرف إن كان من البرد أم من كبر العمر، لكنه قال –
” قضيت سنتين في تونس، لدى مشاكل في العمود الفقري، ثم أصبحت أراجع كل شهرين “.
” مرهق هذا “.
” نعم، خصوصاً وإنني لا أقدر على البقاء في مكان واحد “.
” لكنك فعلتْ على مدى هذه السنوات “.
” أستغرب لهذا، ألا تشعر بالبرد؟ “.
” لا، لكنك لا بد أنك تشعر “.
” لا تهتم، أستغرب من عدم قدرتي على تجاوز نفسي “.
” كيف ذلك؟ “.
” أحياناً أظنني أعيش حياة أشخاص آخرين، ليسوا أنا، لذا لا استغرب عدم قدرتي على احتمال دفقات البرد مثلا، أو عدم رغبتي في أكل اللحوم المشوية، بالرغم من إنني اشتهيها “.
” أنت تجهد نفسك، بوسعي رؤية هذا “.
” لا، كل شيء حولي يجهد نفسه، أنا تجاوزت السبعين، لا أمتلك فرصة “.
” لا أحد يعرف “.
” بالأمس قتلوا أحد أصدقائي، أتصدق قتلوه لأنه من الاستخبارات؟ “.
” ماذا في الأمر؟ “.
كانت الاغتيالات تجتاح المدينة، لم يكن الأمر مستغرباً لأحد، الجميع كانوا يعرفون وحشية ما يحدث على الأرض، في السابق وحتى الآن، يعرفون بأن الحكاية ليست مجرد لحظة تجرد أو توبة أو حتى رغبة في العيش بسلام، بل جزء مما يحدث يكمن في الذاكرة التي لا تستطيع أن تتحرر، لا تستطيع أن تغفر أو تسامح، أمر فوق طاقة البشر.
قال المسن بإيمان وصدق –
” انتقموا منه بتهمة التعذيب، هذا الرجل كان الوحيد الذي يرفض جلسات التعذيب ضمن المؤسسة كلها، أن يقتل بتهمة كهذه، بدا لي الأمر مجهداً “.
عندها تذكر الشاب بأن المسن أيضاً من الاستخبارات، تذكر الأمر كالصاعقة. فأخذ يحدق إليه، لم يعد مجرد عجوز مسالم، بل أمراً اشبه بحدث مقيت ماثل أمامه، لكنه لا يكرهه، تذكر نتفاً من حكايته عن نفسه سنة 2007 في أول لقائهما ببعضهما على متن احدى حافلات الربع. بدا وقتها أكثر متانة، يحوي ايماناً غريباً بنفسه، وقد بدأ يتهاوى.
قال عن نفسه –
” أنا رجل ينتقم من نفسه “.
نعم تذكر الأمر كما يتذكر حكايات طفولته، كتبه في احدى دفاتره، من بين زخات البرد والمطر، حدق في الرجل المسن، رأى في وجهه جزء من لوحته الشخصية، فتذكر عشرات اللحظات عن ماضيه، في تلك الجلسة عرف بأنه يمتلك مفتاحاً ليدخل لعمق معضلاته الابداعية.
قال المسن بصوت حزين، كعادته –
” قتلوه بسبعة عشرة رصاصة، حين خرج من المسجد، أتصدق بأنه كان يكبرني بخمس سنوات؟ “.
كان اشبه بشخص يهذي، ويرتجف كطفل، لم أتوقع أن أجده هكذا، ابتسم في وجهي، ابتسامة سرعان ما تلاشت، لتحل محلها، تقلصات بشعة، لوجه مزرق من البرد، كتفيه منحنيتين، عنقه المعروق مترهل ببشاعة، كما أن تلك الأوشام الصليبية على يديه ظهرت قليلاً، بالرغم محاولاته لدسهما في جيب معطفه الرث الحائل، الغير متوافق معه، بدا كمتسول متحرر.
قال مضيفاً –
” لا أعرف أيهما أفضل الموت بالرصاص أم بالتفجير؟ ” ضحك بتوتر ثم سألني – ” ما رأيك أيهما تفضل؟ “.
قلت عندها براحة غريبة –
” لا أعتقد بأني أريد الموت “.
كنت أكذبْ، فقط لأني رغبتُ في ذلك.
” نعم، أنت محق، أنت لن ترغب، لكن لو خيروك بأسلوب لقتلي ماذا تختار؟ “.
” أليس هذا مضحكا؟ “.
” أتراه مضحكاً؟ “.
” لا أحد يختار موت شخص آخر “.
عندها ضحك بصوت عالي، بشع، كصوت ليس منه قال بعدها –
” لأنك لا تعرف “.
بدا في وجهه نظرة غريبة، متواطئة، ازدادت، تواطئاً مع مخاوفي حين قال –
” بل يوجد، لكنك لا تعرف، كالكثيرين، هنا “.
في تلك اللحظة لم يكن هناك سوانا وفتاة تواصل الكنس، لكنه لم يرى لأنه لم يعد قادراً على الالتفات بسبب تقلصات البرد. لكنه بدا مرحاً حين اضاف –
” كثيرون اختاروا موت أصدقائهم، أتصدق أن هناك من يختار أبشع الطرق؟ أعني ابشع ما يمكن أن تتصوره “.
واصلتُ الصمت محدقاً في البحر، الذي بدأ يغرق في ظلمة كثيفة، فيما أخذت السفن الراسية عند الأفق تشع كالقصور التائهة، سمعتُ زعيق نورس أحمق بالقرب مني، لا بد بأنه تاه عن السرب كأكثر ما يحدث حولي، عندها قال المسن –
” في تسعينيات قبضنا على مجموعة من ثلاث أشخاص، قلنا لهم بوضوح – أمام واحد منكم فرصة للنجاة، كنا وقتها نحارب الاسلاميين، قاتلناهم بشراسة، المهم قلنا للثلاثة اتفقوا على قتل واحد منكم لنترك الباقيين يعيشان. عندها بدوا مندهشين، كأننا أطلقنا مزحة، تلكئوا للحظات، ثم قمتُ بسحب سلاحي وأفرغتُ عدة إطلاقات في رأس أكبرهم، تراجعتُ لمكاني ثم وجهتُ حديثي لأصغر الباقيين وكنت واضحاً – لديكما دقيقتين ليقترح كل منكما أبشع طريقة لقتل الآخر، تذكرا بأننا سنستخدم الطريقة الأبشع. عندها بدئا بالبكاء، كانا في منتصف العشرينيات، بالرغم من أن أحدهما بدا اصغر منذ ذلك إلا إنه كان قريب من عمر الآخر يدعى عيسى لا زلتُ أذكره، لأنه اقترح الميتة الأكثر بشاعة، بصوت مرتجف أخبرنا – بأنه يجب أن نربط كل رجل من رجليه في سيارة وتتجه كل سيارة في اتجاه مغاير عن الأخرى، ببطء شديد. كان اقتراحاً بشعاً، لاقى اعجابنا، فيما اقترح الآخر أن نضع قنبلة يدوية عند كل طرف، وأن نفعل ذلك تباعاً مع كل طرف على حدة “.
كنتُ أستمع إليه بتقزز، لكنه لم يلتفت واصل حديثه –
” لكننا أعجبنا باقتراح الأصغر، فبدأ الصديق الآخر بالبكاء، سحبنا الأصغر ثم سألته عن كيفية معرفته لهكذا أمر، فقال بأنه قرأ الأمر في رواية لإبراهيم الكوني، وقتها لم أكن قد قرأت له شيئاً واستغربتُ أن تكون هذه الوصفة في احدى كتبه، المهم علقنا الأصغر بين سيارتين، وللحظات قمنا بشقه نصفين، وقمنا بوضع قنبلة عند كل طرف من أطراف الثاني وفجرناها، وظللنا نفعل ذلك حتى غدا جسداً بلا أطراف، غير قادر حتى على الصراخ، وضعنا له واحدة عند عنقه، لحظات انتهينا من كل شيء “.
كنت أحدق فيه باستغراب حين قال –
” إنها قصة حقيقية “. كان يقلد كما فهمتْ آل باتشينو في العراب. أضاف بعدها قائلا ازاء صمتي المتجلد – ” لذا كان يجب أن أقتل أنا بدل ذاك المسكين “.
طاف صمتهما مع صوت الأمواج المتكسرة على الرصيف الصخري. محركات السيارات
والأصوات البعيدة القادمة من ساحة التحرير. بعض الشبان يرفعون صوت موسيقى الراب، في سيارة عابرة، كتب على زجاجها الخلفي –
” لا أحد سياسي “.
ضحك المسن وقال –
” لا أظنني أحتمل هذه الجلسة، هل ستأتي معي؟ “.
” أين؟ “.
” فندقي “.
قال وهو يجمع شتات نفسه ليقف، امتدت قامته عالياً، ثم انحنى في اللحظة التالية، كقائد منكسر طقطقت عظامه، هز رأسه، تطلع للشاب، الصامت كأنه يلغي اشياء من حياته. وقبل ان يشرع في سؤاله عن الفندق، قال المسن بإسهاب –
” في هذه الأيام الحماسية أقطن فندقاً صغيراً. أدفع القليل، أكتب ، أحلم أتذكر، لا شيء. أظنني فقدتُ شخصيتي، دون علمي، فقدتُ شخصيتي. أحياناً أحاول التذكر، كيف كنت في الخمسينيات، انبجاس المياه من الأرض، الصفاء، وحدة عميقة مشاعر، بحثاً عني. لكني أتوه، الكثير من الأحلام، ذكريات حزينة تطوف في رأسي، حين أفتح عيني، أجد نفسي في فندق غريب عني، الأمر يريحني “.
بدا لشاب بأن المسن يهذي، لكنه قال مجاملاً –
” تبدو لي كشخص من الأحلام، هل تتألق؟ “.
ابتسم المسن وهو يتحرك قليلاً، قام الشاب معه، سارا بمحاذاة المادة الإسمنتية، وضع المسن يديه على كتفه قائلاً –
” في هذا العمر، كل لحظة هي التألق، نحن ملاحظون بشكل عرضي “.
بدا الاستغراب في لهجته حين قال –
” قبل سنوات ظننتك تحاول التلاشي بين الجموع. كنت أكثر تماسكاً – ثم متداركاً بلهجة أقل شدة أضاف – أعني كنتُ عدائياً، قليلاً “.
عندها تنهد المسن، تدفق البخار من فمه، كصهيل الخيول –
” لا تهتم، لا أشعر بالإهانة، ليس معك. لأنك محق، عشتُ عدائياً وبلا غاية. رغبتي في التلاشي، كانت يأساً بسبب العزلة. الآن لدى بعض القيمة. فأنا معد للاغتيال “.
سارا لمسافة بسيطة، خطواتهما تدوي على القرميد. خف المطر، فبدا الميناء ساحراً. صوت طرطشة الأمواج خفت، حين قطعا الطريق إلى الجهة الأخرى بمحاذاة المحكمة، تابعا بعض من تفاصيل البناء الخالي من الجمالية، فقط لامعان باهت.
في داخل كل منهما تاريخ وتساؤلات، مختلفين بالرغم ذلك. إنما آرائهما متشابهة. عرف هذا قبل خمس سنوات بالصدفة، أو كما ظن الشاب يومها مصادفة ثم اكتشف بأنها مصادفة جزئية. بعدها أعاد النظر في الكلمات، كما أعاد النظر في الحياة، ببطء.
________
هذا مطلع مخطوط رواية بنفس العنوان.