المقالة

شهوة التميز

ثمة، في هذا العالم، أشخاص تولدت لديهم، في فترة مبكرة من حياتهم، شهوة (وليس مجرد طموح) أن يكونوا أشخاصا مهمين وذوي شهرة ساطعة في بعض المجالات. وهي غالبا، مجالات تتعلق بالفكر والأدب، أو بالسياسة. لكن وضعهم الاجتماعي وظروف معاشهم كانت من الجبروت بحيث أعاقتهم عن تحقيق ولو القدر الأدنى من مُرضيات هذه الشهوة.

هناك حالات تمكن فيها بعض هؤلاء من إيجاد مسرب يتسللون منه، وسط ملابسات الظروف التي تكتنفهم، إلى موقع يشبع جموح هذه الشهوة، وغالبا ما يكون ذلك عن طريق الانقلابات العسكرية. فمعمر القذافي، مثلا، يبدو أنه كان مسكونا بشهوة أن يكون أديبا عظيما ومفكرا فيلسوفا يحل، مرة وإلى قيام الساعة، مشاكل البشرية، وزعيما ثوريا عالميا. وكان سبيله إلى إشباع شهوته هذه (حتى ولو كان يدرك في قرارة نفسه أنها لم تمكنه من إرواء عطشه إرواء كاملا) الاستيلاء على سدة الحكم في ليبيا.

وفر لنا عيشنا في السجن الالتقاء ببعض هذه النماذج ومقاسمتها ظروف وشؤون العيش اليومي المشترك والتعايش الإنساني.

أطرف هذه النماذج كان سجينا مصريا. وُضعنا، بداية اعتقالنا، في سجن “الجديدة” في جناح صغير من القسم المخصص لسجناء الرأي والسجناء السياسيين. كان عددنا ستة عشر شخصا. وكان قد سمح لنا، بعد فترة من المطالبات والمماطلات وبعد الإضراب عن الطعام عدة أيام، بتلقي كتب ومجلات عن طريق أسرنا في الزيارات. فتوفر لدينا قدر معقول من الكتب والمطبوعات. كان هذا الشخص يأتي إلينا بحجة جلب عربة الطعام، أو بسبب تسامح بعض الحراس معه، ويبقى معنا قليلا. كان يشتكي من أن السجناء الآخرين في بقية القسم ليسوا مثقفين وأنه لذلك يشعر بالغربة، ويتحين فرص القدوم إلينا والتحدث معنا لأننا مثقفون. كان يستعير منا كتابا أو كتابين ليقرأهما. بعد يومين أو ثلاثة يجلب معه الكتاب ويقول أنه قد قرأه وأعجب به ويطلب كتابا آخر. استمر هذا المنوال مدة إلى أن نقلنا من هذا الجناح الصغير ودمجنا مع باقي المجموعة. بعد مدة من هذا الاختلاط والتعامل اليومي المباشر تبين لنا أنه كان أميا بالكامل!

فهذا الشخص منعته ظروفه من دخول المدرسة والتعلم وانبثقت داخله شهوة أن يكون متعلما قادرا على قراءة الكتب على نحو يدخله في زمرة المثقفين، وربما الكتاب أيضا. وتصاعدت معه حدة هذه الشهوة بحيث أصبح يتخيل أنها متحققة ويريد إقناع الآخرين بها. أصبح يتعامل مع حلم اليقظة على أنه واقع، فلم يعد يعترف بكونه أميا أصلا، وحلت ذاته المتخيلة محل ذاته الواقعية (أو، على الأقل صارعتها مصارعة ضارية). إن حالته مثل حالة “الشيح حسني” في رواية إبراهيم أصلان “مالك الحزين” الذي يرفض الاعتراف بانعدام حاسة البصر لديه ويصر على التصرف باعباره شخصا مبصرا.

_____________

نشر بوقع بوابة الوسط

مقالات ذات علاقة

مفارقة الجد

عبدالرحمن جماعة

حرية التعبير.. أكذوبة باهظة الثمن

ميلاد عمر المزوغي

الحياة أمامنا وليست خلفنا

محمد دربي

اترك تعليق