سليمة بن نزهة
كباقة زهر بري ينثر عبد الرحمن جماعة الكاتب والقاص مقالاته حولنا؛ فتصيب أحدها العين وتقع الأخرى في القلب، وتستقر الثالثة على جرح عميق يسمى وطناً، وتستفز الرابعة الفكر فتستحوذ على بنات العقل، نغفو فيستدرجنا لضفاف المستحيل ليميط عنه غول الرهبة والتردد فيكتب مقال (الحلم ليؤكد أن الحلم ليس مرحلة من مراحل الحياة، وليس فترة من فترات العيش، بل هو الحياة نفسها، والعيش ذاته، والمراحل كلها).نعم؛ فكم من حي هو شبه ميت جسدا بلا روح، وهل الحياة إلا حلم لذيذ يمتد بنا ﻵخر مسارب العمر؟!.
ثم تجده يستنهض فينا روح الخلق والإبداع فيؤكد كل الاختراعات بدأت بحلم، وكل الإنجازات انطلقت من حلم،).. ونحن نتساءل: هل كانت الخليقة حلماً يراودنا قبل التفتح أصلا؟!، فيجيبنا: (إن الحلم يبدأ عند الكائن البشري منذ الولادة، عندما يلتقم الثدي فيحلم بالشبع، بل هو يبدأ قبل الولادة عندما يحلم بالخروج من رحم أمه)، ثم يواصل حديثه:(الحلم هو الوجود.. فكن حالماً وإلا… فسيبتلعك العدم!) ولا ينتهي الحلم أبدا. ومن الحلم ينقلنا وبسخرية لاذعة للواقع الذي يصرخ من بين ثنايا آهات المواطن الليبي البائس الذي أوصلته الأقدار إلى القاع بلعبة سمجة تسمى سياسة.
وفي نقلة مختلفة تماما في موطن آخر يكتب: (أكتب يا ولدي!) فيتجلى إبداع قلم رشيق مغموس في حبر القلوب القاني ليخط (إلى الذين لا يهمهم أمرنا.. ولا يعنيهم شأننا !، إلى كل المسؤولين الذين لا نقدر أن نسألهم!)، وكأن لسان حال المواطن يقول: (فبينهما برزخ لا يلتقيان)، وبكلمات تقطر مرارة تلامس روح القارئ المجروحة المثخنة بالألم يضيف: (إلى كل المتنازعين على قوتنا.. إلى المقتاتين على دمائنا.. إلى الذين يتراشقون في صراعهم بأجسادنا.. ويُشعلون نيرانهم بأرواحنا).. في هذه الأسطر الحقائق لا تتغير ولا تتبدل، لكنها تتعرى لتكشف مهارة الكاتب في انتقائه لمفردات أكثر بشاعة، وأكثر سفورا فيستدرك إلى الذين لم يذهبوا ولم يفروا.. لأنهم مصرِّون على البقاء حتى آخر قطرة زيتٍ في مصابيحنا!).
لكن وبانتهاء آخر قطرة زيت لا ينطفئ المصباح، بل ينبلج نور مختلف، بعيد كل البعد عن رتابة السياسة التي ملها القراء يجمع بين سلاسة النثر وموسيقى الشعر فينفض الغبار عن اللون الكلاسيكي للكتابة التقليدية وينظم من فسيفساء المفردات بين العامي والفصيح ما يشبع فضولنا الدائم لمطالعة لون جديد فتأتي الكلمات تباعاً (هل تعلمون ما هو الجنون، والحُمق، والسذاجة، والبلاهة، والعَتَه، والسَفَه، وقلة الحيلة، و(رقادة الريح)؟! إنه انتخابكم، وترشيحكم، الوثوق بكم.. واتباع كلامكم!!).
كل هذا الأنين موقع باسم ليبي!… فكأنما أراد أن يقول: إن كل ما في هذا الوطن ينتحب، الأرض والسماء، الحجر والبشر والطير والأنفاس، جميعها شريك في المعاناة.. ولأن الحلم ابن الخيال فإن الوهم شقيقه التوأم وقرينه الذي لا يفارقه تجمعهما اللذة المسكونة بنشوة السباحة بين الخيال والواقع، بين المنام واليقظة، بين الحقيقة والسراب هو ذاك التيه الذي لا قراره له.
فيكتب عبد الرحمن للوهم متغزلا (تكمن لذة الحياة في الوهم، فالحقائق غالباً ما تكون مؤلمة، وأتعس الناس هم الراكضون خلف الحقيقة) والحقيقة أننا في العادة نكتب عن الحقائق المجردة، عن تفاصيل حياتنا اليومية عن وجع القلوب، عن همومنا السياسية والدينية والاجتماعية، لكن أن نحاول إمساك ذرات الهواء فنجلسها على كرسي يقابلنا ونتحاور معها بتركيز فائق فإن الأمر يبدو ضرباً من وهم هو ذاك الوهم الذي يقول عنه كاتبنا: (فاللذة وهم، والجمال خدعة، والعدل كذبة، والصفاء هو العمى عن الكدر، أسعد اللحظات هي التي قضيتها مع سيجارتي، أقبِّل كعبها، فيشتعل رأسها وتلد دخاناً سرعان ما يختفي، تماماً كأحلامي!).
ألم أقل لكم إنه يقتنص تلك التفاصيل الصغيرة؟ تلك الهموم اليومية، والأحاديث المفعمة بالعفوية، المجردة من الانتقاءات الدقيقة والحسابات المعقدة، بذكاء حاد وروح مشرعة على العالمين وبنظرة ثاقبة، تخترقنا، تعيد تشكيل قراءتنا للمفردات من حولنا فيبادرنا بسؤال هو عنوان مقاله (سيارتك كم ماشية؟) تظهر هنا روح القاص فيروي (في جلسة اجتماعية كان الحاضرون يتداولون هذا السؤال..أما عن الإجابات.. فكانت صادمة كحوادث السير!
حبكة جميلة تتعانق فيها القصة بالمقال أو لعله المقال القصصي فيسترسل (بعضهم تحدث عن أرقام فلكية، فسيارة أحدهم قطعت مئة ألف كيلومتر، وتحدث آخر عن 400 ألف كيلومتر، أي ما يعادل عشر دورات كاملة على كوكب الأرض! وكان في المجلس شيخ متكئ فجلس، عقد إصبعيه السبابة والإبهام، فارداً الثلاث الأخريات، ثم قال: “وحق ربي – وما تحلفوا فيا – زمان عندي كرهبة وصلتها لـ 700 ألف كيلومتر”!).
بحرفية شديدة يحيك كاتبنا الأحرف المرصوفة بدقة متناهية وبتكثيف يبتعد عن المقال ليعانق القصة، ، فيضيف: (بعدما خرجت من ذلك المجلس وركبت سيارتي تفاجأت بأن عداد سيارتي قد تجاوز الـ 100 ألف! وبحسبة بسيطة، وباعتباري قليل السفر، وأن أغلب هذه المسافة قد قطعتها داخل المدن، أي بمتوسط سرعة 40 كم/س، فإن الفترة التي قضيتها خلف المقود تساوي 2500 ساعة، أي ما يكفي لقراءة أربعين كتاباً، أو لكتابة رسالة دكتوراة، أو لغرس 3766 نخلة من نوع (الدقلة).!
تتوالى الومضات في مقالات عبد الرحمن جماعة ولعل أروعها هذه اﻻلتقاطات الجميلة التي لا تخطر على بال كاتب اعتيادي. فذاك المسكون بالوطن، المعجون بماء الإبداع يدخل لهجته المحلية في مفردات مقالته، ولا شيء أصدق من أن نصرخ بلا رياء، ونهطل بلا موعد مسبق لغيث الروح، فبعفوية ينساب مقال بعنوان (الحياة في شدق والموت في شدق.. كلمة يقولها الليبي عندما يفرح في زمن الحزن، وعندما يضحك في وقت البكاء، هنا.. يُوجد إنسان بائس يستغفر الله إذا ضحك من قلبه وبكلا شدقيه).. يالسخرية القدر والوجع والكلمات! فالضحك خطيئة في حين أن تبسمك في وجه أخيك صدقة فأي تناقض ذاك الذي تفضحه هذه الكلمات فينا.
هي اقتناصات ذكية لكاتب محترف يصور تفاصيل حياتنا اليومية بريشة مختلفة فيؤكد أن (الحياة في شدق والموت في شدق.. لكنهما يلتقيان في فمٍ واحد، فم المواطن المنكوب، وحتى لا يختلط بالفرح دون حجاب، وحتى لا يُلامس الأمل بلا حائل، وحتى لا يُسافر إلى مستقبله بلا محارم ماضيه!!) إسقاط ذكي على حالة سياسية واجتماعية أثارت ضجة كبيرة منذ أيام… يا كم هذا الوجع الذي يجيد فيه عزف أغنية وحيدة ممزوجة بالعذبات والعذوبة عذابات صور واقعنا وعذوبة الكتابة الساحرة!
في المقالات القصصية للكاتب عبد الرحمن جماعة وهكذا تعمدت تسميتها لأنها تخرجنا من الإطار الكلاسيكي للمقال تتحد الصور تتلون تتشابك، فتطل علينا تفاصيل الحياة الاجتماعية بعين دارس متمكن، وتقلبات وأهواء النفس البشرية لخبير نفسي محنك، ولا يصلح غير كراكتير الكلمات للعبة السياسة المرهقة، وإن بدأت المقالات أو اﻻلتقاطات الأدبية للكاتب، قصيرة بعض الشيء إلا أنها ثاقبة، عميقة، صادقة، وقريبة من موسيقى الروح، رغم ذاك القلق النافر الذي يطل علينا بين الفينة والأخرى فيما يكتب. لست ناقدة ولا متخصصة وربما هي قراءتي الأولى التي جاءت انطباعية بحثة فرضها علي سحر الكتابة وسطوة القلم.
_____________
نشر بموقع ليبيا المستقبل