ترجم المركز القومي للترجمة (المصري) ما حرره (هنري هاردي) من فصول في تاريخ الأفكار، التي كتبها المؤرخ (إزيا برلن) في كتابه: ضلع الإنسانية الأعوج، والكتاب ترجمة الدكتور محمد زاهي المغيربي والدكتور نجيب الحصادى، ولا أعلم السبب الذي جعل المركز يقدم الدكتورين من دون صفتهما الأكاديمية، التي يحق لهما بجدارة أن تسبق اسميهما، لا لأنهما لم يشترياها، مثل الكثيرين، بل لأنهما قدما للمكتبة العربية العديد من الكتب، سوأ مؤلفة أو مترجمة، كتب تزخر بها المكتبات العربية ويشار إليها بالبنان، بمعارض الكتب الدولية.
فهذا الكتاب وجدته بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته لهذا (العام)! الكتاب أكاديمي، قد يصنف فلسفي سياسي، وقد يعتبر تأريخا لتميز القرنين: الثامن عشر ومطلع التاسع عشر، بطبيعة مرحلة انتقالية تعارضت فيها وجهات نظر بشكل حاد، انتجت شخصيات بارزة وإن كانت معقدة سيكولوجيا، لعل نابليون من ابرزها، مثلما يقول الفصل الذي يتحدث عن جوزيف دي ميستر وأصول الفاشية. والفصل في مجمله يتناول الصراع ما بين الموروث التقليدي وما حملته رياح التغيير التي عصفت بأوربا بعد قيام الثورة الفرنسية سنة 1789م، وبالطبع يصعب تلخيصه في عمود مضغوط، كعمودي هذا، خصوصا وانه أطول فصوله الثمانية (92 صفحة).
ما لفت انتباهي، بل وازعجني، هو رأيه بأن “البشر لا يمكن انقاذهم إلاّ بتطويقهم بإرهاب السلطة وإبادة أعداء الاستقرار”، وهم – كما يقول ميستر “الطائفة: المعوقون، المخربون، إلى جانب بضعة مذاهب مسيحية اختلفت من الكاثوليكية… الربويين والملحدين، الماسونيين، واليهود والعلماء والديمقراطيين، اليعقوبيين، الليبراليين، النفعيين، أعداء الأكليركية، و.. المحامين، الصحفيين، المصلحين العلمانيين والمثقفين …” ص.149.
ومع هذا الرأي العجيب، نجده يتحدث عن شخصية (الجلاد) في نص يعتبر -كما قالوا- من افضل ما كتب: “من هذا الكائن المتعذر تفسيره، الذي، في حين أن هناك العديد من المهن المقبولة، المريحة، النزيهة وحتى الشريفة للاختيار بينها، وليمارس الأنسان فيها مهاراته، أو قدراته، اختار تعذيب أو قتل نوعه؟ هذا الرأس، هذا القلب، هل هما مخلوقان مثل رؤوسنا وقلوبنا؟ أليس شيء ما فريد فيهما، وغريب عن طبيعتنا؟…”.
ثم يصف كيف يبعث القاضي لهذا الجلاد، فيأتي إليه لينفذ عقاب بالسحق او المحق بين جماهير متراصة تشاهد عملية التنفيذ البشعة، بعدما يرمي له القاضي بقطعة نقدية مكافأته عما قام به، ويعود إلي بيته مزهوا بهذا العمل الذي قول في فرارة نفسه إنه افضل من ينفذه “يعود إلى بيته، يجلس إلى منضدته، ويأكل. بعد ذلك يذهب إلى فراشه، ويخلد إلى النوم. في اليوم التالي، عندما يستيقظن يفكر في شيء مختلف تماما هما قام به في اليوم السابق. هل هو إنسان؟”. ثم يقول في فقرة أخرى: “ومع ذلك ، فإن الإنسان ولد لكي يحب. إنه عاطفي، وعادل، وصالح. إنه يسكب دموعه من أجل الآخرين، وهذه الدموع تمنحه سعادة وبهجة. غنه يخترع قصصا تجعله يبكي. من أين، إذن، هذه الرغبة الغاضبة المهتاجة للحرب والذبح؟ لماذا يغوص الإنسان في الهاوية، ويحتضن بعاطفة كل ما يلهمه مثل هذا الحق؟” ص.146.
والحقيقة أن هذا الفصل، الذي اقتبست منه ما ذكرت، هو من اكثر ما اهتممت به، لأنه يتحدث عن فترة زمنية ما بين نظامين أولهما كان محكوما بفكر صارم يرفض الرأي الآخر، والثاني أطاح بالأول، فانفجرت (مأسورة) أفكار متباينة، منها ما يشد الناس إلى الماضي، ومنها ما يدفعهم لاستشراف المستقبل، وسط حالة ضبابية كالتي نمر بها! والكتاب دسم يستحق القراءة، خصوصا لأولئك المهتمين بتاريخ الفكر الإنساني، ومقارنة طبائع الثورات!