وسط أجواء بهيجة واحتفائية وبعد طول ركود للشعر المُلقى في طرابلس أقيمت الأثنين الماضي بقاعة مجمع اللغة العربية أمسية شعرية حضرها لفيف من المثقفين والشعراء والمهتمين , ونظرا للأقبال والأزدحام اضطر بعض الحاضرين إلى متابعة الأمسية وقوفا , الأمسية التي نظمها وأشرف عليها مجموعة اصدقاء دار حسن الفقيه حسن خُصصت للشاعر عبدالحميد بطاو أحد شعراء مدينة درنة الزاهرة , وقبل أن يشرع الشاعر في إلقاء قصائده ونثر وروده قام الأستاذ رمضان سليم احد اصدقاء دار حسن الفقيه بتقديم الشاعر والتذكير بسيرته الأدبية التي امتدت منذ ستينيات القرن المنصرم وحتى الآن , حيث أصدر الشاعر مجموعة من الدواوين الشعرية وشارك في العديد من المؤتمرات والندوات والمهرجانات الشعرية داخل ليبيا وخارجها , وكتب عن تجربته المديدة العديد من المقالات النقدية وكذلك تناولت شعره بعض الدراسات الأكاديمية كانت آخرها دراستين عامي 2015 و 2016 تحت عناوين ” الشعر الثوري عند الشاعر المعاصر عبدالحميد بطاو ” و ” التجربة الشعرية وظواهرها الفنية في شعر عبدالحميد بطاو ” .
ويُذكر أيضا أن الشاعر الذي ولد عام 1942 كان رائدا من رواد كتابة المسرحية الشعرية في ليبيا وأحد المؤسسين لهذا الفن بكتابته لبعض المسرحيات التي تم إخراجها وعُرضت على المسارح .
الأستاذ أمين مازن بدوره لم يفوت فرصة وجود صديقه الشاعر الذي وصفه ب النبيل ليقدم له تحية خاصة وحميمية من خلال كلمته المقتضبة التي ألقاها وفيها لفت انتباه الحاضرين إلى ذكرى وفاة الشاعر علي الرقيعي التي توافق تاريخ إقامة الأمسية , أي يوم 23 – 11 – 2016 , تم أُعطيت المساحة كاملة وأخليَ المضمار للشاعر لكي يصول ويجو بأشعاره وليتحفنا بقصائده التي شدَّت الأنتباه ولم ننتبه إلى الشاعر الذي بدأ كلامه بتوجيه التحية لكل الحضور حتى وجدنا أنفسنا في خضم الشعر ودون مقدمات أنهى كلمته الترحيبية بالشعر , الشعر الذي أجاد الشاعر في هذه الأمسية إلقاء أكثره من الذاكرة مباشرة ودون الأستعانة بالأوراق المكتوبة أو الدواوين المطبوعة .
تلى علينا الشاعر بعد ذلك قصيدة من أنتاجه كان قد ألقاها بإحدى دورات مهرجان المربد الشعري في العراق التي حضرها وشارك فيها ممثلا لليبيا .
” أشجان هذا الزمان ” هو عنوان القصيدة التالية وعنوان أحد دواوين الشاعر في ذات الوقت قرأها علينا الشاعر وعبرها وبكثير من المرارة والحُرقة خاطب صديقه الذي أصيب بمرض السرطان ثم توفي بعد ذلك واختتمها بجملة , لماذا ليس هناك أمان ؟ التي كررها ثلاث مرات إمعانا في إظهار حزنه ومرارته لموت صديقه ولقسوة الزمن , وكوضوح شخصية الشاعر وكحضوره اللطيف والخفيف ومثل روحه المرحة كانت القصائد واضحة وخفيفة ولا غموض يكتنفها , محددة المعالم ظاهرة المعاني لطيفة الوقع تنضح بالموسيقى الإيقاع الهادئ دونما تصنع وبها الكثير من الدفء وصدق التجربة وحرارة الشعر لأنه الشاعر يكتب في الأغلب من منطلق الواقع والمحيط الذي يحيا به ويتفاعل مع متغيراته .
ومن جملة ما قرأ الشاعر قصيدة ” وصفة قديمة ” وسرد على مسامعنا باختصار القصة التي استدعت كتابتها والموقف الإنساني الذي فرضها , وشدة إلحاحها عليه بعد هذا الموقف الإنساني المؤثر حتى أنهُ كتبها على ورقة وصفة طبية كانت في درج السيارة وقت تخلق القصيدة ومداهمتها للشاعر على حين غرة ولم ينتظر العودة إلى البيت ليكتبها ويخطها بأحد دفاتره أو الأوراق المخصصة للكتابة الشعرية , فالشعر أيضا قد يكون دكتاتوريا أحيانا حين يفرض نسقه ويصدر أوامره التي يجب أن تطاع من قِبل الشاعر .
وللكثير من القصائد المقروءة في الأمسية مناسبة أو حدث أو قصة استدعت لحظة الكتابة حيث لم يتردد الشاعر في سرد قصة كل قصيدة من قصائده تلك .
ولأن الشاعر من مدينة درنة – وما أدراك ما درنة – كان لابد ان يكتب عن درنة وكان لا بد أن يقرأ علينا في هذه السانحة الشعرية ما كتب من تغزل في محبوبته التي ألهمته الشعر وسقته من ثديها حليبه فوضع لعينيها قصيدة رائعة تتغنى بجمالها الخلاب الذي لا يدركه إلا شاعر كشاعرنا ولا يفض أختامه ويكشف أسراره إلا شاعر وكان سيفعل ذلك مرغما وبناء على طلب الجمهور لو لم يضع في حسبانه قراءة هذه الرائعة الشعرية التي لاقت استحسان المتابعين إلى حد لومه على عدم التعجيل بقراءتها , والجميل في أمر هذه القصيدة التي زاوجت ما بين الفصحى والعامية هي القفلة التي كانت عبارة عن بيت شعر عامّي .
قرأ أو ألقى الشاعر بعد ذلك قصيدة ” كيمياء ” ثم وجه تحية شعرية عبقة لصديقه عبدالرحيم الكيب رئيس الوزراء الأسبق الذي حضر جزءً من الأمسية .
وفي الفواصل ما بين كل هذه القصائد العامرة بالمعنى , كان الشاعر يقول الشعر ويسرد بعض المواقف التي ما انفكت تعزز من حضوره اللطيف وتؤكد حس الدعابة والفكاهة لديه .
وعند الأنتهاء من القراءات الشعرية وكما هو محددا من قبل في خطة سير هذه الأمسية تم توجيه بعض الأسئلة المتعلقة بالتجربة الشعرية للشاعر من قِبل المحاور ومدير الجلسة الأستاذ رمضان سليم الذي سأل الشاعر عن تجربة السجن التي تعرض لها نتيجة موقف سياسي تبناه ومدى تأثيرها على شعره بالإجمال , وبأختصار أجاب الشاعر عن هذا السؤال ومن جمله ما قال أنه كان والشاعر محمد الشلطامي الذي التقى به داخل السجن كانا يقيمان أمسيات شعرية فترة اعتقالهما , وختم أجابته أيضا بالشعر .
وعن تأثره بالشعراء العرب السابقين له والمجايلين سأله المحاور عن علاقته الحميمية بشعر السياب الذي عشق شعره وتأثر به إلى الحد الذي جعله فيما بعد يطلق على أحد أبناءه اسم السياب ويقتفي أثر بعض قصائده ليكتب بوحي وإلهام منها ويذهب لزيارة تمثاله في البصرة ولكن لسوء حظه لم يجد التمثال في مكانه آنذاك لخضوعه لعملية ترميم وصيانة بعد سقوط دراعه ليعلق قائلا بعد خيبة الأمل تلك في رؤية أثر يتصل بالسياب الذي يكن له حبا عميقا ” يبدو أن سوء الحظ يرافق السياب ميتا كما رافقه حياً “.
وفي رده عن سؤال حول المسرح الشعري , عدَّدَ الشاعر أسباب تحوله في مرحلة من مراحل تجربته إلى كتابة وتعاطي المسرحية الشعرية ومحاولة مزج الحوار والسرد والشعر في نص واحد نظرا لإحساسه بمحدودية القصيدة وعدم تلبتها لطموحه الإبداعي وقصورها عن التعبير عما يريده وعما يموج بداخله من عواطف وانفعالات .
أحد الحاضرين وبعد إفساح المجال للأسئلة طلب من الشاعر إلقاء أحد نصوصه العامية فلم يتأخر الشاعر في تلبية هذا الطلب وتلى علينا قصيدة تنضح بالحكمة على عادة الشعر الشعبي الذي اشتهر بهذا النوع من النظم .
سالم فيتور أحد أصدقاء الشاعر القدامى تحدث من ناحيته عن ذكرياته مع صديقه الشاعر وعن الأعمال المسرحية التي جمعت بينهم .
الدكتور عبدالرحيم الكيب وفي كلمته القصيرة حيا الحاضرين وشكر صديقه الشاعر المحتفى به وأثنى على هذا الحراك الثقافي الذي يحاول أن يخفف من معاناة المواطن في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها الوطن .
” سأم . . سأم . . سأم ” , وعلى وقع , ” مطر . . مطر . . مطر ” للسياب , هي قصيدة عبدالحميد بطاو التي تلاها على الحاضرين ومن خلال أبياتها الجميلة طرح أسئلته الخاصة عن الوجود والحياة , لنصل اثر ذلك إلى قصيدة ” ذات روع ” وهي القصيدة الغزلية الوحيدة التي أستمعنا إلى صورها الجميلة وتعابيرها الرقيقة ومفرداتها الشفيفة , وكان لا بد من أن تكون جميلة ورقيقة ودافئة وشفيفة هذه القصيدة اليتيمة لأن موضوعها المرأة وهو الشيء الذي أجاد الشاعر كتابته ورسمه والأقتراب منه بالشعر .
تختزل قصيدة ” حين تكونين معي ” الما قبل أخيرة التي كُتِبت بمناسبة الذكرى الثلاثون لزواج الشاعر , مشاعر ثلاثون عاما من الحب والمودة والوفاء والإخلاص , ورغم أنها قصيدة خاصة كما قال كاتبها إلا أنها أصبحت عامة ما أن نُشِرت وتم تداولها ففي الشعر كما يبدو لا يوجد خاص وعام فكل شيء يقع تحت طائلة سلطته والشعراء هم الوحيدون من البشر الذين يسيرون بين الناس بمشاعر عارية , فكل من يقرأ لهم ويتفاعل مع شعرهم يعرف ميولهم ويدرك مشاعرهم وبالتالي يستطيع أن يتنبأ بسلوكهم ويتوقع ردات فعلهم تجاه مواقف معينة , ولا أسرار كثيرة في سيرة الشعراء .
وكتعبير عن عشقه لقصائد الشابي الشاعر التونسي الكبير قرأ علينا بطاو قصيدة مزج فيها ما بين شعره وشعر الشابي وضمَّنها بعض أبياته الشهيرة مثل , إذا الشعب يوما أراد الحياة \ فلابد أن يستجيب القدر , وكُتبت هذه القصيدة كما أوضح الشاعر في تونس وكما هو ظاهرا تحت تأثير حضور الشابي الطاغي في ذائقة شاعرنا ووجدانه الشعري المسكون بروائع الشعر , وكل هذه القصائد الأخيرة قُرأت وأُلقيت بناء على طلب الجمهور الذي تفاعل مع كل القصائد دون استثناء وأنصت للشعر حتى أخر بيت وجملة شعرية .
الأستاذ منصور أبو شناف توجه بكلمة احتفائية بالشاعر عقب ذلك , والدكتور عبد المولى البغدادي حيا الشاعر بكلمات رقيقة هو الأخر وكونه شاعر سرَّبَ بعضا من شعره داخل سياق الكلمة .
وفي كلمته الأخيرة قبل الإعلان عن نهاية الأمسية عبر الشاعر المحتفى به عن عمق سعادته ونشوته بلقاء الجمهور وشكر كل من أسهم في إقامة هذا المنشط الذي كانت طرابلس في حاجة ماسة إليه , وهو الشيء الذي أكدهُ وعزز من صدقيته الحضور الكثيف والجمهور الغفير المتعطش لأرتشاف عذوبة الشعر واستنشاق عبير الجمال .
المنشور السابق
المنشور التالي
مقالات ذات علاقة
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك